وكان بعضهم يحاول تنمية ماله بإهداء هدايا إلى الموسرين من الناس ، كي ترد عليه الهدية مضاعفة ! فبين لهم أن هذا ليس الطريق للنماء الحقيقي : وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله . . هذا ما تذكره الروايات عن المقصود بالآية وإن كان نصها بإطلاقه يشمل جميع الوسائل التي يريد بها أصحابها أن ينموا أموالهم بطريقة ربوية في أي شكل من الأشكال . . وبين لهم في الوقت ذاته وسيلة النماء الحقيقية :
( وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون ) . .
هذه هي الوسيلة المضمونة لمضاعفة المال : إعطاؤه بلا مقابل وبلا انتظار رد ولا عوض من الناس . إنما هي إرادة وجه الله . أليس هو الذي يبسط الرزق ويقدر ? أليس هو الذي يعطي الناس ويمنع ? فهو الذي يضاعف إذن للمنفقين ابتغاء وجهه ؛ وهو الذي ينقص مال المرابين الذين يبتغون وجوه الناس . . ذلك حساب الدينا ، وهناك حساب الآخرة وفيه أضعاف مضاعفة . فهي التجارة الرابحة هنا وهناك !
ثم قال : { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ } أي : من أعطى عطية يريد أن يرد الناس عليه أكثر مما أهدى لهم ، فهذا لا ثواب له عند الله - بهذا فسره ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وعكرمة ، ومحمد بن كعب ، والشعبي - وهذا الصنيع مباح{[22862]} وإن كان لا ثواب فيه{[22863]} إلا أنه قد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ، قاله الضحاك ، واستدل بقوله : { وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ } [ المدثر : 6 ] أي : لا تعط العطاء تريد أكثر منه .
وقال ابن عباس : الربا رباءان ، فربا لا يصح{[22864]} يعني : ربا البيع ؟ وربا لا بأس به ، وهو هدية الرجل يريد فضلها{[22865]} وأضعافها . ثم تلا هذه الآية : { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ } .
وإنما الثواب عند الله في الزكاة ؛ ولهذا قال : { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ } أي : الذين يضاعف الله لهم الثواب والجزاء ، كما [ جاء ]{[22866]} في الصحيح : " وما تصدق أحد بِعِدْل تمرة من كسب طيب إلا أخذها الرحمن بيمينه ، فَيُرَبِّيها لصاحبها كما يُرَبِّي أحدكم فَلُوّه أو فَصِيلَه ، حتى تصير التمرة أعظم من أُحُد " {[22867]} .
{ وما آتيتم من ربا } زيادة محرمة في المعاملة أو عطية يتوقع بها مزيد مكافأة ، وقرأ ابن كثير بالقصر بمعنى ما جئتم به من إعطاء ربا . { وليربوا في أموال الناس } ليزيد ويزكو في أموالهم . { فلا يربو عند الله } فلا يزكو عنده ولا يبارك فيه ، وقرأ نافع ويعقوب " لتربوا " أي لتزيدوا أو لتصيروا ذوي ربا . { وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله } تبتغون به وجهه خالصا { فأولئك هم المضعفون } ذوو الأضعاف من الثواب ونظير المضعف المقوي والموسر لذي القوة واليسار ، أو الذين ضعفوا ثوابهم وأموالهم ببركة الزكاة ، وقرئ بفتح العين وتغييره عن سنن المقابلة عبارة ونظما للمبالغة ، والالتفات فيه للتعظيم كأنه خاطب به الملائكة وخواص الخلق تعريفا لحالهم ، أو للتعميم كأنه قال : فمن فعل ذلك { فأولئك هم المضعفون } ، والراجع منه محذوف إن جعلت ما موصولة تقديره المضعفون به ، أو فمؤتوه أولئك هم المضعفون .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وما آتيتم من ربا}: وما أعطيتهم من عطية.
{ليربو في أموال الناس} تزدادوا في أموال الناس...
{فلا يربو عند الله}: فلا تضاعف تلك العطية عند الله، ولا تزكو.
ثم بين الله عز وجل ما يربو من النفقة فقال عز وجل: {وما آتيتم من زكاة}: وما أعطيتم من صدقة.
{تريدون} بها {وجه الله} ففيه الأضعاف، فذلك قوله عز وجل: {فأولئك هم المضعفون} الواحدة عشرة فصاعدا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وما أعطيتم أيها الناس بعضكم بعضا من عطية لتزداد في أموال الناس برجوع ثوابها إليه، ممن أعطاه ذلك، "فلا يربو عند الله "يقول: فلا يزداد ذلك عند الله، لأن صاحبه لم يعطه من أعطاه مبتغيا به وجهه. "وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ" يقول: وما أعطيتم من صدقة تريدون بها وجه الله، فأولئك يعني الذين يتصدّقون بأموالهم ملتمسين بذلك وجه الله "هم المضعفون" يقول: هم الذين لهم الضعف من الأجر والثواب...
وقال آخرون: إنما عنى بهذا: الرجلَ يعطي ماله الرجلَ ليعينه بنفسه، ويخدمه ويعود عليه نفعه، لا لطلب أجر من الله...
وقال آخرون: هو إعطاء الرجل ماله ليكثر به مال من أعطاه ذلك، لا طلب ثواب الله...
وقال آخرون: ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة، وأما لغيره فحلال...
وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في ذلك لأنه أظهر معانيه.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة وبعض أهل مكة: "لِيَرْبُوَ" بفتح الياء من يربو، بمعنى: وما آتيتم من ربا ليربوَ ذلك الربا في أموال الناس. وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة: «لِتَرْبُوا» بالتاء من تُربوا وضمها، بمعنى: وما آتيتم من ربا لتُربوا أنتم في أموال الناس.
والصواب من القول في ذلك عندنا، أنهما قراءتان مشهورتان في قرّاء الأمصار مع تقارب معنييهما، لأن أرباب المال إذا أربوا ربا المال، وإذا ربا المالُ فبإرباء أياه ربا. فإذا كان ذلك كذلك، فبأيّ القراءتين قرأ القارئ فمصيب.
وأما قوله: "وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُضعِفُونَ" فإن أهل التأويل قالوا في تأويله نحو الذي قلنا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
هذه الآية في معنى قوله تعالى: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} [البقرة: 278] سواء بسواء، يريد: وما أعطيتم أكلة الربا {مِّن رِباً لِّيَرْبُوَاْ فى} أموالهم: ليزيد ويزكو في أموالهم، فلا يزكو عند الله ولا يبارك فيه {وَمَآ ءَاتَيْتُم مِّن زكاوة} أي صدقة تبتغون به وجهه خالصاً، لا تطلبون به مكافأة ولا رياء وسمعة {فأولائك هُمُ المضعفون} ذوو الإضعاف من الحسنات.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قرأ جمهور القراء «وما آتيتم» بمعنى وما أعطيتم، وقرأ ابن كثير «ما أتيتم» بغير مد بمعنى ما فعلتم كما تقول أتيت صواباً وأتيت خطأ، وأجمعوا على المد في قوله {وما آتيتم من زكاة}. و «الربا» الزيادة، واختلف المتأولون في معنى هذه الآية فقال ابن عباس وابن جبير وطاوس: هذه آية نزلت في هبات الثواب.
وما جرى مجراها مما يصنعه الإنسان ليجازى عليه كالسلم وغيره فهو وإن كان لا إثم فيه فلا أجر فيه ولا زيادة عند الله تعالى، وقال ابن عباس أيضاً وإبراهيم النخعي: نزلت في قوم يعطون قراباتهم وإخوانهم على معنى نفعهم وتمويلهم والتفضل عليهم وليزيدوا في أموالهم على جهة النفع، وقال الشعبي: معنى الآية أن ما خدم الإنسان به أحداً وخف به لينتفع في دنياه فإن ذلك النفع الذي يجزى به الخدمة {لا يربو عند الله}.
وهذا كله قريب جزء من التأويل الأول، ويحتمل أن يكون معنى هذه الآية النهي عن الربا في التجارات ما حض عز وجل على نفع ذوي القربى والمساكين وابن السبيل أعلم أن ما فعل المرء من ربا ليزداد به مالاً وفعله ذلك إنما هو في أموال الناس فإن ذلك {لا يربو عند الله} ولا يزكو بل يتعلق فيه الإثم ومحق البركة، وما أعطى الإنسان من زكاة تنمية لماله وتطهيراً يريد بذلك وجه الله تعالى فذلك هو الذي يجازى به أضعافاً مضاعفة على ما شاء الله تعالى له...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وما آتيتم} أي جئتم أي فعلتم -في قراءة ابن كثير بالقصر ليعم المعطي والآخذ والمتسبب، أو أعطيتم- في قراءة غيره بالمد.
... ولما ذكر ما زيادته نقص، أتبعه ما نقصه زيادة فقال: {وما آتيتم} أي أعطيتم للإجماع على مده لئلا يوهم الترغيب في أخذ الزكاة {من زكاة} أي صدقة، وعبر عنها بذلك ليفيد الطهارة والزيادة، أي تطهرون بها أموالكم من الشبه، وأبدانكم من مواد الخبث، وأخلاقكم من الغل والدنس. ولما كان الإخلاص عزيزاً، أشار إلى عظمته بتكريره فقال: {تريدون} أي بها {وجه الله} خالصاً مستحضرين لجلاله وعظمته وكماله، وعبر عن الذات بالوجه لأنه الذي يجل صاحبه ويستحي منه عند رؤيته وهو أشرف ما في الذات.
ولما كان الأصل: فأنتم، عدل به إلى صيغة تدل على تعظيمه بالالتفات إلى خطاب من بحضرته من أهل قربه وملائكته، لأن العامل يجب أن يكون له بعمله لسان صدق في الخلائق فكيف إذا كان من الخالق، وبالإشارة إليه بأداة البعد إعلاماً بعلو رتبته، وأن المخاطب بالإيتاء كثير، والعامل قليل وجليل، فقال: {فأولئك} ولعل إفراد المخاطب هنا للترغيب في الإيتاء بأنه لا يفهم ما لأهله حق فهمه سوى المنزل عليه هذا الوحي صلى الله عليه وسلم {هم} أي خاصة {المضعفون}.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما جرى الترغيب والأمر ببذل المال لِذَوي الحاجة وصلة الرحم وما في ذلك من الفلاح أعقب بالتزهيد في ضرب آخر من إعطاء المال لا يرضَى الله تعالى به وكان الربا فاشياً في زمن الجاهلية وصدر الإسلام وخاصة في ثقيف وقريش. فلما أرشد الله المسلمين إلى مواساة أغنيائهم فقراءَهم أتبع ذلك بتهيئة نفوسهم للكف عن المعاملة بالربا للمقترضين منهم، فإن المعاملة بالربا تنافي المواساة لأن شأن المقترض أنه ذو خَلّة، وشأن المُقرِض أنه ذو جِدَة فمعاملته المقترِض منه بالربا افتراضٌ لحاجته واستغلال لاضطراره، وذلك لا يليق بالمؤمنين.
و {ما} شرطية تفيد العموم، فالجملة معترضة بعد جملة {فئاتِ ذا القربى حقه} [الروم: 38] الخ. والواو اعتراضية. ومضمون هذه الجملة بمنزلة الاستدراك للتنبيه على إيتاء مال هو ذميم. وجيء بالجملة شرطية لأنها أنسب بمعنى الاستدراك على الكلام السابق. فالخطاب للمسلمين الذين يريدون وجهَ الله الذين كانوا يُقرضون بالربا قبل تحريمه.
و {مِن} في قوله {من رباً} وقوله {من زكاة} بيانية مبينة لإبهام {مَا} الشرطية في الموضعين.
{فلا يربو عند الله} جواب الشرط. ومعنى {فلا يربو عند الله} أنه عمل ناقص عند الله غير زاك عنده، والنقص يكنى به عن المذمة والتحقير. وهذا التفسير هو المناسب لمحمل لفظ الربا على حقيقته المشهورة، ولموافقة معنى قوله تعالى: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} [البقرة: 276]، ولمناسبة ذكر الإضعاف في قوله هنا {فأولئك هم المضعفون} وقوله {لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة} في سورة آل عمران (130).
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
وذكر الربا هنا بالأسلوب الذي ورد به يمكن أن يكون إرهاصا قرآنيا مكيا بكراهية الربا التي جاءت بأسلوب تشريعي تحريمي في القرآن المدني وفقا لأسلوبي القرآن المكي والمدني؛ حيث يجنح الأسلوب المكي إلى الحظر بالتخويف من عقاب الله الدنيوي والأخروي وببيان مضار المحظور، في حين يجنح الأسلوب المدني إلى التشريع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بعد الهجرة صاروا في نطاق دولة وسلطان يستطيعون فيه التنفيذ في حين لم يكن لهم ذلك في العهد المكي.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
... عدّوا الآية مقدمة لمسألة «تحريم الربا» التي ذكرها القرآن في بداية الأمر وقبل الهجرة على سبيل الإِرشاد الأخلاقي والنصح، ولكن تمّ تحريم الربا بعد الهجرة في ثلاث سور «البقرة وآل عمران والنساء» بصورة تدريجية
كلمة «مضعفون» التي هي صيغة لاسم الفاعل، لا تعني أنّهم يزيدون ويُضعفون بأنفسهم للمال، بل معناها أنّهم أصحاب الثواب المضاعف، لأنّ اسم الفاعل قد يأتي في لغة العرب ويراد منه اسم المفعول، مثل «الموسِر» أي: صاحب المال الكثير.