109- وتذكروا يوم القيامة حين يجمع الله أمامه كلَّ الرسل ويسألهم قائلا لهم : ماذا أجابتكم به أممكم الذين أرسلتكم إليها ، أبالإيمان أم بالإنكار ؟ والأمم حينئذ حاضرة لتقوم عليهم الحُجة بشهادة رسلهم ، بأننا لا نعلم ما كان بعدنا من أمر من أرسلنا إليهم ، وأنت - وحدك - الذي تعلم ذلك ، لانك الذي أحاط علمه بالخفايا كما أحاط بالظواهر .
هذا الدرس بطوله بقية في تصحيح العقيدة ؛ وتقويم ما دخل عليها عند النصارى من انحرافات أخرجتها عن أصلها السماوي عند قاعدتها الأساسية . إذ أخرجتها من التوحيد المطلق الذي جاء به عيسى - عليه السلام - كما جاء به كل رسول قبله ، إلى ألوان من الشرك ، لا علاقة لها أصلاً بدين الله .
ومن ثم فإن هذا الدرس كذلك يستهدف تقرير حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية - كما هي في التصور الإسلامي - تقرير هذه الحقيقة من خلال هذا المشهد العظيم الذي يعرضه ؛ والذي يقرر فيه عيسى - عليه السلام - على ملأ من الرسل ، ومن البشر جميعاً ، أنه لم يقل لقومه شيئا مما زعموه من ألوهيته ومن تأليه أمه ؛ وأنه ما كان له أن يقول من هذا الشرك كله شيئاً !
والسياق القرآني يعرض هذه الحقيقة في مشهد تصويري من " مشاهد القيامة " التي يعرضها القرآن الكريم عرضاً حياً ناطقاً ، موحياً مؤثراً ، عميق التأثير ، يهتز له الكيان البشري وهو يتلقاه كأنما يشهده اللحظة في الواقع المنظور . الواقع الذي تراه العين ، وتسمعه الأذن . وتتجلى فيه الانفعالات والسمات النابضة بالحياة
فها نحن أولاء أمام المشهد العظيم :
{ يوم يجمع الله الرسل ، فيقول ماذا أجبتم ؟ قالوا : لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب } : يوم يجمع الله الرسل الذين فرقهم في الزمان فتتابعوا على مداره ؛ وفرقهم في المكان فذهب كل إلى قريته ؛ وفرقهم في الأجناس فمضى كل إلى قومه . . يدعون كلهم بدعوة واحدة على اختلاف الزمان والمكان والأقوام ؛ حتى جاء خاتمهم - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة الواحدة لكل زمان ومكان وللناس كافة من جميع الأجناس والألوان . .
هؤلاء الرسل إلى شتى الأقوام ، في شتى الأمكنة والأزمان . . ها هو ذا مرسلهم فرادى ، يجمعهم جميعاً ؛ ويجمع فيهم شتى الاستجابات ، وشتى الاتجاهات . وها هم أولاء . . نقباء البشرية في حياتها الدنيا ؛ ومعهم رسالات الله إلى البشرية في شتى أرجائها ، ووراءهم استجابات البشرية في شتى أعصارها . هؤلاء هم أمام الله . . رب البشرية - سبحانه - في مشهد يوم عظيم .
وها هو ذا المشهد ينبض بالحياة :
{ يوم يجمع الله الرسل . فيقول : ماذا أجبتم ؟ } .
{ ماذا أجبتم ؟ } . . فاليوم تجمع الحصيلة ، ويضم الشتات ، ويقدم الرسل حساب الرسالات ، وتعلن النتائج على رؤوس الأشهاد .
{ ماذا أجبتم ؟ } . . والرسل بشر من البشر ؛ لهم علم ما حضر ، وليس لديهم علم ما استتر .
لقد دعوا أقوامهم إلى الهدى ؛ فاستجاب منهم من استجاب ، وتولى منهم من تولى . . وما يعلم الرسول حقيقة من استجاب إن كان يعرف حقيقة من تولى . فإنما له ظاهر الأمر وعلم ما بطن لله وحده . . وهم في حضرة الله الذي يعرفونه خير من يعرف ؛ والذي يهابونه أشد من يهاب ؛ والذي يستحيون أن يدلوا بحضرته بشيء من العلم وهم يعلمون أنه العليم الخبير . إنه الاستجواب المرهوب في يوم الحشر العظيم ، على مشهد من الملأ الأعلى ، وعلى مشهد من الناس أجمعين . الاستجواب الذي يراد به المواجهة . . مواجهة البشرية برسلها ؛ ومواجهة المكذبين من هذه البشرية خاصة برسلهم الذين كانوا يكذبونهم . ليعلن في موقف الإعلان ، أن هؤلاء الرسل الكرام إنما جاءوهم من عند الله بدين الله ؛ وها هم أولاء مسؤولون بين يديه - سبحانه - عن رسالاتهم وعن أقوامهم الذين كانوا من قبل يكذبون .
أما الرسل فهم يعلنون أن العلم الحق لله وحده ؛ وأن ما لديهم من علم لا ينبغي أن يدلوا به في حضرة صاحب العلم ، تأدبا وحياء ، ومعرفة بقدرهم في حضرة الله :
وهذا إخبار عما يخاطب الله به المرسلين يوم القيامة ، عما أجيبوا به من أممهم الذين أرسلهم إليهم ، كما قال تعالى : { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } [ الأعراف : 6 ] وقال تعالى : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ الحجر : 92 ، 93 ] .
وقول الرسل : { لا عِلْمَ لَنَا } قال مجاهد ، والحسن البصري ، والسُّدِّي : إنما قالوا ذلك من هول ذلك اليوم .
قال عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن الأعمش ، عن مجاهد : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ } فيفزعون فيقولون : { لا عِلْمَ لَنَا } رواه ابن جرير وابن أبي حاتم .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حُمَيْد ، حدثنا حَكَّام ، حدثنا عَنْبَسَة قال : سمعت شيخًا يقول : سمعت الحسن يقول في قوله : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ } الآية ، قال : من هول ذلك اليوم .
وقال أسباط ، عن السُّدِّي : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا } ذلك : أنهم نزلوا منزلا ذهلت فيه العقول ، فلما سئلوا قالوا : { لا عِلْمَ لَنَا } ثم نزلوا منزلا آخر ، فشهدوا على قومهم . رواه ابن جرير .
ثم قال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا الحجاج ، عن ابن جُرَيْج قوله : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ } ماذا عملوا بعدكم ؟ وماذا أحدثوا بعدكم ؟ قالوا : { لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ }
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ } يقولون للرب ، عز وجل : لا علم لنا ، إلا علم أنت أعلم به منا .
رواه ابن جرير . ثم اختاره على هذه الأقوال الثلاثة{[10520]} ولا شك أنه قول حسن ، وهو من باب التأدب مع الرب ، عز وجل ، أي : لا علم لنا بالنسبة إلى علمك المحيط بكل شيء ، فنحن وإن كنا قد أجبنا وعرفنا من أجابنا ، ولكن منهم من كنا إنما نطلع على ظاهره ، لا علم لنا بباطنه ، وأنت العليم بكل شيء ، المطلع على كل شيء . فعلمنا بالنسبة إلى علمك كلا عِلْم ، فإنك { أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ }
{ والله لا يهدي القوم الفاسقين } أي لا يهديهم إلى حجة أو إلى طريق الجنة فقوله تعالى :{ يوم يجمع الله الرسل } ظرف له . وقيل بدل من مفعول واتقوا بدل الاشتمال ، أو مفعول واسمعوا على حذف المضاف أي واسمعوا خبر يوم جمعهم ، أو منصوب بإضمار اذكر . { فيقول } أي للرسل . { ماذا أجبتم } أي إجابة أجبتم ، على أن ماذا في موضع المصدر ، أو بأي شيء أجبتم فحذف الجار ، وهذا السؤال لتوبيخ قومهم كما أن سؤال الموؤدة لتوبيخ الوائد ولذلك { قالوا لا علم لنا } أي لا علم لنا بما لست تعلمه . { إنك أنت علام الغيوب } فتعلم ما نعلمه مما أجابونا وأظهروا لنا وما لا نعلم مما أضمروا في قلوبهم ، وفيه التشكي منهم ورد الأمر إلى علمه بما كابدوا منهم . وقيل المعنى لا علم لنا إلى جنب علمك ، أو لا علم لنا بما أحدثوا بعدنا وإنما الحكم للخاتمة . وقرئ { علام } بالنصب على أن الكلام قد تم بقوله { إنك أنت } ، أي إنك أنت الموصوف بصفاتك المعروفة وعلام منصوب على الاختصاص أو النداء . وقرأ أبو بكر وحمزة الغيوب بكسر الغين حيث وقع .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.