هؤلاء وأولئك خالدون حيث هم ( ما دامت السماوات والأرض ) . وهو تعبير يلقي في الذهن صفة الدوام والاستمرار . وللتعبير ظلال . وظل هذا التعبير هنا هو المقصود .
وقد علق السياق هذا الاستمرار بمشيئة الله في كلتا الحالتين . وكل قرار وكل سنة معلقة بمشيئة الله في النهاية . فمشيئة الله هي التي اقتضت السنة وليست مقيدة بها ولا محصورة فيها . إنما هي طليقة تبدل هذه السنة حين يشاء الله :
{ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ } قال الإمام أبو جعفر بن جرير : من عادة العرب إذا أرادت أن تصف الشيء بالدوام أبدًا قالت : " هذا دائم دوامَ السموات والأرض " ، وكذلك يقولون : هو باق ما اختلف الليلُ والنهار ، وما سمر ابنا سَمير ، وما لألأت العُفْر{[14917]} بأذنابها . يعنون بذلك كلمة : " أبدا " ، فخاطبهم جل ثناؤه بما يتعارفونه بينهم ، فقال : { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ } .
قلت : ويحتمل أن المراد بما دامت السموات والأرض : الجنس ؛ لأنه لا بدّ في عالم الآخرة من سموات وأرض ، كما قال تعالى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ } [ إبراهيم : 48 ] ؛ ولهذا قال الحسن البصري في قوله : { مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ } قال : تبدل سماء غير{[14918]} هذه السماء ، وأرض غير هذه الأرض ، فما دامت تلك السماء وتلك الأرض .
وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن سفيان بن حسين ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قوله : { مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ } قال : لكل جنة سماء وأرض .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ما دامت الأرض أرضًا ، والسماء سماءً .
وقوله : { إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } كقوله تعالى : { النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } [ الأنعام : 128 ] .
وقد اختلف المفسرون في المراد من هذا الاستثناء ، على أقوال كثيرة ، حكاها الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في كتابه " زاد المسير " {[14919]} وغيره من علماء التفسير ، ونقل كثيرًا منها الإمام أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله ، في كتابه{[14920]} واختار هو ما نقله عن خالد بن مَعْدَان ، والضحاك ، وقتادة ، وأبي سِنَان ، ورواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس والحسن أيضًا : أن الاستثناء عائد على العُصاة من أهل التوحيد ، ممن يخرجهم الله من النار بشفاعة الشافعين ، من الملائكة والنبيين والمؤمنين ، حين يشفعون في أصحاب الكبائر ، ثم تأتي رحمة أرحم الراحمين ، فتخرج من النار من لم يعمل خيرا قط ، وقال يوما من الدهر : لا إله إلا الله . كما وردت بذلك الأخبار الصحيحة المستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمضمون ذلك من حديث أنس ، وجابر ، وأبي سعيد ، وأبي هريرة ، وغيرهم من الصحابة{[14921]} ، ولا يبقى بعد ذلك في النار إلا من وجب عليه الخلود فيها ولا محيد له عنها . وهذا الذي عليه كثير من العلماء قديما وحديثا في تفسير هذه الآية الكريمة . وقد روي في تفسيرها عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وابن مسعود{[14922]} ، وأبي هريرة ، وعبد الله بن عمرو ، وجابر ، وأبي سعيد ، من الصحابة . وعن أبي مِجْلَز ، والشعبي ، وغيرهما من التابعين . وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وإسحاق بن راهويه وغيرهما من الأئمة - أقوال غريبة . وورد حديث غريب في معجم الطبراني الكبير ، عن أبي أمامة صُدَىّ بن عَجْلان الباهلي ، ولكن سنده ضعيف ، والله أعلم .
وقال قتادة : الله أعلم بثنياه .
وقال السدي : هي منسوخة بقوله : { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } [ النساء : 57 ] .
{ خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض } ليس لارتباط دوامهم في النار بدوامهما فإن النصوص دالة على تأبيد دوامهم وانقطاع دوامهما . بل التعبير عن التأبيد والمبالغة بما كانت العرب يعبرون به عنه على سبيل التمثيل ، ولو كان لارتباط لم يلزم أيضا من زوال السماوات والأرض زوال عذابهم ولا من دوامه دوامهما إلا من قبيل المفهوم ، لأن دوامهما كالملزوم لدوامه ، وقد عرفت أن المفهوم لا يقاوم المنطوق . وقيل المراد سماوات الآخرة وأرضها ويدل عليه قوله تعالى : { يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات } وإن أهل الآخرة لا بد لهم من مظل ومقل ، وفيه نظر لأنه تشبيه بما لا يعرف أكثر الخلق وجوده ودوامه ، ومن عرفه فإنما يعرفه بما يدل على دوام الثواب والعقاب فلا يجدي له التشبيه . { إلا ما شاء ربك } استثناء من الخلود في النار لأن بعضهم وهم فساق الموحدين يخرجون منها ، وذلك كاف في صحة الاستثناء لأن زوال الحكم عن الكل يكفيه زواله عن البعض ، وهم المراد بالاستثناء الثاني فإنهم مفارقون عن الجنة أيام عذابهم ، فإن التأبيد من مبدأ معين ينتقض باعتبار الابتداء كما ينتقض باعتبار الانتهاء ، وهؤلاء وإن شقوا بعصيانهم فقد سعدوا بإيمانهم ، ولا يقال فعلى هذا لم يكن قوله : { فمنهم شقي وسعيد } تقسيما صحيحا لأن من شرطه أن تكون صفة كل قسم منتفية عن قسيمه ، لأن ذلك الشرط حيث التقسيم لانفصال حقيقي أو مانع من الجمع وها هنا المراد أن أهل الموقف لا يخرجون عن القسمين ، وأن حالهم لا يخلو عن السعادة والشقاوة وذلك لا يمنع اجتماع الأمرين في شخص باعتبارين ، أو لأن أهل النار ينقلون منها إلى الزمهرير وغيره من العذاب أحيانا ، وكذلك أهل الجنة ينعمون بما هو أعلى من الجنة كالاتصال بجناب القدس والفوز برضوان الله ولقائه ، أو من أصل الحكم والمستثنى زمان توقفهم في الموقف للحساب لأن ظاهره يقتضي أن يكونوا في النار حين يأتي اليوم ، أو مدة لبثهم في الدنيا والبرزخ إن كان الحكم مطلقا غير مقيد باليوم ، وعلى هذا التأويل يحتمل أن يكون الاستثناء من الخلود على ما عرفت . وقيل هو من قوله : { لهم فيها زفير وشهيق } وقيل إلا ها هنا بمعنى سوى كقولك على ألف إلا الألفان القديمان والمعنى سوى ما شاء ربك من الزيادة التي لا آخر لها على مدة بقاء السماوات والأرض . { إن ربك فعّال لما يريد } من غير اعتراض .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.