مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ٱلتَّـٰٓئِبُونَ ٱلۡعَٰبِدُونَ ٱلۡحَٰمِدُونَ ٱلسَّـٰٓئِحُونَ ٱلرَّـٰكِعُونَ ٱلسَّـٰجِدُونَ ٱلۡأٓمِرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡحَٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (112)

قوله تعالى : { التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين }

اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى أنه { اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } بين في هذه الآية أن أولئك المؤمنين هم الموصوفون بهذه الصفات التسعة . وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : في رفع قوله : { التائبون العابدون الحامدون السائحون } وجوه : الأول : أنه رفع على المدح ، والتقدير : هم التائبون ، يعني المؤمنين المذكورين في قوله : { اشترى من المؤمنين أنفسهم } هم التائبون . الثاني : قال الزجاج : لا يبعد أن يكون قوله : { التائبون } مبتدأ ، وخبره محذوف أي التائبون العابدون من أهل الجنة أيضا ، وإن لم يجاهدوا كقوله تعالى : { وكلا وعد الله الحسنى } وهذا وجه حسن . لأن على هذا التقدير يكون الوعد بالجنة حاصلا لجميع المؤمنين ، وإذا جعلنا قوله : { التائبون } تابعا لأول الكلام كان الوعد بالجنة حاصلا للمجاهدين . الثالث : { التائبون } مبتدأ أو رفع على البدل من الضمير في قوله : { يقاتلون } الرابع : قوله : { التائبون } مبتدأ ، وقوله : { العابدون } إلى آخر الآية خبر بعد خبر ، أي التائبون من الكفر على الحقيقة هم الجامعون لهذه الخصال . وقرأ أبي وعبد الله { التائبين } بالياء إلى قوله : { والحافظين } وفيه وجهان : أحدهما : أن يكون ذلك نصبا على المدح . الثاني : أن يكون جرا ، صفة للمؤمنين .

المسألة الثانية : في تفسير هذه الصفات التسعة .

فالصفة الأولى : قوله : { التائبون } قال ابن عباس رضي الله عنه : التائبون من الشرك . وقال الحسن : التائبون من الشرك والنفاق . وقال الأصوليون : التائبون من كل معصية ، وهذا أولى ، لأن التوبة قد تكون توبة من الكفر ، وقد تكون من المعصية . وقوله : { التائبون } صيغة عموم محلاة بالألف واللام ، فتتناول الكل فالتخصيص بالتوبة عن الكفر محض التحكم .

واعلم أنا بالغنا في شرح حقيقة التوبة في تفسير قوله تعالى في سورة البقرة : { فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه } .

واعلم أن التوبة إنما تحصل عند حصول أمور أربعة : أولها : احتراق القلب في الحال على صدور تلك المعصية عنه ، وثانيها : ندمه على ما مضى ، وثالثها : عزمه على الترك في المستقبل ، ورابعها : أن يكون الحامل له على هذه الأمور الثلاثة طلب رضوان الله تعالى وعبوديته ، فإن كان غرضه منها دفع مذمة الناس وتحصيل مدحهم أو سائر الأغراض ، فهو ليس من التائبين .

والصفة الثانية : قوله تعالى : { العابدون } قال ابن عباس رضي الله عنهما : الذين يرون عبادة الله واجبة عليهم . وقال المتكلمون هم الذين أتوا بالعبادة ، وهي عبارة عن الإتيان بفعل مشعر بتعظيم الله تعالى على أقصى الوجوه في التعظيم ، ولابن عباس رضي الله عنهما : أن يقول إن معرفة الله والإقرار بوجوب طاعته عمل من أعمال القلب ، وحصول الاسم في جانب الثبوت يكفي فيه حصول فرد من أفراد تلك الماهية . قال الحسن : { العابدون } هم الذين عبدوا الله في السراء والضراء . وقال قتادة : قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم .

الصفة الثالثة : قوله : { الحامدون } وهم الذين يقومون بحق شكر الله تعالى على نعمه دينا ودنيا ويجعلون إظهار ذلك عادة لهم ، وقد ذكرنا التسبيح والتهليل والتحميد صفة الذين كانوا يعبدون الله قبل خلق الدنيا ، وهم الملائكة ، لأنه تعالى أخبر أنهم قالوا قبل خلق آدم ونحن نسبح بحمدك ، وهو صفة الذين يعبدون الله بعد خراب الدنيا . لأنه تعالى أخبر عن أهل الجنة بأنهم يحمدون الله تعالى ، وهو { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } وهم المرادون بقوله : { والحامدون } .

الصفة الرابعة : قوله : { السائحون } وفيه أقوال :

القول الأول : قال عامة المفسرين هم الصائمون . وقال ابن عباس : كل ما ذكر في القرآن من السياحة ، فهو الصيام . وقال النبي عليه الصلاة والسلام : «سياحة أمتي الصيام » وعن الحسن : أن هذا صوم الفرض . وقيل هم الذين يديمون الصيام ، وفي المعنى الذي لأجله حسن تفسير السائح بالصائم ، وجهان : الأول : قال الأزهري : قيل للصائم سائح ، لأن الذي يسيح في الأرض متعبدا لا زاد معه ، كان ممسكا عن الأكل ، والصائم يمسك عن الأكل ، فلهذه المشابهة سمي الصائم سائحا . الثاني : أن أصل السياحة الاستمرار على الذهاب في الأرض كالماء الذي يسيح والصائم يستمر على فعل الطاعة ، وترك المشتهى ، وهو الأكل والشرب والوقاع ، وعندي فيه وجه آخر ، وهو أن الإنسان إذا امتنع من الأكل والشرب والوقاع وسد على نفسه أبواب الشهوات ، انفتحت عليه أبواب الحكمة ، وتجلت له أنوار عالم الجلال ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : «من أخلص لله أربعين صباحا ، ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه » فيصير من السائحين في عالم جلال الله المنتقلين من مقام إلى مقام ، ومن درجة إلى درجة ، فيحصل له سياحة في عالم الروحانيات .

والقول الثاني : أن المراد من السائحين طلاب العلم ينتقلون من بلد إلى بلد في طلب العلم ، وهو قول عكرمة ، وعن وهب بن منبه : كانت السياحة في بني إسرائيل ، وكان الرجل إذا ساح أربعين سنة رأى ما كان يرى السائحون قبله . فساح ولد بغي منهم أربعين سنة فلم ير شيئا ، فقال : يا رب ما ذنبي بأن أساءت أمي ، فعند ذلك أراه الله ما أرى السائحين وأقول للسياحة أثر عظيم في تكميل النفس لأنه يلقاه أنواع من الضر والبؤس ، فلا بد له من الصبر عليها ، وقد ينقطع زاده ، فيحتاج إلى التوكل على الله ، وقد يلقى أفاضل مختلفين ، فيستفيد من كل أحد فائدة مخصوصة ، وقد يلقى الأكابر من الناس ، فيستحقر نفسه في مقابلتهم ، وقد يصل إلى المرادات الكثيرة ، فينتفع بها وقد يشاهد اختلاف أحوال أهل الدنيا بسبب ما خلق الله تعالى في كل طرف من الأحوال الخاصة بهم فتقوى معرفته ، وبالجملة فالسياحة لها آثار قوية في الدين .

والقول الثالث : قال أبو مسلم : { السائحون } السائرون في الأرض ، وهو مأخوذ من السيح ، سيح الماء الجاري ، والمراد به من خرج مجاهدا مهاجرا ، وتقريره أنه تعالى حث المؤمنين في الآية الأولى على الجهاد ، ثم ذكر هذه الآية في بيان صفات المجاهدين ، فينبغي أن يكونوا موصوفين بمجموع هذه الصفات .

الصفة الخامسة والسادسة : قوله : { الراكعون الساجدون } والمراد منه إقامة الصلوات . قال القاضي : وإنما جعل ذكر الركوع والسجود كناية عن الصلاة لأن سائر أشكال المصلي موافق للعادة ، وهو قيامه وقعوده . والذي يخرج عن العادة في ذلك هو الركوع والسجود ، وبه يتبين الفضل بين المصلي وغيره ويمكن أن يقال : القيام أول مراتب التواضع لله تعالى والركوع وسطها والسجود غايتها . فخص الركوع والسجود بالذكر لدلالتهما على غاية التواضع والعبودية تنبيها على أن المقصود من الصلاة نهاية الخضوع والتعظيم .

الصفة السابعة والثامنة : قوله : { الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر } واعلم أن كتاب أحكام الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ؛ كتاب كبير مذكور في علم الأصول . فلا يمكن إيراده ههنا . وفيه إشارة إلى إيجاب الجهاد ، لأن رأس المعروف الإيمان بالله ، ورأس المنكر الكفر بالله . والجهاد يوجب الترغيب في الإيمان ، والزجر عن الكفر . والجهاد داخل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وأما دخول الواو في قوله : { والناهون عن المنكر } ففيه وجوه :

الوجه الأول : أن التسوية قد تجيء بالواو تارة وبغير الواو أخرى . قال تعالى : { غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول } فجاء بعض بالواو ، وبعض بغير الواو .

الوجه الثاني : أن المقصود من هذه الآيات الترغيب في الجهاد فالله سبحانه ذكر الصفات الستة ، ثم قال : { الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر } والتقدير : أن الموصوفين بالصفات الستة ، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر . وقد ذكرنا أن رأس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورئيسه ؛ هو الجهاد ، فالمقصود من إدخال الواو عليه التنبيه على ما ذكرنا .

الوجه الثالث : في إدخال الواو على هؤلاء ، وذلك لأن كل ما سبق من الصفات عبادات يأتي بها الإنسان لنفسه ، ولا تعلق لشيء منها بالغير ، أما النهي عن المنكر فعبادة متعلقة بالغير ، وهذا النهي يوجب ثوران الغضب وظهور الخصومة ، وربما أقدم ذلك المنهي على ضرب الناهي وربما حاول قتله ، فكان النهي عن المنكر أصعب أقسام العبادات والطاعات ، فأدخل عليها الواو تنبيها على ما يحصل فيها من زيادة المشقة والمحنة .

الصفة التاسعة : قوله : { والحافظون لحدود الله } والمقصود أن تكاليف الله كثيرة وهي محصورة في نوعين : أحدهما : ما يتعلق بالعبادات . والثاني : ما يتعلق بالمعاملات . أما العبادات فهي التي أمر الله بها لا لمصلحة مرعية في الدنيا ، بل لمصالح مرعية في الدين ؛ وهي الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والإعتاق والنذور وسائر أعمال البر . وأما المعاملات فهي : إما لجلب المنافع وإما لدفع المضار .

والقسم الأول : وهو ما يتعلق بجلب المنافع : فتلك المنافع إما أن تكون مقصودة بالأصالة أو بالتبعية ؛ أما المنافع المقصودة بالأصالة ، فهي المنافع الحاصلة من طرف الحواس الخمسة : فأولها : المذوقات : ويدخل فيها كتاب الأطعمة والأشربة من الفقه . ولما كان الطعام قد يكون نباتا ، وقد يكون حيوانا ، والحيوان لا يمكن أكله إلا بعد الذبح ، والله تعالى شرط في الذبح شرائط مخصوصة ، فلأجل هذا دخل في الفقه كتاب الصيد والذبائح ، وكتاب الضحايا . وثانيها : الملموسات : ويدخل فيها باب أحكام الوقاع من جملتها ما يفيد حله ، وهو باب النكاح ، ومنه أيضا باب الرضاع ، ومنها ما هو بحث عن لوازم النكاح مثل المهر والنفقة والمسكن ويتصل به أحوال القسم والنشوز ، ومنها ما هو بحث عن الأسباب المزيلة للنكاح ، ويدخل فيه كتاب الطلاق والخلع والإيلاء والظهار واللعان . ومن الأحكام المتعلقة بالملموسات : البحث عما يحل لبسه وعما لا يحل ، وعما يحل استعماله وعما لا يحل استعماله ؛ وما لا يحل . كاستعماله الأواني الذهبية والفضية ؛ وطال كلام الفقهاء في هذا الباب . وثالثها : المبصرات وهي باب ما يحل النظر إليه وما لا يحل . ورابعها : المسموعات : وهو باب هل يحل سماعه أم لا ؟ وخامسها : المشمومات ، وليس للفقهاء فيها مجال . وأما المنافع المقصودة بالتبع فهي الأموال ، والبحث عنها من ثلاثة أوجه : الأول : الأسباب المفيدة للملك وهي إما البيع أو غيره . أما البيع فهو إما بيع الأعيان ، أو بيع المنافع وبيع الأعيان . فأما أن يكون بيع العين بالعين ، أو بيع الدين بالعين وهو السلم ، أو بيع العين بالدين كما إذا اشترى شيئا في الذمة ، أو بيع الدين بالدين . وقيل : إنه لا يجوز . لما روي أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الكالئ بالكالئ ، ولكن حصل له مثال في الشرع وهو تقاضي الدينين . وأما بيع المنفعة فيدخل فيه كتاب الإجارة ، وكتاب الجعالة ، وكتاب عقد المضاربة . وأما سائر الأسباب الموجبة للملك فهي الإرث ، والهبة ، والوصية ، وإحياء الموات ، والالتقاط ، وأخذ الفيء والغنائم ، وأخذ الزكوات وغيرها . ولا طريق إلى ضبط أسباب الملك إلا بالاستقراء وفيه نوعان .

النوع الأول : من مباحث الفقهاء الأسباب التي توجب لغير المالك التصرف في الشيء ، وهو باب الوكالة ، والوديعة وغيرهما .

والنوع الثاني : الأسباب التي تمنع المالك من التصرف في ملك نفسه ، وهو الرهن والتفليس والإجارة وغيرها ، فهذا ضبط أقسام تكاليف الله في باب جلب المنافع .

القسم الثاني : وأما تكاليف الله تعالى في باب دفع المضار فنقول : أقسام المضار خمسة لأن المضرة إما أن تحصل في النفوس أو في الأموال أو في الأديان أو في الأنساب أو في العقول ، أما المضار الحاصلة في النفوس فهي إما أن تحصل في كل النفس ، والحكم فيه إما القصاص أو الدية أو الكفارة ، وإما في بعض من أبعاض البدن كقطع اليد وغيرها ، والواجب فيه إما القصاص أو الدية أو الارش ، وأما المضار الحاصلة في الأموال ، فذلك الضرر إما أن يحصل على سبيل الإعلان والإظهار ، وهو كتاب الغصب أو على سبيل الخفية وهو كتاب السرقة ، وأما المضار الحاصلة في الأديان ، فهي إما الكفر وإما البدعة ، أما الكفر فيدخل فيه أحكام المرتدين ، وليس للفقهاء كتاب مقرر في أحكام المبتدعين وأما المضار الحاصلة في الأنساب فيتصل به تحريم الزنا واللواط وبيان العقوبة المشروعة فيهما ، ويدخل فيه أيضا باب حد القذف وباب اللعان ، وههنا بحث آخر وهو أن كل أحد لا يمكنه استيفاء حقوقه من المنافع ودفع المضار بنفسه ، لأنه ربما كان ضعيفا فلا يلتفت إليه خصمه ، فلهذا السر نصب الله تعالى الإمام لتنفيذ الأحكام ، ويجب أن يكون لذلك الإمام نواب وهم الأمراء والقضاة فلما لم يجز أن يكون قول الغير مقبولا على الغير إلا بالحجة ، فالشرع أثبت لإظهار الحق حجة مخصوصة وهي الشهادة ، ولا بد أن يكون للدعوى ولإقامة البينة شرائط مخصوصة فلا بد من باب مشتمل عليها ، فهذا ضبط معاقد تكاليف الله تعالى وأحكامه وحدوده ، ولما كانت كثيرة والله تعالى إنما بينها في كل القرآن تارة على وجه التفصيل ، وتارة بأن أمر الرسول عليه السلام حتى تبينها للمكلفين ، لا جرم أنه تعالى أجمل ذكرها في هذه الآية ، فقال : { والحافظون لحدود الله } وهو يتناول جملة هذه التكاليف .

واعلم أن الفقهاء ظنوا أن الذي ذكروه في بيان التكاليف وليس الأمر كذلك ، فإن أعمال المكلفين قسمان : أعمال الجوارح وأعمال القلوب ، وكتب الفقه مشتملة على شرح أقسام التكاليف المتعلقة بأعمال الجوارح ، فأما التكاليف المتعلقة بأعمال القلوب فلم يبحثوا عنها البتة ولم يصنفوا لها كتبا وأبوابا وفصولا ، ولم يبحثوا عن دقائقها ، ولا شك أن البحث عنها أهم والمبالغة في الكشف عن حقائقها أولى ، لأن أعمال الجوارح إنما تراد لأجل تحصيل أعمال القلوب والآيات الكثيرة في كتاب الله تعالى ناطقة بذلك إلا أن قوله سبحانه : { والحافظون لحدود الله } متناول لكل هذه الأقسام على سبيل الشمول والإحاطة .

واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الصفات التسعة قال : { وبشر المؤمنين } والمقصود منه أنه قال في الآية المتقدمة : { فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به } فذكر هذه الصفات التسعة ، ثم ذكر عقيبها قوله : { وبشر المؤمنين } تنبيها على أن البشارة المذكورة في قوله : { فاستبشروا } لم تتناول إلا المؤمنين الموصوفين بهذه الصفات .

فإن قيل : ما السبب في أنه تعالى ذكر تلك الصفات الثمانية على التفصيل ، ثم ذكر تعالى عقيبها سائر أقسام التكاليف على سبيل الإجمال في هذه الصفة التاسعة ؟

قلنا : لأن التوبة والعبادة والاشتغال بتحميد الله ، والسياحة لطلب العلم ، والركوع والسجود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أمور لا ينفك المكلف عنها في أغلب أوقاته ، فلهذا ذكرها الله تعالى على سبيل التفصيل ، وأما البقية فقد ينفك المكلف عنها في أكثر أوقاته مثل أحكام البيع والشراء ، ومثل معرفة أحكام الجنايات وأيضا فتلك الأمور الثمانية أعمال القلوب وإن كانت أعمال الجوارح ، إلا أن المقصود منها ظهور أحوال القلوب ، وقد عرفت أن رعاية أحوال القلوب أهم من رعاية أحوال الظاهر فلهذا السبب ذكر هذا القسم على سبيل التفصيل ، وذكر هذا القسم على سبيل الإجمال .