19- قل - أيها النبي - لمن يكذبوك ويطلبون شهادة على رسالتك ، أي شيء أعظم شهادة وأحق بالتصديق ؟ ثم قل : إن الله أعظم شاهد بيني وبينكم على صدق ما جئتكم به ، وقد أنزل علىّ هذا القرآن ليكون حُجّة لصدقي ، لأحذركم به أنتم وكل من بلغه خبره ، وهو حُجة قاطعة شاهدة بصدقي ، لأنكم لا تستطيعون أن تأتوا بمثله ! ! سلهم : أأنتم الذين تقولون معتقدين أن مع الله آلهة غيره ؟ ثم قل لهم : لا أشهد بذلك ، ولا أقوله ، ولا أقركم عليه ، وإنما المعبود بحق إله واحد ، وإنني برئ مما تشركون به من أوثان .
وأخيرا تجيء قمة المد في هذه الموجة ؛ ويجيء الإيقاع المدوي العميق ؛ في موقف الإشهاد والإنذار والمفاصلة والتبرؤ من المشاركة في الشرك . . كل ذلك في رنة عالية ، وفي حسم رهيب :
( قل : أي شيء أكبر شهادة ؟ قل الله . شهيد بيني وبينكم ، وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ، أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى ؟ قل : لا أشهد ، قل : إنما هو إله واحد ، وإنني بريء مما تشركون ) . .
إن تتابع المقاطع والإيقاعات في الآية الواحدة عجيب ؛ وإن هذا التتابع ليرسم الموقف لحظة لحظة ، ومشهدا مشهدا ، ويكاد ينطق بملامح الوجوه فيه وخلجات الصدور . .
فها هو ذا رسول الله [ ص ] يؤمر من ربه هذا الأمر . . ثم ها هو ذا يواجه المشركين الذين يتخذون من دون الله أولياء ؛ يجعلون لهم بعض خصائص الألوهية مع الله ؛ ويدعون رسول الله [ ص ] أن يقرهم على هذا الذي هم فيه ليدخلوا هم فيما جاءهم به ! كأن ذلك يمكن أن يكون ! وكأنه يمكن أن يجتمع الإسلام والشرك في قلب واحد على هذا النحو الذي كانوا يتصورونه ؛ والذي لا يزال يتصوره ناس في هذا الزمان ، من أنه يمكن أن يكون الإنسان مسلما لله ؛ بينما هو يتلقى من غير الله في شؤون الحياة ؛ وبينما هو يخضع لغير الله ويستنصر بغير الله ، ويتولى غير الله !
ها هو ذا رسول الله [ ص ] يواجه هؤلاء المشركين ؛ ليبين لهم مفرق الطريق بين دينه ودينهم ، وبين توحيده وشركهم ، وبين إسلامه وجاهليتهم . وليقرر لهم : أنه لا موضع للقاء بينه وبينهم ، إلا أن يتخلصوا هم من دينهم ويدخلوا في دينه . وأنه لا وجه للمصالحة في هذا الأمر ؛ لأنه يفترق معهم في أول الطريق !
وها هو ذا يبدأ معهم مشهد الإشهاد العلني المفتوح المكشوف :
( قل : أي شيء أكبر شهادة ؟ ) . .
أي شاهد في هذا الوجود كله هو أكبر شهادة ؟ أي شاهد تعلو شهادته كل شهادة ؟ أي شاهد تحسم شهادته في القضية فلا يبقى بعد شهادته شهادة ؟
وللتعميم المطلق ، حتى لا يبقى في الوجود كله ( شيء ) لا يستقصى وزنه في مقام الشهادة : يكون السؤال : ( أي شيء أكبر شهادة ؟ ) .
وكما يؤمر رسول الله [ ص ] بالسؤال ، فهو يؤمر كذلك بالجواب . ذلك أنه لا جواب غيره باعتراف المخاطبين أنفسهم . ولا جواب غيره في حقيقة الأمر والواقع :
نعم ! فالله - سبحانه وتعالى - هو أكبر شهادة . . هو الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين . . هو الذي لا شهادة بعد شهادته ، ولا قول بعد قوله . فإذا قال فقد انتهى القول ، وقد قضي الأمر .
فإذا أعلن هذه الحقيقة : حقيقة أن الله سبحانه هو أكبر شهادة ، أعلن لهم أنه - سبحانه - هو الشهيد بينه وبينهم في القضية :
على تقدير : هو شهيد بيني وبينكم - فهذا التقطيع في العبارة هو الأنسب في جو المشهد : وهو أولى من الوصل على تقدير : ( قل الله شهيد بيني وبينكم ) .
فإذا تقرر المبدأ : مبدأ تحكيم الله سبحانه في القضية ، أعلن إليهم أن شهادة الله سبحانه ، تضمنها هذا القرآن ، الذي أوحاه إليه لينذرهم به ؛ وينذر به كل من يبلغه في حياته [ ص ] أو من بعد . فهو حجة عليهم وعلى من يبلغه غيرهم ؛ لأنه يتضمن شهادة الله في هذه القضية الأساسية ؛ التي تقوم عليها الدنيا والآخرة ، ويقوم عليها الوجود كله والوجود الإنساني ضمنا :
( وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ) . .
فكل من بلغه هذا القرآن من الناس ، بلغة يفهمها ، ويحصل منها محتواه ، فقد قامت عليه الحجة به ، وبلغه الإنذار ، وحق عليه العذاب ، إن كذب بعد البلاغ . . [ فأما من يحول عدم فهمه للغة القرآن دون فهمه لفحواه ، فلا تقوم عليه الحجة به ؛ ويبقى إثمه على أهل هذا الدين الذين لم يبلغوه بلغته التي يفهم بها مضمون هذا الشهادة . . هذا إذا كان مضمون القرآن لم يترجم إلى لغته ] . .
فإذا أعلن إليهم أن شهادة الله - سبحانه - متضمنة في هذا القرآن ، أعلن إليهم مضمون هذه الشهادة في صورة التحدي والاستنكار لشهادتهم هم ، المختلفة في أساسها عن شهادة الله سبحانه . وعالنهم بأنه ينكر شهادتهم هذه ويرفضها ؛ وأنه يعلن غيرها ويقرر عكسها ويشهد لربه بالوحدانية المطلقة والألوهية المتفردة ؛ وأنه يفاصلهم على هذا عند مفرق الطريق ؛ وأنه يتبرأ من شركهم في صيغة التشديد والتوكيد :
( أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى ؟ قل : لا أشهد ، قل : إنما هو إله واحد ، وإنني بريء مما تشركون ) . .
والنصوص القرآنية بمقاطعها هذه ، وبإيقاعاتها هذه ، تهز القلوب بما لا يملك البيان البشري أن يفعل فلا أريد أن أوقف تدفقها وانسكابها في القلب بأي تعليق .
تعقيب على الوحدة - الولاء والتوحيد والمفاصلة
ولكني أريد أن أتحدث عن القضية التي تضمنها هذا المقطع ، وجرت بها هذه الموجة . . إن هذه القضية التي عرضها السياق القرآني في هذه الآيات . . قضية الولاء والتوحيد والمفاصلة . . هي قضية هذه العقيدة ؛ وهي الحقيقية الكبرى فيها . وان العصبة المؤمنة اليوم لخليقة بأن تقف أمام هذا الدرس الرباني فيها وقفة طويلة . .
إن هذه العصبة تواجه اليوم من الجاهلية الشاملة في الأرض ، نفس ما كانت تواجهه العصبة التي تنزلت عليها هذه الآيات ، لتحدد على ضوئها موقفها ، ولتسير على هذا الضوء في طريقها ؛ وتحتاج - من ثم - أن تقف وقفة طويلة أمام هذه الآيات ، لترسم طريقها على هداها .
لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية ؛ وعادت البشرية إلى مثل الموقف الذي كانت فيه يوم تنزل هذا القرآن على رسول الله [ ص ] ويوم جاءها الإسلام مبينا على قاعدته الكبرى : " شهادة أن لا إله إلا الله " . . شهادة أن لا إله إلا الله بمعناها الذي عبر عنه ربعي بن عامر رسول قائد المسلمين إلى رستم قائد الفرس ، وهو يسأله : " ما الذي جاء بكم ؟ " فيقول : " الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام " . .
وهو يعلم أن رستم وقومه لا يعبدون كسرى بوصفه إلها خالقا للكون ؛ ولا يقدمون له شعائر العبادة المعروفة ؛ ولكنهم إنما يتلقون منه الشرائع ، فيعبدونه بهذا المعنى الذي يناقض الإسلام وينفيه ؛ فأخبره أن الله ابتعثهم ليخرجوا الناس من الأنظمة والأوضاع التي يعبد العباد فيها العباد ، ويقرون لهم بخصائص الألوهية - وهي الحاكمية والتشريع والخضوع لهذه الحاكمية والطاعة لهذا التشريع - [ وهي الأديان ] . . إلى عبادة الله وحده وإلى عدل الإسلام .
لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية بلا إله إلا الله . فقد ارتدت البشرية إلى عبادة العباد ، وإلى جور الأديان ؛ ونكصت عن لا إله إلا الله ، وإن ظل فريق منها يردد على المآذن : " لا إله إلا الله " ؛ دون أن يدرك مدلولها ، ودون أن يعني هذا المدلول وهو يرددها ، ودون أن يرفض شرعية " الحاكمية " التي يدعيها العباد لأنفسهم - وهي مرادف الألوهية - سواء ادعوها كأفراد ، أو كتشكيلات تشريعية ، أو كشعوب . فالأفراد ، كالتشكيلات ، كالشعوب ، ليست آلهة ، فليس لها إذن حق الحاكمية . . إلا أن البشرية عادت إلى الجاهلية ، وارتدت عن لا إله إلا الله . فأعطت لهؤلاء العباد خصائص الألوهية . ولم تعد توحد الله ، وتخلص له الولاء . .
البشرية بجملتها ، بما فيها أولئك الذين يرددون على المآذن في مشارق الأرض ومغاربها كلمات : " لا إله إلا الله " بلا مدلول ولا واقع . . وهؤلاء أثقل إثما وأشد عذابا يوم القيامة ، لأنهم ارتدوا إلى عبادة العباد - من بعدما تبين لهم الهدى - ومن بعد أن كانوا في دين الله !
فما أحوج العصبة المسلمة اليوم أن تقف طويلا أمام هذه الآيات البينات !
ما أحوجها أن تقف أمام آية الولاء :
( قل : أغبر الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض ، وهو يطعم ولا يطعم ؟ قل : إني أمرت أن أكون أول من أسلم ، ولا تكونن من المشركين ) . .
ذلك لتعلم أن اتخاذ غير الله وليا - بكل معاني " الولي " . . وهي الخضوع والطاعة ، والاستنصار والاستعانة . . يتعارض مع الإسلام ، لأنه هو الشرك الذي جاء الإسلام ليخرج منه الناس . . ولتعلم أن أول ما يتمثل فيه الولاء لغير الله هو تقبل حاكمية غير الله في الضمير أو في الحياة . . الأمر الذي تزاوله البشرية كلها بدون استثناء . ولتعمل أنها تستهدف اليوم إخراج الناس جميعا من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ؛ وأنها تواجه جاهلية كالتي واجهها رسول الله [ ص ] والجماعة المسلمة حين تلقي هذه الآيات . .
وما أحوجها أن تستصحب في مواجهتها للجاهلية تلك الحقائق والمشاعر التي تسكبها في القلب المؤمن الآيات التالية :
( قل : إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه ، وذلك الفوز المبين . وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو ، وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير . وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير ) . .
فما أحوج من يواجه الجاهلية بطاغوتها وجبروتها ، وبإعراضها وعنادها ، وبالتوائها وكيدها ، وبفسادها وانحلالها . . ما أحوج من يواجه هذا الشر كله ، أن يستصحب في قلبه هذه الحقائق وهذا المشاعر . . مخافة المعصية والولاء لغير الله . ومخافة العذاب الرعيب الذي يترقب العصاة . . واليقين بأن الضار والنافع هو الله . وأن الله هو القاهر فوق عباده فلا معقب على حكمه ولا راد لما قضاه . إن قلبا لا يستصحب هذه الحقائق وهذه المشاعر لن يقوى على تكاليف " إنشاء " الإسلام من جديد في وجه الجاهلية الطاغية . . وهي تكاليف هائلة تنوء بها الجبال !
ثم ما أحوج العصبة المؤمنة - بعد أن تستيقن حقيقة مهمتها في الأرض اليوم ؛ وبعد أن تستوضح حقيقة العقيدة التي تدعو إليها ومقتضياتها من إفراد الله سبحانه بالولاء بكل مدلولاته ؛ وبعد أن تستصحب معها في مهمتها الشاقة تلك الحقائق والمشاعر . ما أحوجها بعد ذلك كله إلى موقف الإشهاد والقطع والمفاصلة والتبرؤ من الشرك الذي تزاوله الجاهلية البشرية اليوم كما كانت تزاوله جاهلية البشرية الأولى . وأن تقول ما أمر رسول الله [ ص ] أن يقوله ؛ وأن تقذف في وجه الجاهلية ، بما قذف به في وجهها الرسول الكريم ، تنفيذا لأمر به العظيم :
( قل : أي شيء أكبر شهادة ؟ قل : الله ، شهيد بيني وبينكم ، وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ . أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى ؟ قل : لا أشهد . قل : إنما هو إله واحد ، وإنني بريء مما تشركون ) . .
إنه لا بد أن تقف العصبة المسلمة في الأرض ، من الجاهلية التي تغمر الأرض ، هذا الموقف . لا بد أن تقذف في وجهها بكلمة الحق هذه عالية مدوية ، قاطعة فاصلة ، مزلزلة رهيبة . . ثم تتجه إلى الله تعلم أنه على كل شيء قدير ، وأنه هو القاهر فوق عباده . وأن هؤلاء العباد - بما فيهم الطواغيت المتجبرون - أضعف من الذباب ، وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ! وأنهم ليسوا بضارين من أحد إلا بإذن الله ؛ وليسوا بنافعين أحدا إلا بإذن الله ، وأن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
ولا بد أن تستيقن العصبة المسلمة كذلك أنها لن تنصر ولن يتحقق لها وعد الله بالتكمين في الأرض ، قبل أن تفاصل الجاهلية على الحق عند مفترق الطريق . وقبل أن تعلن كلمة الحق في وجه الطاغوت ، وقبل أنتشهد على الجاهلية هذا الإشهاد ، وتنذرها هذه النذارة ، وتعلنها هذا الإعلان ، وتفاصلها هذه المفاصلة ، وتتبرأ منها هذه البراءة . .
إن هذا القرآن لم يأت لمواجهة موقف تاريخي ؛ إنما جاء منهجا مطلقا خارجا عن قيود الزمان والمكان . منهجا تتخذه الجماعة المسلمة حيثما كانت في مثل الموقف الذي تنزل فيه هذا القرآن . وهي اليوم في مثل هذا الموقف تماما ؛ وقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا القرآن لينشيء الإسلام في الأرض إنشاء . . فليكن اليقين الجازم بحقيقة هذا الدين . والشعور الواضح بحقيقة قدرة الله وقهره . والمفاصلة الحاسمة مع الباطل وأهله . . لتكن هذه عدة الجماعة المسلمة . . والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين . .
ثم قال : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً } أي : من أعظم الأشياء [ شهادة ]{[10602]} { قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } أي : هو العالم بما جئتكم به ، وما أنتم قائلون لي : { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } أي : وهو نذير لكل من بلغه ، كما قال تعالى : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } [ هود : 17 ] .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشَجّ ، حدثنا وكيع وأبو أسامة وأبو خالد ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب في قوله : { وَمَنْ بَلَغَ } [ قال ]{[10603]} من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم - زاد أبو خالد : وكَلّمه .
ورواه ابن جرير من طريق أبي معشر ، عن محمد بن كعب قال : من بلغه القرآن فقد أبلغه محمد صلى الله عليه وسلم .
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة في قوله : { لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " بلغوا عن الله ، فمن بلغته آية من كتاب الله فقد بَلَغه أمر الله " .
وقال الربيع بن أنس : حق على من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو كالذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن ينذر كالذي أنذر .
وقوله : { أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ } [ أي ]{[10604]} أيها المشركون { أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ } كما قال تعالى : { فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ } [ الأنعام : 150 ] ، { قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ }
{ قل أي شيء أكبر شهادة } نزلت حين قالت قريش : يا محمد لقد سألنا عنك اليهود والنصارى ، فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة فأرنا من يشهد لك أنك رسول الله . والشيء يقع على كل موجود ، وقد سبق القول فيه في سورة " البقرة " . { قل الله } أي الله أكبر شهادة ثم ابتدأ { شهيد بيني وبينكم } أي هو شهيد بيني وبينكم ، ويجوز أن يكون الله شهيد هو الجواب لأنه سبحانه وتعالى إذا كان الشهيد كان أكبر شيء شهادة . { وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به } أي بالقرآن ، واكتفى بذكر الإنذار عن ذكر البشارة . { ومن بلغ } عطف على ضمير المخاطبين ، أي لأنذركم به يا أهل مكة وسائر من بلغه من الأسود والأحمر ، أو من الثقلين ، أو لأنذركم به أيها الموجودون ومن بلغه إلى يوم القيامة ، وفيه دليل على أن أحكام القرآن تعم الموجودين وقت نزوله ومن بعدهم ، وأنه لا يؤاخذ بها من لم تبلغه . { أئنكم لتشهدون مع الله آلهة أخرى } تقرير لهم مع إنكار واستبعاد . { قل لا أشهد } بما تشهدون . { قل إنما هو إله واحد } أي بل أشهد أن لا إله إلا هو . { وإنني بريء مما تشركون } يعني الأصنام .
{ قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لنذركم به ومن بلغ }
انتقال من الاستدلال على إثبات ما يليق بالله من الصفات ، إلى إثبات صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وإلى جعْلِ الله حكماً بينه وبين مكذّبيه ، فالجملة استئناف ابتدائي ، ومناسبة الانتقال ظاهرة .
روى الواحدي في « أسباب النزول » عن الكلبي : أنّ رؤساء مكّة قالوا : يا محمد ما نرى أحداً مصدّقَك بما تقول ، وقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس عندهم ذكرُك ولا صفتك فأرِنا من يشهد أنّك رسول الله . فنزلت هذه الآية .
وقد ابتدئت المحاورة بأسلوب إلقاء استفهام مستعمل في التقرير على نحو ما بيّنته عند قوله تعالى : { قل لمن ما في السماوات والأرض } [ الأنعام : 12 ] ومثل هذا الأسلوب لإعداد السامعين لتلقّي ما يرد بعد الاستفهام .
و ( أي ) اسم استفهام يطلب به بيان أحد المشتركات فيما أضيف إليه هذا الاستفهام ، والمضاف إليه هنا هو { شيء } المفسّر بأنَّه من نوع الشهادة .
و { شَيء } اسم عامّ من الأجناس العالية ذات العموم الكثير ، قيل : هو الموجود ، وقيل : هو ما يعلم ويصحّ وجوده . والأظهر في تعريفه أنّه الأمر الذي يعلم . ويجري عليه الإخبار سواء كان موجوداً أو صفة موجود أو معنى يتعقّل ويتحاور فيه ، ومنه قوله تعالى : { فقال الكافرون هذا شيء عجيب أإذا متنا وكنّا تراباً ذلك رجْع بعيد } [ ق : 2 ، 3 ] .
وقد تقدّم الكلام على مواقع حسن استعمال كلمة ( شيء ) ومواقع ضعفها عند قوله تعالى : { ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع } في سورة [ البقرة : 155 ] .
( { وأكبَرُ } هنا بمعنى أقوى وأعدل في جنس الشهادات ، وهو من إطلاق ما مدلوله عظم الذات على عظم المعنى ، كقوله تعالى : { ورضوان من الله أكبر } [ التوبة : 72 ] وقوله : { قل قتال فيه كبير } وقد تقدّم في سورة [ البقرة : 217 ] .
وقوة الشهادة بقوة اطمئنان النفس إليها وتصديق مضمونها .
وقوله : { شهادة } تمييز لنسبة الأكبرية إلى الشيء فصار ماصْدق الشيء بهذا التمييز هو الشهادة . فالمعنى : أيّة شهادة هي أصدق الشهادات ، فالمستفهم عنه بِ { أي } فرد من أفراد الشهادات يطلب عِلم أنَّه أصدق أفراد جنسه .
والشهادة تقدّم بيانها عند قوله تعالى : { شهادة بينكم } في سورة [ المائدة : 106 ] .
ولمّا كانت شهادة الله على صدق الرسول غير معلومة للمخاطبين المكذّبين بأنّه رسول الله ، صارت شهادة الله عليهم في معنى القسم على نحو قوله تعالى : { ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنّه لمن الكاذبين } [ النور : 8 ] أي أن تُشهد الله على كذب الزوج ، أي أن تحلف على ذلك بسم الله ، فإنّ لفظ ( أشهد الله ) من صيغ القسم إلاّ أنّه إن لم يكن معه معنى الإشهاد يكون مجازاً مرسلاً ، وإن كان معه معنى الإشهاد كما هنا فهو كناية عن القسم مراد منه معنى إشهاد الله عليهم ، وبذلك يظهر موقع قوله : { الله شهيد بيني وبينكم } ، أي أشهده عليكم .
وقريب منه ما حكاه الله عن هود { قال إنّي أشهد الله } [ هود : 54 ] .
وقوله : { قل الله شهيد بيني وبينكم } جواب للسؤال ، ولذلك فصلت جملته المصدّرة ب { قل } . وهذا جواب أمر به المأمور بالسؤال على معنى أن يسأل ثم يبادر هو بالجواب لكون المراد بالسؤال التقرير وكون الجواب ممّا لا يسع المقرّر إنكاره ، على نحو ما بيّنّاه في قوله : { قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله } [ الأنعام : 12 ] ووقع قوله : { الله شهيد بيني وبينكم } جواباً على لسانهم لأنّه مرتّب على السؤال وهو المقصود منه فالتقدير : قل شهادة الله أكبر شهادة ، فالله شهيد بيني وبينكم ، فحذف المرتّب عليه لدلالة المرتّب إيجازاً كما هو مقتضى جزالة أسلوب الإلجاء والجدل . والمعنى : أنّي أشهد الله الذي شهادته أعظم شهادة أنّني أبلغتكم أنّه لا يرضى بأن تشركوا به وأنذرتكم .
وفي هذه الآية ما يقتضي صحة إطلاق اسم ( شيء ) على الله تعالى لأنّ قوله : { الله شهيد } وقع جواباً عن قوله : { أي شيء } فاقتضى إطلاق اسم ( شيء ) خبراً عن الله تعالى وإن لم يدلّ صريحاً . وعليه فلو أطلقه المؤمن على الله تعالى لما كان في إطلاقه تجاوز للأدب ولا إثم . وهذا قول الأشعرية خلافاً لجهم بن صفوان وأصحابه .
ومعنى : { شهيد بيني وبينكم } أنّه لمّا لم تنفعهم الآيات والنذر فيرجعوا عن التكذيب والمكابرة لم يبق إلاّ أن يكلهم إلى حساب الله تعالى . والمقصود : إنذارهم بعذاب الله في الدنيا والآخرة . ووجه ذكر { بيني وبينكم } أنّ الله شهيد له ، كما هو مقتضى السياق . فمعنى البيْن أنّ الله شهيد للرسول صلى الله عليه وسلم بالصدق لردّ إنكارهم رسالته كما هو شأن الشاهد في الخصومات .
وقوله : { وأوحي إليّ هذا القرآن } عطف على جملة { الله شهيد بيني وبينكم } ، وهو الأهمّ فيما أقسم عليه من إثبات الرسالة . وينطوي في ذلك جميع ما أبلغهم الرسول صلى الله عليه وسلم وما أقامه من الدلائل . فعطف { وأوحي إلي هذا القرآن } من عطف الخاصّ على العامّ ، وحُذف فاعل الوحي وبني فعله للمجهول للعلم بالفاعل الذي أوحاه إليه وهو الله تعالى .
والإشارة ب { هذا القرآن } إلى ما هو في ذهن المتكلّم والسامع . وعطف البيان بعد اسم الإشارة بيَّن المقصود بالإشارة .
واقتصر على جعل علّة نزول القرآن للنذارة دون ذكر البشارة لأنّ المخاطبين في حال مكابرتهم التي هي مقام الكلام لا يناسبهم إلاّ الإنذار ، فغاية القرآن بالنسبة إلى حالهم هي الإنذار ، ولذلك قال { لأنذركم به } مصرَّحاً بضمير المخاطبين . ولم يقل : لأنذر به ، وهم المقصود ابتداء من هذا الخطاب وإن كان المعطوف على ضميرهم ينذر ويبشّر . على أنّ لام العلّة لا تؤذن بانحصار العلّة في مدخولها إذ قد تكون للفعل المعدّى بها علل كثيرة .
{ ومن بلغ } عطف على ضمير المخاطبين ، أي ولأنذر به من بلغه القرآن وسمعه ولو لم أشافهه بالدعوة ، فحذف ضمير النصب الرابط للصلة لأنّ حذفه كثير حسن ، كما قال أبو علي الفارسي .
وعموم { مَن } وصلتها يشمل كلّ من يبلغه القرآن في جميع العصور .
{ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ الله ءَالِهَةً أخرى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إله واحد وَإِنَّنِى بَرِىءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } .
جملة مستأنفة من جملة القول المأمور بأن يقوله لهم . فهي استئناف بعد جملة { أيّ شيء أكبر شهادة } . خصّ هذا بالذكر لأنّ نفي الشريك لله في الإلهية هو أصل الدعوة الإسلامية فبعد أن قرّرهم أنّ شهادة الله أكبر شهادة وأشهد الله على نفسه فيما بلّغ ، وعليهم فيما أعرضوا وكابروا ؛ استأنف استفهاماً على طريقة الإنكار استقصاء في الإعذار لهم فقال : أتشهدون أنتم على ما أصررتم عليه أنّ مع الله آلهة أخرى كما شهدت أنا على ما دعوتكم إليه ، والمقرّر عليه هنا أمر ينكرونه بدلالة المقام .
وإنّما جعل الاستفهام المستعمل في الإنكار عن الخبر الموكّد ب ( إنّ ) ولام الابتداء ليفيد أنّ شهادتهم هذه ممَّا لا يكاد يصدَّق السامعون أنّهم يشهدونها لاستبعاد صدورها من عقلاء ، فيحتاج المخبر عنهم بها إلى تأكيد خبره بمؤكّديْن فيقول : إنّهم ليشهدون أنّ مع الله آلهة أخرى ، فهنالك يحتاج مخاطبهم بالإنكار إلى إدخال أداة الاستفهام الإنكاري على الجملة التي من شأنها أن يحكى بها خبرهم ، فيفيد مثلُ هذا التركيب إنكارين : أحدهما صريح بأداة الإنكار ، والآخر كنائي بلازم تأكيد الإخبار لغرابة هذا الزعم بحيث يشكّ السامع في صدوره منهم .
ومعنى { لتشهدون } لتدّعونا دعوى تحقَّقونها تحقيقاً يشبه الشهادة على أمر محقّق الوقوع ، فإطلاق { تشهدون } مشاكلة لقوله { قل الله شهيد بيني وبينكم } .
والآلهة جمع إله ، وأجري عليه الوصف بالتأنيث تنبيهاً على أنّها لا تعقل فإنّ جمع غير العاقل يكون وصفه كوصف الواحدة المؤنّثة .
وقوله : { قل لا أشهد } جواب للاستفهام الذي في قوله : { أإنّكم لتشهدون } لأنّه بتقدير : قل أإنّكم ، ووقعت المبادرة بالجواب بتبرّىء المتكلّم من أن يشهد بذلك لأنّ جواب المخاطبين عن هذا السؤال معلوم من حالهم أنّهم مقرّون به فأعرض عنهم بعد سؤالهم كأنّه يقول : دعْنا من شهادتكم وخذوا شهادتي فإنّي لا أشهد بذلك . ونظير هذا قوله تعالى : { فإن شهدوا فلا تشهد معهم } [ الأنعام : 15 ] .
وجملة : { قل إنّما هو إله واحد } بيان لجملة { لا أشهد } فلذلك فصلت لأنّها بمنزلة عطف البيان ، لأنّ معنى لا أشهد بأنّ معه آلهة هو معنى أنّه إله واحد ، وأعيد فعل القول لتأكيد التبليغ .
وكلمة { إنّما } أفادت الحصر ، أي هو المخصوص بالوحدانية : ثم بالغ في إثبات ذلك بالتبرّىء من ضدّه بقوله : { وإنّني بريء ممَّا تشركون } . وفيه قطع للمجادلة معهم على طريقة المتاركة .
و ( ما ) في قوله : { ممّا تشركون } يجوز كونها مصدرية ، أي من إشراككم . ويجوز كونها موصولة ، وهو الأظهر ، أي من أصنامكم التي تشركون بها ، وفيه حذف العائد المجرور لأنّ حرف الجرّ المحذوف مع العائد متعيّن تقديره بلا لبس ، وذلك هو ضابط جواز حذف العائد المجرور ، كقوله تعالى : { أنسجد لما تأمرنا } [ الفرقان : 60 ] أي بتعظيمه ، وقوله تعالى : { فاصدع بما تؤمر } أي بالجهر به . وظاهر كلام « التسهيل » أنّ هذا ممنوع ، وهو غفلة من مؤلّفه اغترّ بها بعض شرّاح كتبه .