110- وفي ذلك الوقت ينادى الله عيسى ابن مريم من بين الرسل فيقول له : اذكر ما أنعمت به عليك وعلى أمك في الدنيا ، حينما ثَبَّتُك بالوحي وأنطقتك وأنت رضيع بما يُبَرِّئُ أمك مما اتُّهمت به ، كما أنطقتك وأنت كبير بما قد أوحيت إليك ، وحينما أنعمت عليك بتعليمك الكتاب ، ووفقتك للصواب من القول والعمل ، وعلمتك كتاب موسى والإنجيل الذي أنزلته عليك ، وأقدرتك على معجزات تخرج عن طوق البشر ، حيث تتخذ من الطين صورة الطير بإذن الله ، فتنفخ فيها فتصبح طائراً حَياً بقدرة الله لا بقدرتك ، وتشفي من العمي من وُلِدَ أعمى ، وتشفي الأبرص من برصه بإذن الله وقدرته ، وحينما يجري على يديك إحياء الموتى بإذن الله وقدرته ، وحينما منعت اليهود من قتلك وصلبك عندما أتيتهم بالمعجزات ليؤمنوا ، فأعرض فريق منهم ، وادعوا أن ما أظهرته من المعجزات ما هو إلا من قبيل السحر الواضح .
فأما سائر الرسل - غير عيسى عليه السلام - فقد صدق بهم من صدق ، وقد كفر بهم من كفر ؛ ولقد انتهى أمرهم بهذا الجواب الكامل الشامل ، الذي يدع العلم كله لله ، ويدع الأمر كله بين يديه . سبحانه . . فما يزيد السياق شيئا في هذا المشهد عنهم . . إنما يلتفت بالخطاب إلى عيسى بن مريم وحده ، لأن عيسى بن مريم هو الذي فتن قومه فيه ، وهو الذي غام الجو حوله بالشبهات ، وهو الذي خاض ناس في الأوهام والأساطير حول ذاته ، وحول صفاته ، وحول نشأته ومنتهاه .
يلتفت الخطاب إلى عيسى بن مريم - على الملأ ممن ألهوه وعبدوه وصاغوا حوله وحول أمه - مريم - التهاويل . . يلتفت إليه يذكره نعمة الله عليه وعلى والدته ؛ ويستعرض المعجزات التي آتاها الله إياه ليصدق الناس برسالته ، فكذبه من كذبه منهم أشد التكذيب وأقبحه ؛ وفتن به وبالآيات التي جاءت معه من فتن ؛ وألهوه مع الله من أجل هذه الآيات ، وهي كلها من صنع الله الذي خلقه وأرسله وأيده بالمعجزات :
( إذ قال الله : يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك . إذ أيدتك بروح القدس ، تكلم الناس في المهد وكهلا . وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل . وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني ، فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني . وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني . وإذ تخرج الموتى بإذني . وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم : إن هذا إلا سحر مبين . وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي ، قالوا : آمنا واشهد بأننا مسلمون ) . .
إنها المواجهة بما كان من نعم الله على عيسى بن مريم وأمه . . من تأييده بروح القدس في مهده ، وهو يكلم الناس في غير موعد الكلام ؛ يبرى ء أمه من الشبهة التي أثارتها ولادته على غير مثال ؛ ثم وهو يكلمهم في الكهولة يدعوهم إلى الله . . وروح القدس جبريل - عليه السلام - يؤيده هنا وهناك . . ومن تعليمه الكتاب والحكمة ؛ وقد جاء إلى هذه الأرض لا يعلم شيئا ، فعلمه الكتابة وعلمه كيف يحسن تصريف الأمور ، كما علمه التوراة التي جاء فوجدها في بني إسرائيل ، والإنجيل الذي آتاه إياه مصدقا لما بين يديه من التوراة . ثم من إيتائه خارق المعجزات التي لا يقدر عليها بشر إلا بإذن الله . فإذا هو يصور من الطين كهيئة الطير بإذن الله ؛ فينفخ فيها فتكون طيرا بإذن الله - لا ندري كيف لأننا لا ندري إلى اليوم كيف خلق الله الحياة ، وكيف يبث الحياة في الأحياء - وإذا هو يبرى ء المولود أعمى - بإذن الله - حيث لا يعرف الطب كيف يرد إليه البصر - ولكن الله الذي يهب البصر أصلا قادر على أن يفتح عينيه للنور - ويبرى ء الأبرص بإذن الله ، لا بدواء - والدواء وسيلة لتحقيق إذن الله في الشفاء ، وصاحب الإذن قادر على تغيير الوسيلة ، وعلى تحقيق الغاية بلا وسيلة - وإذا هو يحيي الموتى بإذن الله - وواهب الحياة أول مرة قادر على رجعها حين يشاء - ثم يذكره بنعمة الله عليه في حمايته من بني إسرائيل إذ جاءهم بهذه البينات كلها فكذبوه وزعموا أن معجزاته هذه الخارقة سحر مبين ! ذلك أنهم لم يستطيعوا إنكار وقوعها - وقد شهدتها الألوف - ولم يريدوا التسليم بدلالتها عنادا وكبرا . . حمايته منهم فلم يقتلوه - كما أرادوا ولم يصلبوه . بل توفاه الله ورفعه إليه . .
يذكر تعالى ما امتن به على عبده ورسوله عيسى ابن مريم عليه السلام مما أجراه على يديه من المعجزات وخوارق العادات ، فقال تعالى : { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ } أي : في خلقي إياك من أم بلا ذكر ، وجعلي إياك آية ودلالة قاطعة على كمال قدرتي على الأشياء { وَعَلى وَالِدَتِكَ } حيث جَعلتُكَ لها برهانًا على براءتها مما نسبه الظالمون الجاهلون إليها من الفاحشة ، { إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ } وهو جبريل ، عليه السلام ، وجعلتك نبيًا داعيًا إلى الله في صغرك وكبرك ، فأنطقتك في المهد صغيرًا ، فشهدت ببراءة أمك من كل عيب ، واعترفت لي بالعبودية ، وأخبرت عن رسالتي إياك ودعوتك{[10521]} إلى عبادتي ؛ ولهذا قال تعالى : { تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا } أي : تدعو إلى الله الناس في صغرك وكبرك . وضمن " تكلم " تدعو ؛ لأن كلامه الناس في كهولته ليس بأمر عجيب .
وقوله : { وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } أي : الخط والفهم { وَالتَّوْرَاةَ } وهي المنزلة على موسى بن عمران الكليم ، وقد يَرِدُ لفظ التوراة في الحديث ويُرَاد به ما هو أعم من ذلك .
وقوله : { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي } أي : تصوره وتشكله على هيئة الطائر بإذني لك في ذلك فيكون طائرًا بإذني ، أي : فتنفخ في تلك الصورة التي شكلتها بإذني لك في ذلك ، فتكون طيراً ذا روح بإذن الله وخلقه .
وقوله : { وَتُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ بِإِذْنِي } قد تقدم الكلام على ذلك{[10522]} في سورة آل عمران بما أغنى عن إعادته .
وقوله : { وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي } أي : تدعوهم فيقومون من قبورهم بإذن الله وقدرته ، وإرادته ومشيئته .
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مالك بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن طلحة - يعني ابن مُصَرِّف - عن أبي بِشْر ، عن أبي الهذيل قال : كان عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، إذا أراد أن يحيي الموتى صلى ركعتين ، يقرأ في الأولى : { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } [ سورة الملك ] ، وفي الثانية : { الم . تَنزيلُ الْكِتَابِ } [ سورة السجدة ] . فإذا فرغ منهما مدح الله وأثنى عليه ، ثم دعا بسبعة أسماء : يا قديم ، يا خفي ، يا دائم ، يا فرد ، يا وتر ، يا أحد ، يا صمد - وكان إذا أصابته شدة دعا بسبعة أخر : يا حي ، يا قيوم ، يا الله ، يا رحمن ، يا ذا الجلال والإكرام ، يا نور السموات والأرض ، وما بينهما ورب العرش العظيم ، يا رب .
وهذا أثر عجيب جدًا . {[10523]}
وقوله : { وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ } أي : واذكر نعمتي عليك في كفي إياهم عنك حين جئتهم بالبراهين والحجج القاطعة على نبوتك ورسالتك من الله إليهم ، فكذبوك واتهموك بأنك ساحر ، وسعوا في قتلك وصلبك ، فنجيتك منهم ، ورفعتك{[10524]} إليَّ ، وطهرتك من دنسهم ، وكفيتك شرهم . وهذا يدل على أن هذا الامتنان كان من الله إليه بعد رفعه إلى السماء الدنيا ، أو يكون هذا الامتنان واقعًا يوم القيامة ، وعبر عنه بصيغة الماضي دلالة على وقوعه لا محالة . وهذا من أسرار الغيوب التي أطلع الله عليها رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم .
{ إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك } بدل من يوم يجمع وهو على طريقة { ونادى أصحاب الجنة } والمعنى أنه سبحانه وتعالى يوبخ الكفرة يومئذ بسؤال الرسل عن إجابتهم وتعديد ما أظهر عليهم من الآيات فكذبتهم طائفة وسموهم سحرة ، وغلا آخرون فاتخذوهم آلهة . أو نصب بإضمار اذكر . { إذ أيدتك } قويتك وهو ظرف لنعمتي أو حال منه وقرئ " آيدتك " . { بروح القدس } بجبريل عليه الصلاة والسلام ، أو بالكلام الذي يحيا به الدين ، أو النفس حياة أبدية ويطهر من الآثام ويؤيده قوله : { تكلم الناس في المهد وكهلا } أي كائنا في المهد وكهلا ، والمعنى تكلمهم في الطفولة والكهولة على سواء ، والمعنى إلحاق حاله في الطفولية بحال الكهولية في كمال العقل والتكلم ، وبه استدل على أنه سينزل فإنه رفع قبل أن يكتمل . { وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني } سبق تفسيره في سورة " آل عمران " . وقرأ نافع ويعقوب " طائرا " ويحتمل الإفراد والجمع كالباقر . { وإذ كففت بني إسرائيل عنك } يعني اليهود حين هموا بقتله . { إذ جئتهم بالبينات } ظرف لكففت . { فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين } أي ما هذا الذي جئت به إلا سحر مبين . وقرأ حمزة والكسائي إلا " ساحر " فالإشارة إلى عيسى عليه الصلاة والسلام .