التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{ٱلتَّـٰٓئِبُونَ ٱلۡعَٰبِدُونَ ٱلۡحَٰمِدُونَ ٱلسَّـٰٓئِحُونَ ٱلرَّـٰكِعُونَ ٱلسَّـٰجِدُونَ ٱلۡأٓمِرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡحَٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (112)

قوله تعالى : { التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الأمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين } { التائبون } ، مبتدأ ، وخبره { العابدون } وما بعده أوصاف أو أخبار متعددة .

وقيل : إن الخبر قوله : { الأمرون } وقيل : الخبر محذوف . والتقدير : التائبون الموصوفون بهذه الصفات من أهل الجنة . وهذا عند من يرى أن هذه الآية منقطعة مما قبلها ؛ فهي ليست شرطا في المجاهدة . وأما ما زعم أنها شرط في المجاهدة فيكون إعراب التائبين خير مبتدأ محذوف ؛ أي هم التائبون ؛ فتكون هذه الأوصاف عند هؤلاء من صفات المؤمنين في قوله تعالى : { اشترى من المؤمنين } {[1910]} ، وقد ذهب إلى هذا المعنى بعض المفسرين وفيهم ابن عباس ؛ إذ قال : الشهيد من كان فيه هذه الخصال التسع وتلا هذه الآية . وبذلك فإن هذه أوصاف المؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم ؛ فهم بذلك المجاهدون على النحو الأتم والمطلوب . لكن لا يخفى ما في هذا التأويل من حرج ؛ فإنه بناء عليه لا يفوز بالجنة من المجاهدين إلا القلة ممن اتصف بهذه الأوصاف . ولسوف يخرج إذن من هذه الحظوة المباركة كثير من المجاهدين الذين استشهدوا في سبيل الله ولم يتصفوا بهذه الصفات .

وعلى هذا فالراجح من إعراب { التائبون } أنها مبتدأ ، والخبر محذوف تقديره : من أهل الجنة وإن لم يجاهدوا . وذلك قوله تعالى : { وكلا وعد الله الحسنى } فإن كلا ، يفيد العموم . والحسنى بمعنى الجنة . وعلى هذا يكون معنى الآية منفصلا من معنى الآية التي سبقتها . ويؤيد ذلك ما صح من حديث مسلم أن ( من قتل في سبيل الله وهو صابر محتسب مقبل غير مدبر ؛ كفرت خطاياه إلا الدين ) وذلك ظاهر في أن المجاهد لا يشترط كونه متصفا بجميع الصفات التي في الآية . بل هي تبشير لمطلق المجاهدين . وهو المفهوم من ظواهر الأخبار التي تدل على أن الفضل الوارد في حق المجاهدين مختص بمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا .

أما { التائبون } ، فالمراد بهم الذين تابوا عن الشرك والنفاق . أو عن الشرك وسائر المعاصي والذنوب وهو الأصوب ؛ لأن كلمة التائبين من ألفاظ العموم فهي تتناوب كل تائب .

وأما { العابدون } فقيل : هم الذين يعبدون الله بالصلاة وهو قول ابن عباس ، وفي رواية عنه أخرى أنهم المطيعون بالعبادة . وقيل : هم الذين يعبدون الله في السراء والضراء .

وأما { الحامدون } من الحمد ، وهو الثناء ، أو الوصف بالجميل : فالحامدون الذين يحمدون الله على كل حال ، وقيل : هم الذين يشكرون الله على أنعمه . على أن الحمد أولى من الشكر ؛ فقد روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أول ما يدعي إلى الجنة الحامدون الذين يحمدون على السراء والضراء ) . وعن السيدة عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه الأمر يسره قال : ( الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ) وإذا أتاه الأمر يكرهه قال : ( الحمد لله على كل حال ) .

وأما { السائحون } فهم الصائمون ، وهو قول كثير من جلة الصحابة والتابعين ، وقد روي عن عائشة قولها : سياحة هذه الأمة الصيام . وذلك من باب الاستعارة لأن الصوم يعوق عن الشهوات كما تمنع السياحة منها في الغالب . وقيل : المراد بهم المسافرون لطلب العلم . وقيل : هم الذين يجولون بأفكارهم وعقولهم في ملكوت الله وفي خلقه .

أما { الراكعون الساجدون } فالمراد بهم المصلون . فالركوع والسجود على معناهما الحقيقي ، وهما أعظم الأركان في الصلاة .

وأما { الأمرون بالمعروف } فهم الذين يدعون الناس إلى الإيمان وعمل الطاعات ، وهم { الناهون عن المنكر } ينهون الناس عن الشرك بالله على اختلاف صوره وضروبه ، ويدعونه إلى مجانبة عصيان الله ومخالفة أوامره .

قوله : { والحافظون لحدود الله } أي المطيعون لله فيرعون ما بينه الله من أحكام وشرائع فيلتزمون ما ينبغي فعله وما يجب تركه . وقيل : المراد بحفظ الحدود وإقامة الحدود من العقوبات وإيقاع القصاص على المستحقين لذلك .

قوله : { وبشر المؤمنين } وهم الموصوفون بتلك الصفات العظيمة يبشرهم ربهم بأنهم مستحقون درجة الإيمان الكامل حيث السعادة التامة والفوز كل الفوز{[1911]} .

قوله تعالى : { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم 113 وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو الله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم } أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم والنسائي والبيهقي وآخرون عن ابن المسيب عن أبيه قال : لما خضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جعل وعبد الله بن أبي أمية فقال : ( أي عم ، قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله عز وجل ) فقال أبو جعل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب ، أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فقال : أنا على ملة عبد المطلب . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ) فنزلت { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } قال : ونزلت فيه { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } {[1912]} . ويستفاد من ذلك : أمه ما ينبغي للمسلم أن يستغفر لكافر من الكافرين أو يدعو له بالتوبة والغفران ، سواء كان من الأصدقاء أو الأقرباء أو الأباعد ، ما دام قد مات على الشرك . وذلك تقرير رباني ثابت لا رجاء فيه بالمغفرة للمشركين الذين ماتوا وهم كافرون . أولئك لن يغفر الله لهم وإن استغفرت لهم كل خلائق الأرض والسماء . وفي ذلك قوله سبحانه { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن شاء } .


[1910]:الدر المصون جـ 6 ص 129.
[1911]:روح المعاني جـ 6 ص 30- 32 وتفسير ابن كثير جـ 2 ص 392.
[1912]:تفسير ابن كثير جـ 2 ص 393.