وما يكاد يفيق من تصور هذه الحقيقة الضخمة التي تملأ الكيان البشري وتفيض ، حتى تطالعه حقيقة أخرى ، لعلها أضخم وأقوى . حقيقة أن لا كينونة لشيء في هذا الوجود على الحقيقة . فالكينونة الواحدة الحقيقية هي لله وحده سبحانه ؛ ومن ثم فهي محيطة بكل شيء ، عليمة بكل شيء :
( هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ) . .
الأول فليس قبله شيء . والآخر فليس بعده شيء . والظاهر فليس فوقه شيء . والباطن فليس دونه شيء .
الأول والآخر مستغرقا كل حقيقة الزمان ، والظاهر والباطن مستغرقا كل حقيقة المكان . وهما مطلقتان . ويتلفت القلب البشري فلا يجد كينونة لشيء إلا لله . وهذه كل مقومات الكينونة ثابتة له دون سواه . حتى وجود هذا القلب ذاته لا يتحقق إلا مستمدا من وجود الله . فهذا الوجود الإلهي هو الوجود الحقيقي الذي يستمد منه كل شيء وجوده . وهذه الحقيقة هي الحقيقة الأولى التي يستمد منها كل شيء حقيقته . وليس وراءها حقيقة ذاتية ولا وجود ذاتي لشيء في هذا الوجود . .
( وهو بكل شيء عليم ) . . علم الحقيقة الكاملة . فحقيقة كل شيء مستمدة من الحقيقة الإلهية وصادرة عنها . فهي مستغرقة إذن بعلم الله اللدني بها . العلم الذي لا يشاركه أحد في نوعه وصفته وطريقته . مهما علم المخلوقون عن ظواهر الأشياء !
فإذا استقرت هذه الحقيقة الكبرى في قلب ، فما احتفاله بشيء في هذا الكون غير الله سبحانه ? وكل شيء لا حقيقة له ولا وجود - حتى ذلك القلب ذاته - إلا ما يستمده من تلك الحقيقة الكبرى ? وكل شيء وهم ذاهب ، حيث لا يكون ولا يبقى إلا الله ، المتفرد بكل مقومات الكينونة والبقاء ?
وإن استقرار هذه الحقيقة في قلب ليحيله قطعة من هذه الحقيقة . فأما قبل أن يصل إلى هذا الاستقرار ، فإن هذه الآية القرآنية حسبه ليعيش في تدبرها وتصور مدلولها ، ومحاولة الوصول إلى هذا المدلول الواحد وكفى !
ولقد أخذ المتصوفة بهذه الحقيقة الأساسية الكبرى ، وهاموا بها وفيها ، وسلكوا إليها مسالك شتى ، بعضهم قال إنه يرى الله في كل شيء في الوجود . وبعضهم قال : إنه رأى الله من وراء كل شيء في الوجود . وبعضهم قال : إنه رأى الله فلم ير شيئا غيره في الوجود . . وكلها أقوال تشير إلى الحقيقة إذا تجاوزنا عن ظاهر الألفاظ القاصرة في هذا المجال . إلا أن ما يؤخذ عليهم - على وجه الإجمال - هو أنهم أهملوا الحياة بهذا التصور . والإسلام في توازنه المطلق يريد من القلب البشري أن يدرك هذه الحقيقة ويعيش بها ولها ، بينما هو يقوم بالخلافة في الأرض بكل مقتضيات الخلافة من احتفال وعناية وجهاد وجهد لتحقيق منهج الله في الأرض ، باعتبار هذا كله ثمرة لتصور تلك الحقيقة تصورا متزنا ، متناسقا مع فطرة الإنسان وفطرة الكون كما خلقهما الله .
وقوله : { هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } وهذه الآية هي المشار إليها في حديث العرباض بن سارية : أنها أفضل من ألف آية .
وقال أبو داود حدثنا عباس بن عبد العظيم حدثنا النضر بن محمد ، حدثنا عكرمة - يعنى بن عمار - حدثنا أبو زُمَيْل قال : سألت بن عباس فقلت : ما شيء أجده في صدري ؟ قال ما هو ؟ قلت والله لا أتكلم به قال : فقال لي أشيء من شك ؟ قال - وضحك - قال : ما نجا من ذلك أحد قال حتى أنزل الله { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ [ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ] } {[28203]} الآية [ يونس : 94 ] قال : وقال لي : إذا وجدت في نفسك شيئاً فقل : { هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } {[28204]}
وقد اختلفت عبارات المفسرين في هذه الآية وأقوالهم على نحو من بضعة عشر قولا .
وقال البخاري : قال يحيى : الظاهر على كل شيء علمًا والباطن على كل شيء علمًا{[28205]}
قال شيخنا الحافظ المزيّ : يحيى هذا هو بن زياد الفراء ، له كتاب سماه : " معاني القرآن " .
وقد ورد في ذلك أحاديث ، فمن ذلك ما قال الإمام أحمد : حدثنا خلف بن الوليد ، حدثنا ابن عياش ، عن سُهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو{[28206]} عند النوم : " اللهم ، رب السموات السبع ، ورب العرش العظيم ، ربنا ورب كل شيء ، منزل التوراة والإنجيل والفرقان ، فالق الحب والنوى ، لا إله إلا أنت ، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته ، أنت الأول ليس{[28207]} قبلك شيء وأنت الآخر ليس{[28208]} بعدك شيء ، وأنت الظاهر ليس فوقك شيء وأنت الباطن ليس دونك شيء . اقض عنا الدين ، وأغننا من الفقر " {[28209]}
ورواه مسلم في صحيحه : حدثني زهير بن حرب ، حدثنا جرير عن سُهَيل قال : كان أبو صالح يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام : أن يضطجع على شقه الأيمن ، ثم يقول : اللهم ، ربّ السموات وربّ الأرض وربّ العرش العظيم ، رَبَّنَا وربّ كل شيء ، فالق الحب والنوى ، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان ، أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته ، اللهم ، أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء ، اقض عنا الدين ، وأغننا من الفقر .
وكان يروي ذلك ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم{[28210]}
وقد روى الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده عن عائشة أم المؤمنين نحو هذا ، فقال حدثنا عقبة ، حدثنا يونس ، حدثنا السري بن إسماعيل ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة أنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بفراشه فيفرش له مستقبل القبلة ، فإذا أوى إليه توسد كفه اليمنى ، ثم همس - ما يدرى ما يقول - فإذا كان في آخر الليل رفع صوته فقال : " اللهم ، رب السموات السبع ورب العرش العظيم ، إله كل شيء ، ورب كل شيء ، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان ، فالق الحب والنوى ، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته اللهم ، أنت الأول الذي ليس{[28211]} قبلك شيء ، وأنت الآخر الذي ليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء ، اقض عنا الدين ، وأغننا من الفقر " {[28212]}
السري بن إسماعيل هذا ابن عم الشعبي ، وهو ضعيف جداً والله أعلم .
وقال أبو عيسى الترمذي عند تفسير هذه الآية : حدثنا عبدُ بن حميد وغير واحد - المعنى واحد - قالوا : حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا شيبان بن عبد الرحمن عن قتادة قال : حدث الحسن ، عن أبي هريرة قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وأصحابه ، إذ أتى عليهم سَحَاب فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : " هل تدرون ما هذا ؟ " . قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " هذا العَنَان ، هذه رَوَايا الأرض تسوقه إلى قوم لا يشكرونه ولا يَدْعُونه " . ثم قال : " هل تدرون ما فوقكم ؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال " فإنها الرقيع ، سقف محفوظ ، وموج مكفوف " . ثم قال : " هل تدرون كم بينكم وبينها " قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " بينكم وبينها خمسمائة سنة " . ثم قال : " هل تدرون ما فوق ذلك ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم قال : " فإن فوق ذلك سماء {[28213]} بُعدُ ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة - حتى عدَّ سبع سموات - ما بين كل سماءين كما بين السماء والأرض " . ثم قال : " هل تدرون ما فوق ذلك ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " فإن فوق ذلك العرش ، وبينه وبين السماء بُعدُ {[28214]} ما بين السماءين " . ثم قال : " هل تدرون ما الذي تحتكم ؟ " . قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " فإنها الأرض " . ثم قال : " هل تدرون ما الذي تحت ذلك ؟ " . قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " فإن تحتها أرضاً أخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة - حتى عدَّ {[28215]} سبع أرضين - بين كل أَرْضَيْن مسيرة خمسمائة سنة " . ثم قال : " والذي نفس محمد بيده ، لو أنكم دَليتم بحبل إلى الأرض السفلي لهبط على الله " ، ثم قرأ : { هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
ثم قال الترمذي : هذا حديث غريب من هذا الوجه ، ويُروى عن أيوب ويونس - يعني بن عبيد - وعلي بن زيد قالوا : لم يسمع الحسن من أبي هريرة . وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقالوا : إنما هَبَط على علْم الله وقدرته وسلطانه ، وعلم الله وقدرته وسلطانه في كل مكان ، وهو على العرش ، كما وصف في كتابه . انتهى كلامه {[28216]}
وقد روى الإمام أحمد هذا الحديث عن سريج ، عن الحكم بن عبد الملك ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره ، وعنده بُعدُ ما بين الأرْضين مسيرة سبعمائة عام ، وقال : " لو دليتم أحدكم بحبل إلى الأرض السفلي السابعة لهبط على الله " ، ثم قرأ : { هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
ورواه بن أبي حاتم والبزار من حديث أبي جعفر الرازي ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي هريرة . . . فذكر الحديث ، ولم يذكر بن أبي حاتم آخره وهو قوله : " لو دليتم بحبل " ، وإنما قال : " حتى عَدّ سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة عام " ، ثم تلا { هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
وقال البزار : لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أبو هريرة .
ورواه بن جرير ، عن بشر ، عن يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : { هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في أصحابه إذ ثار عليهم سحاب ، فقال : " هل تدرون ما هذا ؟ " {[28217]} وذكر الحديث مثل سياق الترمذي سواء ، إلا أنه مرسل من هذا الوجه ، ولعل هذا هو المحفوظ ، والله أعلم . وقد روي من حديث أبي ذر الغفاري ، رضي الله عنه وأرضاه ، رواه البزار في مسنده ، والبيهقي في كتاب الأسماء والصفات{[28218]} ولكن في إسناده نظر ، وفي متنه غرابة ونكارة ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
وقال ابن جرير عند قوله تعالى { وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ } [ الطلاق " 12 " ] حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور ، عن مَعْمَر ، عن قتادة قال : التقى أربعة من الملائكة بين السماء والأرض ، فقال بعضهم لبعض : من أين جئت ؟ قال أحدهم : أرسلني ربي ، عز وجل ، من السماء السابعة وتركته ثَمّ ، قال الآخر : أرسلني ربي ، عز وجل من الأرض السابعة وتركته ثَمّ ، قال الآخر : أرسلني ربي من المشرق وتركته ثَمّ ، قال الآخر : أرسلني ربي من المغرب وتركته ثَمّ {[28219]}
وهذا [ حديث ] {[28220]} غريب جداً ، وقد يكون الحديث الأول موقوفًا على قتادة كما روي هاهنا من قوله ، والله أعلم .
هو الأول السابق على سائر الموجودات من حيث إنه موجدها ومحدثها والآخر الباقي بعد فنائها ولو بالنظر إلى ذاتها مع قطع النظر عن غيرها أو هو الأول الذي تبتدئ منه الأسباب وتنتهي إليه المسببات أو الأول خارجا و الآخر ذهنا والظاهر والباطن الظاهر وجوده لكثرة دلائله والباطن حقيقة ذاته فلا تكتنهها العقول أو الغالب على كل شيء والعالم بباطنه والواو الأولى والأخيرة للجمع بين الوصفين والمتوسطة للجمع بين المجموعين وهو بكل شيء عليم يستوي عنده الظاهر والخفي .
{ هُوَ الأول والأخر والظاهر والباطن } .
استئناف في سياق تبْيين أن له ملك السماوات والأرض ، بأن مُلكه دائم في عموم الأزمان وتصرف فيهما في كل الأحوال ، إذ هو الأول الأزلي ، وأنه مستمر من قبل وجود كل محدث ومن بعد فنائه إذ الله هو الباقي بعد فناء ما في السماوات والأرض ، وذلك يظهر من دلالة الآثار على المؤثِر فإن دلائل تصرفه ظاهرة للمتبصر بالعقل وهو معنى { الظاهر } كما يأتي ، وأن كيفيات تصرفاته محجوبة عن الحس وذلك معنى { الباطن } تعالى كما سيأتي .
فضمير { هو } ليس ضمير فصل ولكنه ضمير يعبر عن اسم الجلالة لاعتبارنا الجملة مستأنفة ، ولو جعلته ضمير فصل لكانت أوصاف { الأول والأخر والظاهر والباطن } أخباراً عن ضمير { هو العزيز الحكيم } [ الحديد : 1 ] .
وقد اشتملت هذه الجملة على أربعة أَخبار هي صفات لله تعالى .
فأما وصف { الأول } فأصل معناه الذي حصُل قبل غيره في حالة تُبينُها إضافة هذا الوصف إلى ما يدل على الحالة من زمان أو مكان ، فقد يقع مع وصف ( أول ) لفظُ يدل على الحالة التي كان فيها السبق ، وقد يستدل على تلك الحالة من سياق الكلام ، فوصف { الأول } لا يتبين معناه إلا بما يتصل به من الكلام ولا يتصور إلا بالنسبة إلى موصوف آخر هو متأخر عن الموصوف ب ( أول ) في حالة مَّا .
يفيد أنه مهلهل سابق غيره من الشعراء في الشعر ، وقوله تعالى : { قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم } [ الأنعام : 14 ] أي أولهم في اتباع الإِسلام ، وقوله : { ولا تكونوا أول كافر به } [ البقرة : 41 ] ، أي أولهم كُفراً وقوله : { وقالت أولاهم لأخراهم } [ الأعراف : 39 ] ، أي أُولاهم في الدخول إلى النار .
وأشهر معاني الأوَّلية هو السبق في الوجود ، أي في ضد العدم ، ألا ترى أن جميع الأحوال التي يسبق صاحبُها غيره فيها هي وجودات من الكيفيات ، فوصف الله بأنه { الأول } معناه : أنه السابق وُجوده على كل موجود وُجد أو سيوجد ، دون تخصيص جنس ولا نوع ولا صنف ، ولكنه وصف نسبي غير ذاتي .
ولهذا لم يذكر لهذا الوصف هنا متعلِّق بكسر اللام ، ولا ما يدل على متعلِّق لأن المقصود أنه الأول بدون تقييد .
ويرادف هذا الوصفَ في اصطلاح المتكلمين صفةُ القدم .
واعلم أن هذا الوصف يستلزم صفة الغِنَى المطلق ، وهي عدم الاحتياج إلى المخصِّص ، أي مخصص يخصصه بالوجود بدلاً عن العدم ، لأن الأول هنا معناه الموجود لِذاته دون سبق عدم ، وعدم الاحتياج إلى محل يقوم به قيام العرض بالجوهر .
ويستلزم ذلك انفراده تعالى بصفة الوجود لأنه لو كان غيرُ الله واجباً وجودُه لما كان الله موصوفاً بالأولية ، فالموجودات غير الله ممكنة ، والممكن لا يتصف بالأولية المطلقة ، فلذلك تثبت له الوحدانية ، ثم هذه الأولية في الوجود تقتضي أن تثبت لله جميع صفات الكمال اقتضاء عقلياً بطريق الالتزام البينّ بالمعنى الأعمّ وهو الذي يلزم من تصور ملزومه وتصوُّره الجزم بالملازمة بينهما .
وأما وصف { الآخر } فهو ضد الأول ، فأصله : هو المسبوق بموصوف بصفة متحدث عنها في الكلام أو مشار إليها فيه بما يذكر من متعلق به ، أو تمييزه ، على نحو ما تقدم في قوله : { هو الأول } كقوله تعالى : { حتى إذا اداركوا فيها جميعاً قالت أخراهم لأولاهم } [ الأعراف : 38 ] أي أخراهم في الإدِّرَاك في النار ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " آخر أهل الجنة دخولاً الجنة . . . " الخ ، وقول الحريري في المقامة الثانية « وجلس في أُخريات الناس » ، أي الجماعات الأخريات في الجلوس ، وهو وصف نسبيّ .
ووصف الله تعالى بأنه { الآخر } بعد وصفه بأنه { الأول } مع كون الوصفين متضادّين يقتضي انفكاك جهتي الأولية والآخرية ، فلما تقرر أن كونه الأول متعلق بوجود الموجودات اقتضى أن يكون وصفه ب { الآخر } متعلقاً بانتقاض ذلك الوجود ، أي هو الآخر بعد جميع موجودات السماء والأرض ، وهو معنى قوله تعالى : { نرث الأرض ومن عليها } [ مريم : 40 ] وقوله : { كل شيء هالك إلا وجهه } [ القصص : 88 ] .
فتقدير المعنى : والآخِر في ذلك أي في استمرار الوجود الذي تقرر بوصفه بأنه الأول . وليس في هذا إشعار بأنه زائل ينتابه العدم ، إذ لا يشعر وصف الآخِر بالزوال لا مطابقة ولا التزاماً ، وهذا هو صفة البقاء في اصطلاح المتكلمين . فآل معنى { الآخر } إلى معنى « الباقي » ، وإنما أوثر وصف { الآخر } بالذكر لأنه مقتضى البلاغة ليتم الطباق بين الوصفين المتضادين ، وقد عُلم عند المتكلمين أن البقاء غير مختص بالله تعالى وأنه لا ينافي الحُدوث على خلاف في تعيين الحوادث الباقية ، بخلاف وصف القدم فإنه مختص بالله تعالى ومتناففٍ مع الحدوث .
واعلم أن في قوله : { هو الأول والأخر } دلالة قصر من طريق تعريف جزأي الجملة .
فأما قصر الأولية على الله تعالى في صفة الوجود فظاهر ، وأما قصر الآخرية عليه في ذلك وهو معنى البقاء ، فإن أريد به البقاء في العالم الدنيوي عرض إشكال المتعارض بما ورد من بقاء الأرواح ، وحديث " أن عَجْب الذَّنب لا يفنى وأن الإِنسان منه يعادُ " . ورفع هذا الإشكال أن يجعل القصر ادعائياً لعدم الاعتداد ببقاء غيره تعالى لأنه بقاء غير واجب بل هو بجعل الله تعالى .
والجمع بين وصفي { الأول والأخر } فيه محسّن الطباق .
و { الظاهر } الأرجح أنه مشتق من الظُّهور الذي هو ضد الخفاء فيكون وصفه تعالى به مجازاً عقلياً ، فإن إسناد الظهور في الحقيقة هو ظهور أدلة صفاته الذاتية لأهل النظر والاستدلال والتدبر في آيات العالم فيكون الوصف جامعاً لصفته النفسية ، وهي الوجود ، إذ أدلة وجوده بيّنة واضحة ولصفاته الأخرى مما دل عليها فعله من قدرة وعلم وحياة وإرادة ، وصفات الأفعال من الخلق والرزق والإِحياء والإِماتة كما علمت في قوله : { هو الأول } عن النقص أو ما دل عليها تنزيهه عن النقص كصفة الوحدانية والقدم والبقاء والغنى المطلق ومخالفة الحوادث ، وهذا المعنى هو الذي يناسبه المقابلة بالباطن .
ويجوز أن يكون مشتقاً من الظهور ، أي الغلبة كالذي في قوله تعالى : { إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم } [ الكهف : 20 ] ، فمعنى وصفه تعالى ب { الظاهر } أنه الغالب .
وهذا لا يناسب مقابلته ب { الباطن } إلا على اعتبار محسِّن الإِيهام ، وما وقع في حديث أبي هريرة في « صحيح مسلم » من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " وأنت الظاهر فليس فوقك شيء " فمعنى فاء التفريع فيه أن ظهوره تعالى سبب في انتفاء أن يكون شيء فوق الله في الظهور ، أي في دلالة الأدلة على وجوده واتصافه بصفات الكمال ، فدلالة الفاء تفريع لا تفسير .
و { الباطن } الخفي يقال : بطن ، إذا خفي ومصدره بُطُون .
ومعنى وصفه تعالى بباطن وصف ذاته وكنهه لأنه محجوب عن إدراك الحواس الظاهرة قال تعالى : { لا تدركه الأبصار } [ الأنعام : 103 ] .
والقصر في قوله : { والظاهر والباطن } قصر ادعائي لأن ظهور الله تعالى بالمعنيين ظهور لا يدانيه ظهور غيره ، وبطونه تعالى لا يشبهه بطون الأشياء الخفية إذ لا مطمع لأحد في إدراك ذاته ولا في معرفة تفاصيل تصرفاته .
والجمع بين وصفه ب { الظاهر } بالمعنى الراجح و { الباطن } كالجمع بين وصفه ب { الأول والآخر } كما علمته آنفاً . وفي الجمع بينهما محسن المطابقة .
وفائدة إجراء الوصفين المتضادين على اسم الله تعالى هنا التنبيه على عظم شأن الله تعالى ليتدبر العالمون في مواقعها .
واعلم أن الواوات الثلاثة الواقعة بين هذه الصفات الأربع متحدة المعنى تقتضي كل واحدة منها عطف صفة .
وقال الزمخشري : « الواو الأولى معناها الدلالة على أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوّلية والآخريَّة . والثالثة على أنه الجامع بين الظهور والخفاء ، وأما الوسطى فعلى أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الأخريين » اه . وهو تشبث لا داعي إليه ولا دليل عليه ولو أريد ذلك لقال : هو الأول الآخر ، والظاهر الباطن ، بحذف واوين . والمعنى الذي حاوله الزمخشري : تقتضيه معاني هاته الصفات بدون اختلاف معاني الواوات .
{ وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيم } .
عطف على جملة { هو الأول والآخر } الخ عطفت صفة علمه على صفة ذاته ، وتقدم نظير هذه الجملة في أوائل سورة البقرة .