قوله تعالى : { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ } الآية .
يجوز أن يكون «يَأْتَلِ » : «يفتعل » ، من الألية ، وهي الحلف{[34269]} ، كقوله :
وَآلَتْ حَلْفَةً لَمْ تَحَلَّلِ{[34270]} *** . . .
ونصر الزمخشري هذا بقراءة الحسن «ولا يَتَأَلَّ »{[34271]} من الأليَّة ، كقوله : «مَنْ يَتَأَلَّ عَلَى اللَّهِ يُكَذبْهُ »{[34272]} .
ويجوز أن يكون «يفتعل » من أَلَوْت{[34273]} ، أي : قَصَّرْتُ ، كقوله تعالى : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً }{[34274]} [ آل عمران : 118 ] قال :
وَمَا المَرْءُ مَا دَامَتْ حُشَاشَة نَفْسِهِ *** بمُدْرِكِ أَطْرَافِ الخُطُوبِ وَلاَ آلِ{[34275]}
وقال أبو البقاء : وقرئ : «وَلاَ يَتَأَلَّ » على «يَتفعل »{[34276]} وهو من الألية{[34277]} أيضاً ، ومنه :
تَألَّى ابنُ أَوْسٍ حَلْفَةً لَيَرُدُّنِي *** إلى نِسْوَةٍ كَأَنَّهُنَّ مَفَائِدُ{[34278]}
قوله : «أَنْ يُؤْتُوا » هو على إسقاط الجار ، وتقديره على القول الأول : ولا يأتل أولو الفضل على أن لا يحسنوا . وعلى الثاني : ولا يقصر أولو الفضل في أن يحسنوا{[34279]} .
وقرأ أبو حيوة وأبو البرهسيم وابن قطيب{[34280]} : «تؤتوا » بتاء الخطاب{[34281]} ، وهو التفات موافق لقوله : «أَلاَ تُحِبُّون » . وقرأ الحسن وسفيان بن الحسين{[34282]} «ولتعفوا ولتصفحوا » بالخطاب{[34283]} وهو موافق لما بعده .
فصل{[34284]}
المشهور أن معنى الآية : لا يحلف أولو الفضل ، فيكون «افتعال » من الألية .
قال أبو مسلم : وهذا ضعيف لوجهين :
أحدهما : أن ظاهر الآية على هذا التأويل يقتضي المنع عن الحلف على الإعطاء ، وهم أرادوا المنع على ترك الإعطاء ، فهذا المتأول قد أقام النفي مكان الإيجاب ، وجعل المنهي عنه مأموراً به .
الثاني : أنه قلما يوجد في الكلام «أَفتعَلت » مكان «أفعلت » ( وإنما وجد مكان «فعلت{[34285]} » ) وهنا{[34286]} آليْتُ من الأليّة : «افْتَعَلْتُ » فلا يقال : أفعلت ، كما لا يقال من ألزمت التزمت ، ومن أعطيت اعتطيت . ثم قال في «يأتل » : إن أصله «يأتلي »{[34287]} ذهبت الياء للجزم لأنه نهي ، وهو من قولك : مَا ألوتُ فلاناً نصحاً ، ولم آل في أمري جُهْداً ، أي : ما قصرت . ولا يأل ولا يأتل ولم يأل والمراد : لا تقصروا في أن تحسنوا إليهم ، ويوجد كثيراً «افْتَعَلْتُ » مكان «فَعَلْت »{[34288]} ، تقول : كسبتُ واكتسبت ، وصنعتُ واصطنعتُ ، وهذا التأويل مروي عن أبي عبيدة . قال ابن الخطيب : «وهذا هو الصحيح دون الأول » {[34289]} .
وأجاب الزجاج عن الأول بأن «لا » تحذف في اليمين كثيراً ، قال الله تعالى : { وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ }{[34290]} [ البقرة : 224 ] يعني : أن لا تبروا ، وقال امرؤ القيس :
فَقُلْتُ يَمِين اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِداً{[34291]} *** . . .
وأجابوا عن السؤال الثاني أن جميع المفسرين الذين كانوا قبل أبي مسلم فسروا اللفظ باليمين ، وقول واحد منهم حجة في اللغة ، فكيف الكل ؟ ويعضده قراءة الحسن : «ولا يَتَأَلَّ »{[34292]} .
قال المفسرون معناه : ولا يحلف { أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة } أي : أولوا الغنى ، يعني : أبا بكر الصديق{[34293]} { أَن يؤتوا أُوْلِي القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله } يعني : مِسْطَحاً ، وكان مسكيناً مهاجراً بدرياً ابن خالة أبي بكر حلف أبو بكر لا ينفق عليه «وَلْيَعْفُوا وليصْفَحُوا » عنهم خوضهم في أمر عائشة «أَلاَ تُحِبُّونَ » يخاطب أبا بكر { أَن يَغْفِرَ الله ( لَكُمْ ) {[34294]} والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فلما قرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي بكر قال : «بلى إنما أحب أن يغفر الله لي » ورجع إلى مسطح نفقته التي كان ينفق عليه ، وقال : «والله لا أنزعها منه أبداً »{[34295]} .
وقال ابن عباس والصحابة{[34296]} أقسم ناس من الصحابة فيهم أبو بكر ألا يتصدقوا على رجل تكلم بشيء من الإفك ولا ينفعوهم فأنزل الله هذه الآية {[34297]} .
فصل{[34298]}
أجمع المفسرون على أن المراد من قوله : «أولُوا الفَضْل » أبو بكر ، وهذا يدل على أنه كان أفضل الناس بعد الرسول ، لأن الفضل المذكور في الآية إما في الدنيا وإما في الدين ، والأول باطل ، لأنه تعالى ذكره في معرض المدح له ، والمدح من الله بالدنيا غير جائز ، ولأنه لو جاز ذلك لكان قوله : «والسَّعَة » تكريراً ، فتعين أن يكون المراد منه الفضل في الدين ، فلو كان غيره مساوياً له في الدرجة في الدين لم يكن هو صاحب الفضل ، لأن المساوي لا يكون فاضلاً ، فلما أثبت الله له الفضل غير مقيد بشخص{[34299]} دون شخص وجب أن يكون أفضل الخلق تُرك العمل به في حق الرسول - عليه السلام{[34300]} - فيبقى معمولاً به في حق الغير .
وأجمعت الأمة على أن الأفضل إما أبو بكر أو عليّ ، فإذا تبين أنه ليس المراد عليًّا{[34301]} تعينت الآية في أبي بكر .
وإنما قلنا : ليس المراد عليًّا ، لأن ما قبل الآية وما بعدها يتعلق{[34302]} بابنة{[34303]} أبي بكر ، ولأنه تعالى وصفه بأنه من أولي السعة ، وأن عليًّا - رضي الله عنه - لم يكن من أولي السَّعة في الدنيا في ذلك الوقت ، فثبت أن المراد منه أبو بكر قطعاً .
أجمعوا على أن مِسْطَحاً كان من البدريين ، وصح عنه عليه السلام{[34304]} أنه قال : «لَعَلَّ الله نظرَ إلى أهل بدر فقال : اعمَلُوا ما شِئْتُم ، فقد غفرت لكم »{[34305]} فكيف صدرت الكبيرة منه بعد أن كان بدريًّا ؟
والجواب : أنه لا يجوز أن يكون المراد منه : افعلوا ما شئتم من المعاصي ، فيأمر بها ، لأنا نعلم بالضرورة أن التكليف كان باقياً عليهم ، ولو حملناه على ذلك لأفضى إلى زوال التكليف عنهم ، ولو كان كذلك لما جاز أن يحدّ مِسْطح على ما فعل ، فوجب حمله على أحد أمرين :
الأول : أنه تعالى علم توبة أهل بدر فقال : افعلوا ما شئتم من النوافل من قليل أو كثير ، فقد غفرت لكم وأعطيتكم الدرجات العالية في الجنة .
والثاني : أن يكون المراد أنهم يوافون بالطاعة ، فكأنه تعالى قال : قد{[34306]} غفرتُ لكم لعلمي بأنَّكم تموتون على التوبة والإنابة ، فذكر حالهم في الوقت وأراد العاقبة{[34307]} .
دلت الآية على أن ( الأيمان على{[34308]} ) الامتناع من الخير غير جائز ، وإنما يجوز إذا حصلت داعية صارفة عنه{[34309]} .
مذهب الجمهور أنَّ من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها ، أنه ينبغي له أن يأتي الذي هو خير ثم يكفر عن يمينه .
وقال بعضهم : إنه يأتي بالذي هو خير ، وذلك هو كفارته ، لأن الله تعالى أمر أبا بكر بالحنث ولم يوجب عليه كفارة . ولقوله عليه السلام{[34310]} : «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فرأى غيرها خيراً مِنْهَا فليأتِ الذي هو خير ، وذلك كفارته » .
واحتج الجمهور بقوله تعالى : { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان فَكَفَّارَتُهُ } [ المائدة : 89 ] ، وقوله : { ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ }{[34311]} [ المائدة : 89 ] ، وقوله لأيوب - عليه السلام{[34312]} - : { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ }{[34313]} [ ص : 44 ] وقد علمنا أن الحنث كان خيراً من تركه ، ولو كان الحنث فيها كفارتها لما أمر بضربها ، بل كان يحنث بلا كفارة ، وقال عليه السلام{[34314]} : «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمينٍ فرَأَى غيرَها خيراً منْهَا فليأتِ الَّذِي هو خيرٌ وليكفِّرْ عن يمينه{[34315]} » .
وأما قولهم : إنَّ الله تعالى لم يذكر الكفارة في قصة أبي بكر ، فإن حكمها كان معلوماً عندهم . وأما قوله عليه السلام{[34316]} : «وليأت الذي هو خير ، وذلك كفارته » فمعناه : تكفير الذنب لا أنه الكفارة المذكورة في الكتاب{[34317]} .
روي عن عائشة أنها قالت : «فَضِلْتُ على أزواج النبي{[34318]} بعشر خصال :
تزوج رسول الله بي{[34319]} بكراً دون غيري ، وأبواي مهاجران{[34320]} ، وجاء جبريل بصورتي وأمره أن يتزوج بي ، وكنت أغتسل معه في إنائه ، وجبريل ينزل عليه وأنا معه في لحاف ، وتزوج في شوال ، وبنى بي في ذلك الشهر وقبض بين{[34321]} سحري ونحري{[34322]} ، وأنزل الله عذري من السماء ، ودفن في بيتي ، وكل ذلك لم يساوني فيه غيري »{[34323]} .
وقال{[34324]} بعضهم : «لقد برَّأ الله أربعة بأربعة : بَرأ يوسف { وَشَهِدَ شَاهِدٌ{[34325]} مِّنْ أَهْلِهَآ{[34326]} } [ يوسف : 26 ] ، وبرأ موسى من قول اليهود بالحجر الذي ذهب بثوبه ، وبرأ مريم بإنطاق ولدها{[34327]} ، وبرأ عائشة بهذه الآيات في كتابه المتلو على وجه الدهر »{[34328]} .