الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَمَآ ءَاتَيۡتُم مِّن رِّبٗا لِّيَرۡبُوَاْ فِيٓ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ فَلَا يَرۡبُواْ عِندَ ٱللَّهِۖ وَمَآ ءَاتَيۡتُم مِّن زَكَوٰةٖ تُرِيدُونَ وَجۡهَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُضۡعِفُونَ} (39)

فيه أربع مسائل :

الأولى- لما ذكر ما يراد به وجهه ويثبت عليه ذكر غير ذلك من الصفة وما يراد به أيضا وجهه . وقرأ الجمهور : " آتيتم " بالمد بمعنى أعطيتم . وقرأ ابن كثير ومجاهد وحميد بغير مد ، بمعنى ما فعلتم من ربا ليربو ؛ كما تقول : أتيت صوابا وأتيت خطأ . وأجمعوا على المد في قوله : " وما آتيتم من زكاة " . والربا الزيادة وقد مضى في " البقرة " معناه{[12515]} ، وهو هناك محرم وها هنا حلال . وثبت بهذا أنه قسمان : منه حلال ومنه حرام . قال عكرمة في قوله تعالى : " وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس " قال : الربا ربوان ، ربا حلال وربا حرام ، فأما الربا الحلال فهو الذي يهدى ، يلتمس ما هو أفضل منه . وعن الضحاك في هذه الآية : هو الربا الحلال الذي يهدى ليثاب ما هو أفضل منه ، لا له ولا عليه ، ليس له فيه{[12516]} أجر وليس عليه فيه إثم . وكذلك قال ابن عباس : " وما آتيتم من ربا " يريد هدية الرجل الشيء يرجو أن يثاب أفضل منه ، فذلك الذي لا يربو عند الله ولا يؤجر صاحبه ولكن لا إثم عليه ، وفي هذا المعنى نزلت الآية . قال ابن عباس وابن جبير وطاوس ومجاهد : هذه آية نزلت في هبة الثواب . قال ابن عطية : وما جرى مجراها مما يصنعه الإنسان ليجازى عليه كالسلام وغيره ، فهو وإن كان لا إثم فيه فلا أجر فيه ولا زيادة عند الله تعالى . وقاله القاضي أبو بكر بن العربي . وفي كتاب النسائي عن عبد الرحمن بن علقمة قال : قدم وفد ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعهم هدية فقال : ( أهدية أم صدقة{[12517]} فإن كانت هدية فإنما يبتغى بها وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضاء الحاجة ، وإن كانت صدقة فإنما يبتغى بها وجه الله عز وجل ) قالوا : لا بل هدية ، فقبلها منهم وقعد معهم يسائلهم ويسألونه . وقال ابن عباس أيضا وإبراهيم النخعي : نزلت في قوم يعطون قراباتهم وإخوانهم على معنى نفعهم وتمويلهم والتفضل عليهم ، وليزيدوا في أموالهم على وجه النفع لهم . وقال الشعبي : معنى الآية أن ما خدم الإنسان به أحدا وخف له لينتفع به في دنياه فإن ذلك النفع الذي يجزي به الخدمة لا يربو عند الله . وقيل : كان هذا حراما على النبي صلى الله عليه وسلم على الخصوص ؛ قال الله تعالى : " ولا تمنن تستكثر " {[12518]} [ المدثر : 6 ] فنهى أن يعطي شيئا فيأخذ أكثر منه عوضا . وقيل : إنه الربا المحرم ، فمعنى : " لا يربو عند الله " على هذا القول لا يحكم به لآخذه بل هو للمأخوذ منه . قال السدي : نزلت هذه الآية في ربا ثقيف ؛ لأنهم كانوا يعملون بالربا وتعمله فيهم قريش .

الثانية- قال القاضي أبو بكر بن العربي : صريح الآية فيمن يهب يطلب{[12519]} الزيادة من أموال الناس في المكافأة . قال المهلب : اختلف العلماء فيمن وهب هبة يطلب ثوابها وقال : إنما أردت الثواب ، فقال مالك : ينظر فيه ، فإن كان مثله ممن يطلب الثواب من الموهوب له فله ذلك ، مثل هبة الفقير للغني ، وهبة الخادم لصاحبه ، وهبة الرجل لأميره ومن فوقه ، وهو أحد قولي الشافعي . وقال أبو حنيفة : لا يكون له ثواب إذا لم يشترط ، وهو قول الشافعي الآخر . قال : والهبة للثواب باطلة لا تنفعه ؛ لأنها بيع بثمن مجهول . واحتج الكوفي بأن موضوع الهبة التبرع ، فلو أوجبنا فيها العوض لبطل معنى التبرع وصارت في معنى المعاوضات ، والعرب قد فرقت بين لفظ البيع ولفظ الهبة ، فجعلت لفظ البيع على ما يستحق فيه العوض ، والهبة بخلاف ذلك . ودليلنا ما رواه مالك في موطئه عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : أيما رجل وهب هبة يرى أنها للثواب فهو على هبته حتى يرضى منها . ونحوه عن علي رضي الله عنه قال : المواهب ثلاثة : موهبة يراد بها وجه الله ، وموهبة يراد بها وجوه الناس ، وموهبة يراد بها الثواب ، فموهبة الثواب يرجع فيها صاحبها إذا لم يثب منها . وترجم البخاري رحمه الله ( باب المكافأة في الهبة ) وساق حديث عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها ، وأثاب على لقحة{[12520]} ولم ينكر على صاحبها حين طلب الثواب ، وإنما أنكر سخطه للثواب وكان زائدا على القيمة . خرجه الترمذي .

الثالثة- ما ذكره علي رضي الله عنه وفصّله من الهبة صحيح ؛ وذلك أن الواهب لا يخلو في هبته من ثلاثة أحوال : أحدها : أن يريد بها وجه الله تعالى ويبتغي عليها الثواب منه . والثاني : أن يريد بها وجوه الناس رياء ليحمدوه عليها ويثنوا عليه من أجلها . والثالث : أن يريد بها الثواب من الموهوب له ، وقد مضى الكلام فيه . وقال صلى الله عليه وسلم : ( الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ) . فأما إذا أراد بهبته وجه الله تعالى وابتغى عليه الثواب من عنده فله ذلك عند الله بفضله ورحمته ، قال الله عز وجل : " وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون " وكذلك من يصل قرابته ليكون غنيا حتى لا يكون كلا فالنية في ذلك متبوعة ، فإن كان ليتظاهر بذلك دنيا فليس لوجه الله ، وإن كان لما له عليه من حق القرابة وبينهما من وشيجة الرحم فإنه لوجه الله . وأما من أراد بهبته وجوه الناس رياء ليحمدوه عليها ويثنوا عليه من أجلها فلا منفعة له في هبته ، لا ثواب في الدنيا ولا أجر في الآخرة ، قال الله عز وجل : " يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس " {[12521]} [ البقرة : 264 ] الآية . وأما من أراد بهبته الثواب من الموهوب له فله ما أراد بهبته ، وله أن يرجع فيها ما لم يثب بقيمتها ، على مذهب ابن القاسم ، أو ما لم يرض منها بأزيد من قيمتها ، على ظاهر قول عمر وعلي ، وهو قول مطرف في الواضحة : أن الهبة ما كانت قائمة العين ، وإن زادت أو نقصت فللواهب الرجوع فيها ، وإن أثابه الموهوب فيها أكثر منها . وقد قيل : إنها إذا كانت قائمة العين لم تتغير فإنه يأخذ ما شاء . وقيل : تلزمه القيمة كنكاح التفويض ، وأما إذا كان بعد فوت الهبة فليس له إلا القيمة اتفاقا . قاله ابن العربي .

الرابعة- قوله تعالى : " ليربو " قرأ جمهور القراء السبعة : " ليربو " بالياء وإسناد الفعل إلى الربا . وقرأ نافع وحده : بضم التاء والواو ساكنة على المخاطبة ، بمعنى تكونوا ذوي زيادات ، وهذه قراءة ابن عباس والحسن وقتادة والشعبي . قال أبو حاتم : هي قراءتنا . وقرأ أبو مالك : " لتربوها " بضمير مؤنث . " فلا يربو عند الله " أي لا يزكو ولا يثيب عليه ؛ لأنه لا يقبل إلا ما أريد به وجهه وكان خالصا له ، وقد تقدم في " النساء " {[12522]} . " وما آتيتم من زكاة " قال ابن عباس : أي من صدقة . " تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون " أي ذلك الذي يقبله ويضاعفه له عشرة أضعافه أو أكثر ، كما قال : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا{[12523]} كثيرة " [ البقرة : 245 ] . وقال : " ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة " {[12524]} [ البقرة : 265 ] . وقال : " فأولئك هم المضعفون " ولم يقل فأنتم المضعفون ؛ لأنه رجع من المخاطبة إلى الغيبة ، مثل قوله : " حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم " {[12525]} [ يونس : 22 ] . وفي معنى المضعفين قولان : أحدهما : أنه تضاعف لهم الحسنات ذكرنا . والآخر : أنهم قد أضعف لهم الخير والنعيم ، أي هم أصحاب أضعاف ، كما يقال : فلان مقو إذا كانت إبله قوية ، أو له أصحاب أقوياء . ومسمن إذا كانت إبله سمانا . ومعطش إذا كانت إبله عطاشا . ومضعف إذا كان إبله ضعيفة ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( اللهم إني أعوذ بك من الخبيث المخبث الشيطان الرجيم " . فالمخبث : الذي أصابه خبث ، يقال : فلان رديء أي هو رديء في نفسه . ومردئ : أصحابه أردئاء .


[12515]:راجع ج 3 ص 348 فما بعد.
[12516]:في ج:" وليس فيه أجر".
[12517]:ما بين المربعين ساقط من ش.
[12518]:راجع ج 19 ص 66.
[12519]:لفظة يطلب ساقطة من ج و ش.
[12520]:اللقحة (بكسر اللام وفتحها): الناقة الحلوب.
[12521]:راجع ج 3 ص 311.
[12522]:راجع ج 5 ص 410.
[12523]:راجع ج 3 ص 237 و ص 314.
[12524]:راجع ج 3 ص 237 و ص 314.
[12525]:راجع ج 8 ص 324.