هذه البقية من الحديث عن اليهود والنصارى والمشركين ، ومواقفهم من الرسول [ ص ] ومن الأمة المسلمة ؛ هي طرف من الحديث الطويل الذي تضمنته السورة من قبل خلال أكثر من [ ربعين ] فقد تناولت الحديث عن فساد عقيدة اليهود والنصارى معاً ، وسوء طوية اليهود وسوء فعلهم ، سواء مع أنبيائهم من قبل أو مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونصرة المشركين عليه . . كما تناولت الحكم على عقيدة اليهود والنصارى التي انتهوا إليها بأنها " الكفر " لتركهم ما جاء في كتبهم وتكذيبهم بما جاءهم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتوكيد بأنهم ليسوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم . . ثم وجه الحديث إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليبلغ ما أنزل إليه من ربه إلى الجميع مشركين ويهودا ونصارى ؛ فكلهم ليسوا على شيء من دين الله ؛ وكلهم مخاطب بالإسلام للدخول فيه . كما وجه الحديث إلى الأمة المسلمة لتتولى الله والرسول والذين آمنوا ، ولا تتولى اليهود والنصارى ، فإن بعضهم أولياء بعض ؛ واليهود يتولون الذين كفروا ؛ وقد لعنوا على لسان داود وعيسى بن مريم . . . الخ . . .
فالآن تجيء هذه البقية لتقرير مواقف هذه الطوائف جميعاً من النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن الأمة المسلمة . ولتقرير الجزاء الذي ينتظر الجميع في الآخرة . .
لقد كانت هذه الأمة تتلقى هذا القرآن لتقرر - وفق توجيهاته وتقريراته - خطتها وحركتها ، ولتتخذ - وفق هذه التوجيهات والتقريرات - مواقفها من الناس جميعاً . فهذا الكتاب كان هو موجهها ومحركها ورائدها ومرشدها . . ومن ثم كانت تَغلب ولا تُغلب ، لأنها تخوض معركتها مع أعدائها تحت القيادة الربانية المباشرة ؛ مذ كان نبيها يقودها وفق الإرشادات الربانية العلوية . .
وهذه الإرشادات الربانية ما تزال ؛ والتقريرات التي تضمنها ذلك الكتاب الكريم ما تزال . والذين يحملون دعوة الاسلام اليوم وغداً خليقون أن يتلقوا هذه التقريرات وتلك الإرشادات كأنهم يخاطبون بها اللحظة ؛ ليقرروا على ضوئها مواقفهم من شتى طوائف الناس ؛ ومن شتى المذاهب والمعتقدات والآراء ، ومن شتى الأوضاع والأنظمة وشتى القيم والموازين . . اليوم وغداً وإلى آخر الزمان . .
{ لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا . . . }
إن صيغة العبارة تحتمل أن تكون خطاباً للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأن تكون كذلك خطاباً عاما خرج مخرج العموم ، لأنه يتضمن أمرا ظاهرا مكشوفا يجده كل إنسان . وهي صيغة لها نظائرها في الأسلوب العربي الذي نزل به القرآن الكريم . . وهي في كلتا الحالتين تفيد معناها الظاهر الذي تؤديه . .
فإذا تقرر هذا فإن الأمر الذي يلفت النظر في صياغة العبارة هو تقديم اليهود على الذين أشركوا في صدد أنهم أشد الناس عداوة للذين آمنوا ؛ وأن شدة عداوتهم ظاهرة مكشوفة وأمر مقرر يراه كل من يرى ، ويجده كل من يتأمل !
نعم إن العطف بالواو في التعبير العربي يفيد الجمع بين الأمرين ولا يفيد تعقيبا ولا ترتيبا . . ولكن تقديم اليهود هنا ، حيث يقوم الظن بأنهم أقل عداوة للذين آمنوا من المشركين - بما أنهم أصلا أهل كتاب - يجعل لهذا التقديم شأنا خاصا غير المألوف من العطف بالواو في التعبير العربي ! إنه - على الأقل - يوجه النظر إلى أن كونهم أهل كتاب لم يغير من الحقيقة الواقعة ، وهي أنهم كالذين أشركوا أشد عداوة للذين آمنوا ! ونقول : إن هذا " على الأقل " . ولا ينفي هذا احتمال أن يكون المقصود هو تقديمهم في شدة العداء على الذين أشركوا . .
وحين يستأنس الإنسان في تفسير هذا التقرير الرباني بالواقع التاريخي المشهود منذ مولد الإسلام حتى اللحظة الحاضرة ، فإنه لا يتردد في تقرير أن عداء اليهود للذين آمنوا كان دائما أشد وأقسى وأعمق إصرارا وأطول أمدا من عداء الذين أشركوا !
لقد واجه اليهود الإسلام بالعداء منذ اللحظة الأولى التي قامت فيها دولة الإسلام بالمدينة . وكادوا للأمة المسلمة منذ اليوم الأول الذي أصبحت فيه أمة . وتضمن القرآن الكريم من التقريرات والإشارات عن هذا العداء وهذا الكيد ما يكفي وحده لتصوير تلك الحرب المريرة التي شنها اليهود على الإسلام وعلى رسول الإسلام [ ص ] وعلى الأمة المسلمة في تاريخها الطويل ، والتي لم تخب لحظة واحدة قرابة أربعة عشر قرنا ، وما تزال حتى اللحظة يتسعر أوارها في أرجاء الأرض جميعا .
لقد عقد الرسول [ ص ] أول مقدمه إلى المدينة ، معاهدة تعايش مع اليهود ؛ ودعاهم إلى الإسلام الذي يصدق ما بين أيديهم من التوراة . . ولكنهم لم يفوا بهذا العهد - شأنهم في هذا كشأنهم مع كل عهد قطعوه مع ربهم أو مع أنبيائهم من قبل ، حتى قال الله فيهم : ( ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون . أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم ؟ بل أكثرهم لا يؤمنون . ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون )
ولقد أضمروا العداء للإسلام والمسلمين منذ اليوم الأول الذي جمع الله فيه الأوس والخزرج على الإسلام ، فلم يعد لليهود في صفوفهم مدخل ولا مخرج ، ومنذ اليوم الذي تحددت فيه قيادة الأمة المسلمة وأمسك بزمامها محمد رسول الله [ ص ] فلم تعد لليهود فرصة للتسلط !
ولقد استخدموا كل الأسلحة والوسائل التي تفتقت عنها عبقرية المكر اليهودية ، وأفادتها من قرون السبي في بابل ، والعبودية في مصر ، والذل في الدولة الرومانية . ومع أن الإسلام قد وسعهم بعد ما ضاقت بهم الملل والنحل على مدار التاريخ ، فإنهم ردوا للإسلام جميله عليهم أقبح الكيد وألأم المكر منذ اليوم الأول .
ولقد ألبوا على الإسلام والمسلمين كل قوى الجزيرة العربية المشركة ؛ وراحوا يجمعون القبائل المتفرقةلحرب الجماعة المسلمة : ( ويقولون للذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ) .
ولما غلبهم الاسلام بقوة الحق - يوم أن كان الناس مسلمين - استداروا يكيدون له بدس المفتريات في كتبه - لم يسلم من هذا الدس إلا كتاب الله الذي تكفل بحفظه سبحانه - ويكيدون له بالدس بين صفوف المسلمين ، وإثارة الفتن عن طريق استخدام حديثي العهد بالإسلام ومن ليس لهم فيه فقه من مسلمة الأقطار . ويكيدون له بتأليب خصومه عليه في انحاء الأرض . . حتى انتهى بهم المطاف أن يكونوا في العصر الأخير هم الذين يقودون المعركة مع الإسلام في كل شبر على وجه الارض ؛ وهم الذين يستخدمون الصليبية والوثنية في هذه الحرب الشاملة ، وهم الذين يقيمون الأوضاع ويصنعون الأبطال الذين يتسمون بأسماء المسلمين ، ويشنونها حربا صليبية صهيونية على كل جذر من جذور هذا الدين !
وصدق الله العظيم : ( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ) . .
إن الذي ألب الأحزاب على الدولة المسلمة الناشئة في المدينة ؛ وجمع بين اليهود من بني قريظة وغيرهم ؛ وبين قريش في مكة ، وبين القبائل الأخرى في الجزيرة . . يهودي . .
والذي ألب العوام ، وجمع الشراذم ، وأطلق الشائعات ، في فتنة مقتل عثمان - رضي الله عنه - وما تلاها من النكبات . . يهودي . .
والذي قاد حملة الوضع والكذب في أحاديث رسول الله [ ص ] وفي الروايات والسير . . يهودي . .
ثم إن الذي كان وراء إثارة النعرات القومية في دولة الخلافة الأخيرة ؛ ووراء الانقلابات التي ابتدأت بعزل الشريعة عن الحكم واستبدال " الدستور " بها في عهد السلطان عبدالحميد ، ثم انتهت بإلغاء الخلافة جملة على يدي " البطل " أتاتورك . . يهودي . .
وسائر ما تلا ذلك من الحرب المعلنة على طلائع البعث الإسلامي في كل مكان على وجه الأرض وراءه يهود !
ثم لقد كان وراء النزعة المادية الإلحادية . . يهودي . . ووراء النزعة الحيوانية الجنسية يهودي . . ووراء معظم النظريات الهدامة لكل المقدسات والضوابط يهود !
ولقد كانت الحرب التي شنها اليهود على الإسلام أطول أمدا ، وأعرض مجالا ، من تلك التي شنها عليه المشركون والوثنيون - على ضراوتها - قديما وحديثا . . إن المعركة مع مشركي العرب لم تمتد إلى أكثر من عشرين عاما في جملتها . . وكذلك كانت المعركة مع فارس في العهد الأول . وأما في العصر الحديث فإن ضراوة المعركة بين الوثنية الهندية والإسلام ضراوة ظاهرة ؛ ولكنها لا تبلغ ضراوة الصهيونية العالمية . . [ التي تعد الماركسية مجرد فرع لها ] وليس هناك ما يماثل معركة اليهود مع الإسلام في طول الأمد وعرض المجال إلا معركة الصليبية ، التي سنتعرض لها في الفقرة التالية .
فإذا سمعنا الله - سبحانه - يقول :
( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ) . .
ويقدم اليهود في النص على الذين أشركوا . . ثم راجعنا هذا الواقع التاريخي ، فإننا ندرك طرفا من حكمة الله في تقديم اليهود الذين أشركوا !
إنهم هذه الجبلة النكدة الشريرة ، التي ينغل الحقد في صدورها على الإسلام وعلى نبي الإسلام ، فيحذر الله نبيه وأهل دينه منها . . ولم يغلب هذه الجبلة النكدة الشريرة إلا الإسلام وأهله يوم أن كانوا أهله ! . . ولن يخلص العالم من هذه الجبلة النكدة إلا الإسلام يوم يفيء أهله إليه . .
( ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا : إنا نصارى . ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا ، وأنهم لا يستكبرون . وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ، يقولون : ربنا آمنا ، فاكتبنا مع الشاهدين . وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ، ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين . فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ، وذلك جزاء المحسنين . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ) . .
إن هذة الآيات تصور حالة ، وتقرر حكما في هذه الحالة . . تصور حالة فريق من أتباع عيسى - عليه السلام - : ( الذين قالوا : إنا نصارى ) . . وتقرر أنهم أقرب مودة للذين آمنوا . .
ومع أن متابعة مجموع الآيات لا تدع مجالا للشك في أنها تصور حالة معينة ، هي التي ينطبق عليها هذا التقرير المعين ، فإن الكثيرين يخطئون فهم مدلولها ، ويجعلون منها مادة للتميع المؤذي في تقدير المسلمين لموقفهم من المعسكرات المختلفة ، وموقف هذه المعسكرات منهم . . لذلك نجد من الضروري - في ظلال القرآن - أن نتابع بالدقة تصوير هذه الآيات لهذه الحالة الخاصة التي ينطبق عليها ذلك الحكم الخاص :
إن الحالة التي تصورها هذه الآيات هي حالة فئة من الناس ، قالوا : إنا نصارى . هم أقرب مودة للذين آمنوا : ( ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ) . . فمنهم من يعرفون حقيقة دين النصارى فلا يستكبرون على الحق حين يتبين لهم . .
فقوله [ تعالى ]{[10195]} { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا } ما ذاك إلا لأن كفر اليهود عناد وجحود ومباهتة للحق ، وغَمْط للناس وتَنَقص بحملة العلم . ولهذا قتلوا كثيرًا من الأنبياء حتى هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة وسحروه ، وألَّبوا عليه أشباههم من المشركين - عليهم لعائن الله المتتابعة{[10196]} إلى يوم القيامة .
وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويَه عند تفسير هذه الآية : حدثنا أحمد بن محمد بن السُّرِّي : حدثنا محمد بن علي بن حبيب الرَّقي ، حدثنا سعيد العلاف بن العلاف ، حدثنا أبو النَّضْر ، عن الأشجعي ، عن سفيان ، عن يحيى بن عبد الله عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما خلا يهودي قط بمسلم{[10197]} إلا هم{[10198]} بقتله " .
ثم رواه عن محمد بن أحمد بن إسحاق اليَشْكُرِي{[10199]} حدثنا أحمد بن سهل بن أيوب الأهوازي ، حدثنا فرج بن عبيد ، حدثنا عباد بن العوام ، عن يحيى بن عُبَيد الله ، عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما خلا يهودي بمسلم إلا حدثت{[10200]} نفسه بقتله " . وهذا حديث غريب جدًا . {[10201]}
وقوله : { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى } أي : الذين زعموا أنهم نصارى من أتباع المسيح وعلى منهاج إنجيله ، فيهم مودة للإسلام وأهله في الجملة ، وما ذاك إلا لما في قلوبهم ، إذ كانوا على دين المسيح من الرقة والرأفة ، كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً } [ الحديد : 27 ] وفي كتابهم : من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر . وليس{[10202]} القتال مشروعًا في ملتهم ؛ ولهذا قال تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ } أي : يوجد فيهم القسيسون - وهم خطباؤهم وعلماؤهم ، واحدهم : قسيس وقَس أيضًا ، وقد يجمع على قسوس - والرهبان : جمع راهب ، وهو : العابد . مشتق من الرهبة ، وهي{[10203]} الخوف كراكب وركبان ، وفارس وفرسان .
وقال ابن جرير : وقد يكون الرهبان واحدًا وجَمْعُه رهابين ، مثل قربان وقرابين ، وجُرْدان وجَرَادين{[10204]} وقد يجمع{[10205]} على رهابنة . ومن الدليل على أنه يكون عند العرب واحدًا قول الشاعر :
لَوْ عَاينَتْ{[10206]} رُهْبان دَيْر في القُلَل *** لانْحدَر الرُّهْبَان يَمْشي ونزل{[10207]}
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا بِشْر بن آدم ، حدثنا نُصَير بن أبي الأشعث ، حدثني الصلت الدهان ، عن حامية بن رئاب قال : سألت سلمان عن قول الله [ عز وجل ] :{[10208]} { ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا } فقال : دع " القسيسين " في البيع والخرب ، أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ذلك بأن منهم صديقين ورهبانا " . {[10209]}
وكذا رواه ابن مردويه من طريق يحيى بن عبد الحميد الحمَّاني ، عن نُصير بن زياد الطائي ، عن صَلْت الدهان ، عن حامية بن رِئَاب ، عن سلمان ، به .
وقال ابن أبي حاتم : ذكره أبي ، حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحمَّاني ، حدثنا نُصَير بن زياد الطائي ، حدثنا صلت الدهان ، عن حامية بن رئاب قال : سمعت سلمان وسئل عن قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا } قال : هم الرهبان الذين هم في الصوامع والخرَب ، فدعوهم فيها ، قال سلمان : وقرأت{[10210]} على النبي صلى الله عليه وسلم { ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ [ وَرُهْبَانًا ] }{[10211]} فأقرأني : " ذلك بأن منهم صديقين ورهبانا " . {[10212]}
فقوله : { ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ } تضمن وصفهم بأن فيهم العلم والعبادة والتواضع ،
{ لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا } لشدة شكيمتهم وتضاعف كفرهم وانهماكهم في اتباع الهوى ، وركونهم إلى التقليد وبعدهم عن التحقيق ، وتمرنهم على تكذيب الأنبياء ومعاداتهم . { ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى } للين جانبهم ورقة قلوبهم وقلة حرصهم على الدنيا وكثرة اهتمامهم بالعلم والعمل وإليه أشار بقوله : { ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون } عن قبول الحق إذا فهموه ، أو يتواضعون ولا يتكبرون كاليهود . وفيه دليل على أن التواضع والإقبال على العلم والعمل والإعراض عن الشهوات محمود وإن كانت من كافر .
اللام في قوله { لتجدن } لام الابتداء ، وقال الزجّاج هي لام قسم ، ودخلت هذه النون الثقيلة لتفصل بين الحال والاستقبال{[4651]} .
وهذا خبر مطلق منسحب على الزمن كله ، وهكذا هو الأمر حتى الآن ، وذلك أن اليهود َمَرنوا{[4652]} على تكذيب الأنبياء وقتلهم ، وَدِربوا العتو والمعاصي{[4653]} وَمَردوا{[4654]} على استشعار اللعنة وضرب الذلة والمسكنة ، فهم قد لحجت{[4655]} عداواتهم وكثر حسدهم ، فهم أشد الناس عداوة للمؤمنين وكذلك المشركون عبدة الأوثان من العرب والنيران من المجوس لأن الإيمان إياهم كَّفر وعروشهم ثَّل{[4656]} ، وبين أنهم ليسوا على شيء من أول أمرهم فلم يبق لهم بقية فعداوتهم شديدة . والنصارى أهل الكتاب يقضي لهم شرعنا بأن أول أمرهم صحيح لولا أنهم ضلوا ، فهم يعتقدون أنهم لم يضلوا وأن هذه الآية لم تنسخ شرعهم{[4657]} ، ويعظمون من أهل الإسلام من استشعروا منه صحة دين ، ويستهينون من فهموا منه الفسق ، فهم إذا حاربوا فإنما حربهم أنفة وكسب لا أن شرعهم يأخذهم بذلك ، وإذا سالموا فسلمهم صاف ، ويعين على هذا أنهم أمة شريفة الخلق ، لهم الوفاء والخلال الأربع التي ذكر عمرو بن العاصي في صحيح مسلم{[4658]} ، وتأمل أن النبي صلى الله عليه وسلم سر حين غلبت الروم فارس ، وذلك لكونهم أهل كتاب ، ولم يرد عليه السلام أن يستمر ظهور الروم وإنما ُسَّر بغلبة أهل كتاب لأهل عبادة النار ، وانضاف إلى ذلك أن غلب العدو الأصغر وانكسرت شوكة العدو الأكبر المخوف على الإسلام ، واليهود لعنهم الله ليسوا على شيء من هذه الخلق بل شأنهم الخبث والليّ بالألسنة ، وفي خلال إحسانك إلى اليهودي يبغيك هو الغوائل{[4659]} إلا الشاذ القليل منهم ممن عسى أن تخصص بأدب وأمور غير ما علم أولا . ولم يصف الله تعالى النصارى بأنهم أهل ود وإنما وصفهم بأنهم أقرب من اليهود والمشركين ، فهو قرب مودة بالنسبة إلى متباعدين ، وفي قوله تعالى : { الذين قالوا إنا نصارى } إشارة إلى أن المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم من النصارى ليسوا على حقيقة النصرانية بل كونهم نصارى قول منهم وزعم ، وقوله تعالى : { ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً } معناه ذلك بأن منهم بأن منهم أهل خشية وانقطاع إلى الله وعبادة وإن لم يكونوا على هدى ، فهم يميلون إلى أهل العبادة والخشية وليس عند اليهود ولا كان قط أهل ديارات وصوامع وانقطاع عن الدنيا ، بل هم معظمون لها متطاولون في البنيان وأمور الدنيا حتى كأنهم لا يؤمنون بالآخرة ، فلذلك لا يرى فيهم زاهد ، ويقال «قس » بفتح القاف وبكسرها وقسيس وهو اسم أعجمي عرّب ، والقس في كلام العرب النميمة وليس من هذا{[4660]} .
وأما الرهبان فجمع راهب . وهذه تسمية عربية والرهب الخوف ، ومن الشواهد على أن الرهبان جمع قول الشاعر جرير :
رهبان مدين لو رأوك تنزلوا *** والعصم من شغف العقول الفادر{[4661]}
وقد قيل الرهبان اسم مفرد والدليل عليه قول الشاعر :
لو عاينت رهبان دير في القلل تحدَّر الرهبان يمشي ونزل{[4662]}
قال القاضي أبو محمد : ويروى و «يزل » بالياء من الزلل ، وهذه الرواية أبلغ في معنى غلبة هذه المرأة على ذهن هذا الراهب ، ووصف الله تعالى النصارى بأنهم لا يستكبرون ، وهذا بين موجود فيهم حتى الآن ، واليهودي متى وجد غروراً طغى وتكبر ، وإنما أذلهم الله وأضرعتهم الحمى وداسهم كلكل الشريعة ودين الإسلام أعلاه الله ، وذكر سعيد بن جبير ومجاهد وابن عباس أن هذه الآية نزلت بسبب وفد بعثهم النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليروه ويعرفوا حاله ، فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم عليهم القرآن وآمنوا ورجعوا إلى النجاشي فآمن ، ولم يزل مؤمناً حتى مات فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم .
قال القاضي أبو محمد : وروي أن نعش النجاشي كشف للنبي صلى الله عليه وسلم فكان يراه من موضعه بالمدينة وجاء الخبر بعد مدة أن النجاشي دفن في اليوم الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم عليه ، وذكر السدي : أنهم كانوا اثني عشر : سبعة عليهم ثياب الصوف وكلهم صاحب صومعة اختارهم النجاشي الخِّير فالخِّير ، وذكر السدي : أن النجاشي خرج مهاجراً فمات في الطريق .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف لم يذكره أحد من العلماء بالسيرة ، وقال قتادة : نزلت هذه الآيات في قوم كانوا مؤمنين ثم آمنوا بمحمد عليه السلام .
قال القاضي أبو محمد : وفرق الطبري بين هذين القولين وهما واحد ، وروى سلمان الفارسي عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بأن منهم صديقين ورهباناً{[4663]} .