22- ولا يَحّلِف الصالحون وذوو اليسار منكم علي أن يمنعوا إحسانهم ممن يستحقونه من الأقارب والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وغيرهم لسبب من الأسباب الشخصية ، كإساءتهم إليهم ، ولكن ينبغي أن يسامحوهم ويعرضوا عن مجازاتهم ، وإذا كنتم تحبون أن يعفو الله عن سيئاتكم فافعلوا مع المسيء إليكم مثل ما تحبون أن يفعل بكم ربكم ، وتأدبوا بأدبه فهو واسع المغفرة والرحمة{[147]} .
وعلى ذكر التزكية والطهارة تجيء الدعوة إلى الصفح والمغفرة بين بعض المؤمنين وبعض - كما يرجون غفران الله لما يرتكبونه من أخطاء وذنوب - :
ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله ؛ وليعفوا وليصفحوا . ألا تحبون أن يغفر الله لكم ? والله غفور رحيم . .
نزلت في أبي بكر - رضي الله عنه - بعد نزول القرآن ببراءة الصديقة . وقد عرف أنه مسطح بن أثاثة كان ممن خاضوا فيه . وهو قريبه . وهو من فقراء المهاجرين . وكان أبو بكر - رضي الله عنه - ينفق عليه . فآلى على نفسه لا ينفع مسطحا بنافعة أبدا .
نزلت هذه الآية تذكر أبا بكر ، وتذكر المؤمنين ، بأنهم هم يخطئون ثم يحبون من الله أن يغفر لهم . فليأخذوا أنفسهم - بعضهم مع بعض - بهذا الذي يحبونه ، ولا يحلفوا أن يمنعوا البر عن مستحقيه ، إن كانوا قد أخطأوا وأساءوا . .
وهنا نطلع على أفق عال من آفاق النفوس الزكية ، التي تطهرت بنور الله . أفق يشرق في نفس أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أبي بكر الذي مسه حديث الإفك في أعماق قلبه ، والذي احتمل مرارة الاتهام لبيته وعرضه . فما يكاد يسمع دعوة ربه إلى العفو ؛ وما يكاد يلمس وجدانه ذلك السؤال الموحي : ( ألا تحبون أن يغفر الله لكم ? )حتى يرتفع على الآلام ، ويرتفع على مشاعر الإنسان ، ويرتفع على منطق البيئة . وحتى تشف روحه وترف وتشرق بنور الله . فإذا هو يلبي داعي الله في طمأنينة وصدق يقول : بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي . ويعيد إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه ، ويحلف : والله لا أنزعها منه أبدا . ذلك في مقابل ما حلف : والله لا أنفعه بنافعة أبدا .
بذلك يمسح الله على آلام ذلك القلب الكبير ، ويغسله من أوضار المعركة ، ليبقى أبدا نظيفا طاهرا زكيا مشرقا بالنور . .
يقول تعالى : { وَلا يَأْتَلِ } من الأليَّة ، [ وهي : الحلف ]{[20936]} أي : لا يحلف { أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ } أي : الطَّول والصدقة والإحسان { وَالسَّعَة } أي : الجِدَةَ { أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي : لا تحلفوا ألا تصلوا قراباتكم المساكين والمهاجرين . وهذه{[20937]} في غاية الترفق والعطف على صلة الأرحام ؛ ولهذا قال : { وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا } أي : عما تقدم منهم من الإساءة والأذى ، وهذا من حلمه تعالى وكرمه ولطفه بخلقه مع ظلمهم لأنفسهم .
وهذه الآية نزلت في الصدِّيق ، حين حلف ألا ينفع مِسْطَح بن أثاثة بنافعة بعدما قال في عائشة ما قال ، كما تقدم في الحديث . فلما أنزل الله براءةَ أم المؤمنين عائشة ، وطابت النفوس المؤمنة واستقرت ، وتاب الله على مَن كان تكلم من المؤمنين في ذلك ، وأقيم الحد على مَن أقيم عليه{[20938]} - شَرَع تبارك وتعالى ، وله الفضل والمنة ، يعطفُ الصدِّيق على قريبه ونسيبه ، وهو مِسْطَح بن أثاثة ، فإنه كان ابن خالة الصديق ، وكان مسكينًا لا مال له إلا ما ينفق عليه أبو بكر ، رضي الله عنه ، وكان من المهاجرين في سبيل الله ، وقد وَلَق وَلْقَة{[20939]} تاب الله عليه منها ، وضُرب الحد عليها . وكان الصديق ، رضي الله عنه ، معروفًا بالمعروف ، له الفضل والأيادي على الأقارب والأجانب . فلما نزلت هذه الآية إلى قوله : { أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي : فإن الجزاء من جنس العمل ، فكما تغفر{[20940]} عن المذنب إليك نغفر{[20941]} لك ، وكما تصفح نصفح{[20942]} عنك . فعند ذلك قال الصديق : بلى ، والله إنا نحب - يا ربنا - أن تغفر لنا . ثم رَجَع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة ، وقال : والله لا أنزعها منه أبدًا ، في مقابلة ما كان قال : والله لا{[20943]} أنفعه بنافعة أبدًا ، فلهذا كان الصدّيق هو الصديق [ رضي الله عنه وعن بنته ]{[20944]} .
{ ولا يأتل } ولا يحلف افتعال من الألية ، أو ولا يقصر من الألو ، ويؤيد الأول أنه قرئ ولا " يتأل " . وأنه نزل في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وقد حلف أن لا ينفق على مسطح بعد وكان ابن خالته وكان من فقراء المهاجرين . { أولوا الفضل منكم } في الدين . { والسعة } في المال . وفيه دليل على فضل أبي بكر وشرفه رضي الله تعالى عنه . { أن يؤتوا } على أ لا { يؤتوا } ، أو في { أن يؤتوا } . وقرئ بالتاء على الالتفات . { أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله } صفات لموصوف واحد ، أي ناسا جامعين لها لأن الكلام فيمن كان كذلك ، أو لموصفات أقيمت مقامها فيكون أبلغ في تعليل المقصود . { وليعفوا } عما فرط منهم . { وليصفحوا } بالإغماض عنه . { ألا تحبون أن يغفر الله لكم } على عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم . { والله غفور رحيم } مع كمال قدرته فتخلقوا بأخلاقه . روي أنه عليه الصلاة والسلام قرأها على أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال : بلى أحب ورجع إلى مسطح نفقته .
المشهور من الروايات أن هذه الآية نزلت في قصة أبي بكر بن أبي قحافة الصديق ومسطح بن أثاثة ، وذلك أنه كان ابن خالته وكان من المهاجرين البدريين المساكين وهو مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب بن عبد مناف ، وقيل اسمه عوف ومسطح لقب ، وكان أَبو بكر ينفق عليه لمسكنته ، فلما وقع أمر الإفك وقال فيه مسطح ما قال حلف أبو بكر ألا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعة أبداً ، فجاءه مسطح فاعتذر وقال إنما كنت أغشى مجلس حسان فأسمع ولا أقول ، فقال له أبو بكر لقد ضحكت وشاركت فيما قيل ومر على يمينه ، فنزلت الآية ، وقال الضحاك وابن عباس إن جماعة من المؤمنين قطعوا منافعهم عن كل من قال في الإفك وقالوا والله لا نصل من تكلم في شأن عائشة فنزلت الآية في جميعهم والأول أصح ، غير أن الآية تتناول الأمة إلى يوم القيامة بأن لا يغتاظ «ذو فضل وسعة » فيحلف أن لا ينفع من هذه صفته غابر الدهر ، ورأى الفقهاء من حلف ألا يفعل سنة من السنن أو مندوباً وأبد ذلك أنها جرحة في شهادته ذكر الباجي في المنتقى ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم «أيكم المتألي على الله لا يفعل المعروف »{[8645]} ، و { يأتل } معناه يحلف وزنها يفتعل من الألية وهي اليمين{[8646]} ، وقالت فرقة معناه يقصر من قولك ألوت في كذا إذا قصرت فيه ، ومن قوله تعالى : { لا يألونكم خبالاً }{[8647]} ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وزيد بن أسلم «ولا يتأل » وهذا وزنه يتفعل من الألية بلا خلاف وهي في المصحف ياء تاء لام ، فلذلك ساغ هذا الخلاف لأبي جعفر وزيد فروياه ، وذكر الطبري أن خط المصحف مع قراءة الجمهور فظاهر قوله إن ثم ألفاً قبل التاء ، و «الفصل والسعة » هنا هي المال ، وقوله تعالى : { ألا تحبون } الآية تمثيل وحجة أي كما تحبون عفو الله لكم عن ذنوبكم فذلك أغفر لمن دونكم وينظر إلى هذا المعنى قول النبي عليه السلام «من لا َيرحم لا يُرحم »{[8648]} فروي أن أبا بكر رضي الله عنه لما نزلت هذه الآية قال إني لأحب أن يغفر الله لي ورجع إلى مسطح النفقة والإحسان الذي كان يجري عليه ، قالت عائشة وكفر عن يمينه ، وقرأ ابن مسعود وسفيان بن حسين «ولتعفوا ولتصفحوا » بالتاء من فوق فيهما ، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال بعض الناس هذه أرجى آية في كتاب الله عز وجل من حيث لطف الله فيها بالقذفة العصاة بهذا اللفظ ، قال القاضي أبو محمد وإنما تعطي الآية تفضلاً من الله في الدنيا وإنما الرجاء في الآخرة ، أما أن الرجاء في هذه الآية بقياس أي إذا أمر «أولي السعة » بالعفو فطرد هذا التفضل بسعة رحمته لا رب سواه ، وإنما آيات الرجاء قوله تعالى :
{ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم }{[8649]} [ الزمر : 53 ] . وقوله تعالى : { الله لطيف بعباده }{[8650]} [ الشورى : 19 ] . وسمعت أبي رضي الله عنه يقول إن أرجى آية في كتاب الله عندي قوله تعالى : { وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً }{[8651]} [ الأحزاب : 47 ] . وقد قال تعالى في آية أخرى : { والذين آمنوا وعملو الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير }{[8652]} [ الشورى : 22 ] . فشرح الفضل الكبير في هذه الآية وبشر بها المؤمنين في تلك ، وقال بعضهم أرجى آية في كتاب الله تعالى قوله تعالى : { ولسوف يعطيك ربك فترضى }{[8653]} [ الضحى : 5 ] . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرضى ببقاء أحد من أمته في النار .