غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَلَا يَأۡتَلِ أُوْلُواْ ٱلۡفَضۡلِ مِنكُمۡ وَٱلسَّعَةِ أَن يُؤۡتُوٓاْ أُوْلِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ وَلۡيَعۡفُواْ وَلۡيَصۡفَحُوٓاْۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغۡفِرَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (22)

11

ثم علم أدباً آخر جميلاً بقوله { ولا يأتل } وهو افتعل من الألية أي لا يحلف على عدم الإحسان ، وحرف النفي يحذف من جواب القسم كثيراً فهي كقراءة من قرأ { ولا يتأل } وقيل : هو من قولهم " ما ألوت جهداً " إذا لم يدخر من الاجتهاد شيئاً أي لا يقصر في الإحسان إلى المستحقين . قالوا : نزلت في شأن مسطح وكان ابن خالة أبي بكر الصديق فقيراً من فقراء المهاجرين ، وكان أبو بكر ينفق عليه . فلما فرط منه ما فرط آلى أن لا ينفق عليه فنزلت فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بكر ، فلما وصل إلى قوله { ألا تحبون أن يغفر الله لكم } قال أبو بكر : بلى أحب أن يغفر الله لي فعفا عن مسطح ورجع إلى الإنفاق عليه وقال : والله لا أنزعها أبداً . قال الإمام فخر الدين الرازي : هذه الآية تدل على أفضلية أبي بكر الصديق من وجوه ، وذلك أن الفضل المذكور في الآية لا يراد به السعة في المال والإلزام التكرار فهو الفضل في الدين ولكنه مطلق غير مقيد فثبت له الفضل على الإطلاق . تركنا العمل به في حق النبي صلى الله عليه وسلم بالاتفاق فيبقى في الغير معمولاً به . وأيضاً ذكره الله تعالى في الآية بلفظ الجمع وإنه مشعر بالتعظيم . وأيضاً قد قيل :

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة *** على المرء من وقع الحسام المهند

فهذا الظلم من مسطح كان في غاية العظم وقد أمره الله تعالى بالصفح عنه ، وامتثل هو فكان فيه نهاية جهاد النفس فيكون ثوابه على حسن ذلك . وأيضاً في تسميته أولي الفضل والسعة شرف تام فكأنه قيل له : أنت أفضل من أن تقابل إنساناً بسوء وأنت أوسع قلباً من أن تقيم للدنيا وزناً فلا يليق بفضلك وسعة قلبك أن يقطع برك عمن أساء إليك . وأيضاً أرمه الله تعالى بالعفو والصفح وقال لنبيه { فاعف عنهم واصفح }

[ المائدة : 13 ] فهو من هذه الجهة ثاني اثنين له في الأخلاق . وأيضاً علق المغفرة بالعفو وقد حصل العفو فتحصل المغفرة ألبتة في الحال وفي الاستقبال لقوله { أن يغفر } فهو للاستقبال فيكون كما قال لنبيه { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر }

[ الفتح : 2 ] وفيه دليل على حقية خلافته وإلا كان عاصياً والعاصي في النار . وليس النهي في قوله { ولا يأتل } نهي زجر عن المعصية ولكنه ندب إلى الأولى والأفضل وهو العفو . عن النبي صلى الله عليه وسلم " أفضل أخلاق المسلمين العفو " وعنه صلى الله عليه وسلم " لا يكون العبد ذا فضل حتى يصل من قطعه ويعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه " واعلم أن العلماء أجمعوا على أن مسطحاً كان مذنباً لأنه أتى بالقذف أو رضي به على الروايتين عن ابن عباس ، ولهذا حده رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأجمعوا أيضا على أنه من البدريين وقد ورد فيهم الخبر الصحيح " لعل الله نظر إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " فكيف الجمع بين الأمرين ؟ أجابوا أنه ليس المراد من قوله " اعملوا ما شئتم " أنهم خارجون عن حد التكليف وإنما المراد اعملوا من النوافل ما شئتم قليلاً أو كثيراً فقد أعطيتكم الدرجات العليات في الجنة ، أو أراد حسن حالهم في العاقبة أنهم يوافون بالطاعة فكأنه قال : قد غفرت لكم لعلمي بأنكم تموتون على التوبة والإنابة . قالت الأشاعرة : في وصف مسطح ومدحه بكونه من المهاجرين دليل على أن ثواب كونه مهاجراً لم ينحبط بإقدامه على القذف فيكون القول بالمحابطة باطلاً . استدل جمهور الفقهاء بالآية في قول من فسر الائتلاء بالحلف على أن اليمين على الامتناع من الخير غير جائزة وإنما يجوز إذا جعلت داعية للخير لا صارفة عنه . ثم قالوا : من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فينبغي له أن يأتي بالذي هو خير ثم يكفر عن يمينه كما جاء في الحديث ولقوله تعالى { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الإيمان } [ المائدة : 89 ] وهو عام في جانب الخير وفي غيره . ومثله ما ورد في قصة أيوب { وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به } [ ص : 44 ] ولو كان الحنث كفارة لو يؤمر بضرب الضغث عيها . وقال بعض العلماء : إنه يأتي بالذي هو خير وذلك كفارته لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر " من حلف عليّ يمين فرأى غيرها خبراً منها فليأت بالذي هو خير وذلك كفارته " ولأنه تعالى أمر أبا بكر في هذه الآية بالحنث ولو يوجب عليه كفارة . وأجيب بأن معنى الكفارة في الحديث تكفير الذنب لا الكفارة الشرعية التي هي إحدى الخصال ، وإنما ذهبنا إلى هذا ليكون مطابقاً للحديث الآخر " من حلف عليّ يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه " وأما هذه الآية فإنما لم يذكر فيها الكفارة لأنها معلومة من آية المائدة .

/خ26