محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَمَآ ءَاتَيۡتُم مِّن رِّبٗا لِّيَرۡبُوَاْ فِيٓ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ فَلَا يَرۡبُواْ عِندَ ٱللَّهِۖ وَمَآ ءَاتَيۡتُم مِّن زَكَوٰةٖ تُرِيدُونَ وَجۡهَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُضۡعِفُونَ} (39)

{ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا } أي مال ترابون فيه { لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ } أي ليزيد في أموالهم إذ تأخذون فيه أكثر منه { فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ } أي لا يزكو ولا ينمو ولا يبارك فيه . بل يمحقه محق ما لا عاقبة له عنده إلا الوبال والنكال . وذكر في تفسيرها معنى آخر ، وهو أن يهب الرجل للرجل ، أو يهدي له ليعوضه أكثر مما وهب أو أهدى . فليست تلك الزيادة بحرام . وتسميتها ربا مجاز ، لأنها سبب الزيادة .

قال ابن كثير : وهذا الصنيع مباح وإن كان لا ثواب فيه . إلا أنه_ نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ، قال الضحاك ، واستدل بقوله تعالى {[6075]} : { ولا تمنن تستكثر } أي لا تعط العطاء ، تريد أكثر منه . وقال ابن عباس : ( الربا ، رباءان ، فربا لا يصح ، يعني ربا البيع ، وربا لا بأس به ، وهو هدية الرجل ، يريد فضلها وإضعافها ) . انتهى .

وأقول : في ذلك كله نظر من وجوه :

الأول – أن هذه الآية شبيهة بآية {[6076]} : { يمحق الله الربا ويربي الصدقات } وهي في ربا البيع الذي كان فاشيا في أهل مكة حتى صار ملكة راسخة فيهم ، امتصوا بها ثروة كثير من البؤساء . مما خرج عن طور الرحمة والشفقة والكمال البشري . فنعى عليهم حالهم ، طلبا لتزكيتهم بتوبتهم منه . ثم أكد ذلك في مثل هذه الآية . مبالغة في الزجر .

الثاني – أن الربا ، على ما ذكر مجاز . والأصل في الإطلاق الحقيقة ، إلا لصارف يرشد إليه دليل الشرع ، أو العقل . ولا واحد منهما هنا ، لا موجب له .

الثالث – دعوى أن الهبة المذكورة مباحة ، لا بأس بها بعد كونها هي المرادة من الآية – بعيدة غاية البعد . لأن في أسلوبها من الترهيب والتحذير ما يجعلها في مصاف المحرمات . ودلالة الأسلوب من أدلة التنزيل القوية ، كما تقرر في موضعه .

الرابع – زعم أن المنهي عنه هو الحضرة النبوية خاصة ، لا دليل عليه إلا ظاهر الخطاب . وليس قاطعا .

لأن اختصاص الخطاب لا يوجب اختصاص الحكم على التحقيق . لا يقال الأصل وجوب حمل اللفظ على حقيقته ، وحمله على المجاز لا يكون إلا بدليل ، وكذا ما يقال أن ثبوت الحكم في غير محل الخطاب يفتقر إلى دليل – لأنا نقول : الأصل في التشريعات العموم ، إلا ما قام الدليل القاطع على التخصيص بالتنصيص ، وليس منه شيء هنا . وقد عهد في التنزيل تخصيص مراد به التعميم إجماعا . كآية {[6077]} : { يا أيها النبي اتق الله } وأمثالها .

الخامس – أن في هذا المنهي عنه من إصعاد المرء إلى ذروة المحسنين الأعفاء ، الذين لا يتبعون قلوبهم نفقتهم ، ما يبين أنه شامل لسائرهم . لما فيه من تربية إرادتهم وتهذيب أخلاقهم . بل لو قيل إن الخطاب له صلوات الله عليه ، والمراد غيره ، كما قالوه في كثير من الآي – لم يبعد . لما تقرر من عصمته ونزاهته عن هذا الخلق ، في سيرته الزكية . وحينئذ فالوجه في الآية هو الأول ، وعليه المعول . والله أعلم . { وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ } أي مال تتزكون به من رجس الشح ودنس البخل { تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ } أي ذوو الأضعاف من الثواب . جمع ( مضعف ) اسم فاعل ( من أضعف ) إذا صار ذا ضعف ، ( بكسر فسكون ) بأن يضاعف له ثواب ما أعطاه . ( كأقوى وأيسر ) إذا صار ذا قوة ويسار . فهو لصيرورة الفاعل ذا أصله . أو الذين ضعفوا ثوابهم وأموالهم ببركة ما أنفقوا . على أنه من ( أضعف ) والهمزة للتعدية ، ومفعوله محذوف ، وهو ما ذكر .


[6075]:(74 المدثر 6).
[6076]:(2 البقرة 276).
[6077]:(33 الأحزاب 1).