44- قيل لها من بعد ذلك : ادخلي قصر سليمان ، وكان صحنه من زجاج تحته ماء يسبح فيه السمك ، فكشفت عن ساقيها تحسب ما تمر فيه ماء ، فنبهها سليمان إلى أن الصحن أملس مكون من زجاج ، فراعها ذلك المنظر المادي ، وعلمت أن ملكها لا يساوى شيئاً بجوار ملك سليمان - النبي - فقالت : رب إني ظلمت نفسي باغتراري بملكي وكفري ، وأذعنت في صحبة سليمان مؤمنة بالله تعالى خالق العالمين ومربيهم والقائم عليهم .
وكان سليمان - عليه السلام - قد أعد للملكة مفاجأة أخرى ، لم يكشف السياق عنها بعد ، كما كشف عن المفاجأة الأولى قبل ذكر حضورها - وهذه طريقة أخرى في الأداء القرآني في القصة غير الطريقة الأولى :
( قيل لها : ادخلي الصرح . فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها ! قال : إنه صرح ممرد من قوارير ! قالت : رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ) . .
لقد كانت المفاجأة قصرا من البلور ، أقيمت أرضيته فوق الماء ، وظهر كأنه لجة . فلما قيل لها : ادخلي الصرح ، حسبت أنها ستخوض تلك اللجة . فكشفت عن ساقيها ? فلما تمت المفاجأة كشف لها سليمان عن سرها : ( قال : إنه صرح ممرد من قوارير ) !
ووقفت الملكة مفجوءة مدهوشة أمام هذه العجائب التي تعجز البشر ، وتدل على أن سليمان مسخر له قوى أكبر من طاقة البشر . فرجعت إلى الله ، وناجته معترفة بظلمها لنفسها فيما سلف من عبادة غيره . معلنة إسلامها ( مع سليمان )لا لسليمان . ولكن ( لله رب العالمين ) .
لقد اهتدى قلبها واستنار . فعرفت أن الإسلام لله ليس استسلاما لأحد من خلقه ، ولو كان هو سليمان النبي الملك صاحب هذه المعجزات . إنما الإسلام إسلام لله رب العالمين . ومصاحبة للمؤمنين به والداعين إلى طريقه على سنة المساواة . . ( وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ) .
وسجل السياق القرآني هذه اللفتة وأبرزها ، للكشف عن طبيعة الإيمان بالله ، والإسلام له . فهي العزة التي ترفع المغلوبين إلى صف الغالبين . بل التي يصبح فيها الغالب والمغلوب أخوين في الله . لا غلاب منهما ولا مغلوب وهما أخوان في الله . . رب العالمين . . على قدم المساواة .
ولقد كان كبراء قريش يستعصون على دعوة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إياهم إلى الإسلام . وفي نفوسهم الكبر أن ينقادوا إلى محمد بن عبد الله ، فتكون له الرياسة عليهم والاستعلاء . فها هي ذي امرأة في التاريخ تعلمهم أن الإسلام لله يسوي بين الداعي والمدعوين . بين القائد والتابعين . فإنما يسلمون مع رسول الله لله رب العالمين !
وقوله : { قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا } وذلك أن سليمان ، عليه السلام أمر الشياطين فبنوا لها قصرًا عظيما من قوارير ، أي : من زجاج ، وأجرى تحته الماء ، فالذي لا يعرف أمره يحسب أنه ماء ، ولكن الزجاج يحول بين الماشي وبينه . واختلفوا في السبب الذي دعا سليمان ، عليه السلام ، إلى{[22055]} اتخاذه ، فقيل : إنه لما عزم على تزويجها واصطفائها لنفسه ؛ ذكر له جمالها وحسنها ، ولكن في ساقيها هُلْبٌ{[22056]} عظيم ، ومؤخر أقدامها كمؤخر الدابة . فساءه ذلك ، فاتخذ هذا ليعلم صحته أم لا ؟ - هذا قول محمد بن كعب القُرَظي ، وغيره - فلما دخلت وكشفت عن ساقيها ، رأى أحسن الناس وأحسنه قدمًا ، ولكن رأى على رجليها شعرًا ؛ لأنها ملكة ليس لها بعل{[22057]} فأحب أن يذهب ذلك عنها فقيل لها : الموسى ؟ فقالت : لا أستطيع ذلك . وكره سليمان ذلك ، وقال{[22058]} للجن : اصنعوا شيئًا غير الموسى يذهب به هذا الشعر ، فصنعوا له النُوْرَةَ . وكان أول من اتخذت له النّورَة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، ومحمد بن كعب القرظي ، والسدي ، وابن جُرَيْج ، وغيرهم .
وقال محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن رُومان : ثم قال لها : ادخلي الصرح ، ليريها مُلْكًا هو أعزّ من ملكها ، وسلطانا هو أعظم من سلطانها . فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها ، لا تشك أنه ماء تخوضه ، فقيل لها : إنه صرح مُمَرّد من قوارير . فلما وقفت على سليمان ، دعاها إلى عبادة الله وعاتبها في عبادتها الشمس{[22059]} من دون الله .
وقال الحسن البصري : لما رأت العلْجَةُ الصرح عرفت - والله - أن قد رأت ملكًا أعظم من ملكها .
وقال محمد بن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه قال : أمر سليمان بالصرح ، وقد عملته له الشياطين من زجاج ، كأنه الماء بياضا . ثم أرسل الماء تحته ، ثم وضع له فيه سريره ، فجلس عليه ، وعكفت عليه الطير والجن والإنس ، ثم قال : ادخلي الصرح ، ليريها ملكا هو أعز من ملكها ، وسلطانا هو أعظم من سلطانها { فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا } ، لا تشك أنه ماء تخوضه ، قيل لها : { إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ } ، فلما وقفت على سليمان ، دعاها إلى عبادة الله ، عز وجل ، وعاتبها في عبادتها الشمس من دون الله . فقالت بقول الزنادقة ، فوقع سليمان ساجدًا إعظاما لما قالت ، وسجد معه الناس ، فسقط في يديها حين رأت سليمان صنع ما صنع ، فلما رفع سليمان رأسه قال : ويحك ! ماذا قلت ؟ - قال :{[22060]} وأنسيت ما قالت{[22061]} فقالت : { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ، فأسلمت وحسن إسلامها .
وقد روى الإمام أبو بكر بن أبي شيبة في هذا أثرًا غريبا عن ابن عباس ، قال :{[22062]} حدثنا الحسين بن علي ، عن زائدة ، حدثني عطاء بن السائب ، حدثنا مجاهد ، ونحن في الأزد - قال : حدثنا ابن عباس قال : كان سليمان ، عليه السلام ، يجلس على سريره ، ثم تُوضَعُ كراسي حوله ، فيجلس عليها الإنس ، ثم يجلس{[22063]} الجن ، ثم الشياطين ، ثم تأتي الريح فترفعهم ، ثم تظلهم الطير ، ثم
يغدون قدر ما يشتهي الراكب أن ينزل شهرًا ورواحها شهرًا ، قال : فبينما هو ذات يوم في مسير له ، إذ تفقد الطير ففقد الهدهد فقال :{[22064]} { مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } ، قال : فكان عذابه إياه أن ينتفه ، ثم يلقيه في الأرض ، فلا يمتنع من نملة ولا من شيء من هوام الأرض .
قال عطاء : وذكر سعيد بن جُبَير عن ابن عباس مثل حديث مجاهد { فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ } - فقرأ حتى انتهى إلى قوله - { قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا } وكتب { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } ، إلى بلقيس : { أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } ، فلما ألقى الهدهد بالكتاب{[22065]} إليها ، ألقي في رُوعها : إنه كتاب كريم ، وإنه من سليمان ، وأن لا تعلوا علي وأتوني مسلمين . قالوا : نحن أولو قوة . قالت : إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها ، وإني مرسلة إليهم بهدية . فلما جاءت الهدية سليمان قال : أتمدونني بمال ، ارجع إليهم . فلما نظر إلى الغبار - أخبرنا ابن عباس قال : وكان بين سليمان وبين ملكة سبأ ومَنْ معها حين نظر إلى الغبار كما بيننا وبين الحيرة ، قال عطاء : ومجاهد حينئذ في الأزد - قال سليمان : أيكم يأتيني بعرشها ؟ قال : وبين عرشها وبين سليمان حين نظر إلى الغبار مسيرة شهرين ، { قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ } . قال : وكان لسليمان مجلس يجلس فيه للناس ، كما يجلس الأمراء ثم يقوم - قال :{[22066]} { أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ } . قال سليمان : أريد أعجل من ذلك . فقال الذي عنده علم من الكتاب : أنا أنظر في كتاب ربي ، ثم آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك . قال : [ فنظر إليه سليمان فلما قطع كلامه رد سليمان بصره ]{[22067]} ، فنبع عرشها من تحت قدم سليمان ، من تحت كرسي كان سليمان يضع عليه رجله ، ثم يصعد إلى السرير . قال : فلما رأى سليمان عرشها [ مستقرًا عنده ]{[22068]} قال : { هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي } ، { قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا } ، فلما جاءت قيل لها : أهكذا عرشك ؟ قالت : كأنه هو . قال : فسألته عن أمرين ، قالت لسليمان : أريد ماء [ من زبد رواء ]{[22069]} ليس من أرض ولا من سماء - وكان سليمان إذا سئل عن شيء ، سأل الإنس ثم الجن ثم الشياطين . [ قال ]{[22070]} فقالت الشياطين : هذا هين ، أجْرِ الخيلَ ثم خذ عرقها ، ثم املأ منه الآنية . قال : فأمر بالخيل{[22071]} فأجريت ، ثم أخذ عرقها فملأ منه الآنية . قال : وسألت عن لون الله عز وجل . قال : فوثب سليمان عن سريره ، فخر ساجدًا ، فقال : يا رب ، لقد سألَتْني عن أمر إنه يتكايد{[22072]} ، أي : يتعاظم في قلبي أن أذكره لك . قال : ارجع فقد كَفَيتكهم ، قال : فرجع إلى سريره فقال : ما سألت عنه ؟ قالت : ما سألتك إلا عن الماء . فقال لجنوده : ما سألت عنه ؟ فقالوا : ما سألتك إلا عن الماء . قال : ونَسوه كلّهم . قال : وقالت الشياطين لسُلَيمان : تُريدُ أن تتخذها لنفسك{[22073]} ، فإن اتخذها لنفسه ثم ولد بينهما ولد ، لم ننفك من عبوديته . قال : فجعلوا صرحًا ممردًا من قوارير ، فيه السمك . قال : فقيل لها :
ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة ، وكشفت عن ساقيها ، فإذا هي شَعْرَاء . فقال سليمان : هذا قبيح ، ما يذهبه ؟ فقالوا : تذهبه{[22074]} المواسي . فقال : أثر الموسى{[22075]} قبيح ! قال : فجعلت الشياطين النورَة . قال : فهو أول من جُعلت له النورة .
ثم قال أبو بكر بن أبي شيبة : ما أحسنه من حديث .
قلت : بل هو منكر غريب جدًا ، ولعله من أوهام عطاء بن السائب على ابن عباس ، والله أعلم . والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب ، مما يوجد في صحفهم ، كروايات كعب ووهب - سامحهما الله تعالى - فيما نقلاه إلى هذه الأمة من أخبار بني إسرائيل ، من الأوابد{[22076]} والغرائب والعجائب ، مما كان وما لم يكن ، ومما حرف وبدل ونسخ . وقد أغنانا الله ، سبحانه ، عن ذلك بما هو أصح منه وأنفع وأوضح وأبلغ ، ولله الحمد والمنة .
أصل الصرح في كلام العرب : هو القصر ، وكل بناء مرتفع ، قال الله ، سبحانه وتعالى ، إخبارًا عن فرعون - لعنه الله - أنه قال لوزيره هامان { ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى } الآية [ غافر : 36 ، 37 ] . والصرح : قصر في اليمن عالي البناء ، والممرد أي : المبنى بناء محكما أملس { مِنْ قَوَارِيرَ } أي : زجاج . وتمريد البناء تمليسه . ومارد : حصن بدومة الجندل .
والغرض أن سليمان ، عليه السلام ، اتخذ قصرا عظيما منيفا من زجاج لهذه الملكة ؛ ليريها عظمة سلطانه وتمكنه ، فلما رأت ما آتاه الله ، تعالى ، وجلالة ما هو فيه ، وتبصرت في أمره انقادت لأمر الله{[22077]} وعَرَفت أنه نبي كريم ، وملك عظيم ، فأسلمت لله ، عز وجل ، وقالت : { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي } أي : بما سلف من كفرها وشركها وعبادتها وقومها الشمس{[22078]} من دون الله ، { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : متابعة لدين سليمان في عبادته لله{[22079]} وحده ، لا شريك له ، الذي خلق كل شيء فقدره تقديرًا .
القول في تأويل قوله تعالى : حسر سورة النمل ) { قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصّرْحَ فَلَمّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنّهُ صَرْحٌ مّمَرّدٌ مّن قَوارِيرَ قَالَتْ رَبّ إِنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ } .
ذُكر أن سليمان لما أقبلت صاحبة سبأ تريده ، أمر الشياطين فبنوا له صرحا ، وهو كهيئة السطح من قوارير ، وأجرى من تحته الماء ليختبر عقلها بذلك ، وفهمها على نحو الذي كانت تفعل هي من توجيهها إليه الوصائف والوصفاء ليميز بين الذكور منهم والإناث معاتبة بذلك كذلك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه ، قال : أمر سليمان بالصرح ، وقد عملته له الشياطين من زجاج كأنه الماء بياضا ، ثم أرسل الماء تحته ، ثم وضع له فيه سريره ، فجلس عليه ، وعكفت عليه الطير والجنّ والإنس ، ثم قال : ادْخُلِي الصّرْحَ ليريها مُلكا هو أعزّ من مُلكها ، وسلطانا هو أعظم من سلطانها فَلَما رأَتْهُ حَسِبَتْهُ لّجةً وكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها لا تشكّ أنه ماء تخوضه ، قيل لها : ادخلي إنه صرح ممرّد من قوارير فلما وقفت على سليمان دعاها إلى عبادة الله وعاتبها في عبادتها الشمس دون الله ، فقالت بقول الزنادقة ، فوقع سليمان ساجدا إعظاما لما قالت ، وسجد معه الناس وسقط في يديها حين رأت سليمان صنع ما صنع فلما رفع سليمان رأسه قال : ويحكِ ماذا قلت ؟ قال : وأُنْسِيت ما قالت : ، فقالت : رَبّ إنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وأسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانِ لله رَبّ العالَمِينَ وأسلمت ، فحسُن إسلامها .
وقيل : إن سليمان إنما أمر ببناء الصرح على ما وصفه الله ، لأن الجنّ خافت من سليمان أن يتزوّجها ، فأرادوا أن يزهدوه فيها ، فقالوا : إن رجلها رجل حمار ، وإن أمها كانت من الجنّ ، فأراد سليمان أن يعلم حقيقة ما أخبرته الجنّ من ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب القرظيّ ، قال : قالت الجنّ لسليمان تزهّدهِ في بِلقيس : إن رجلها رجل حمار ، وإن أمها كانت من الجنّ فأمر سليمان بالصرح ، فعُمل ، فسجن فيه دواب البحر : الحِيتان ، والضفادع فلما بصرت بالصرح قالت : ما وجد ابن داود عذابا يقتلني به إلا الغرق فَحَسِبَتْهُ لُجّةً وكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قال : فإذا ( هي ) أحسن الناس ساقا وقدما . قال : فضنّ سليمان بساقها عن الموسى ، قال : فاتّخذت النّورة بذلك السبب .
وجائز عندي أن يكون سليمان أمر باتخاذ الصرح للأمرين الذي قاله وهب ، والذي قاله محمد بن كعب القرضيّ ، ليختبر عقلها ، وينظر إلى ساقها وقدمها ، ليعرف صحة ما قيل له فيها .
وكان مجاهد يقول فيما ذكر عنه في معنى الصرح ما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : الصرْحَ قال : بركة من ماء ضرب عليها سليمان قوارير ألبسها . قال : وكانت بلقيس هلباء شعراء ، قدمها كحافر الحمار ، وكانت أمها جنية .
حدثني أحمد بن الوليد الرملي ، قال : حدثنا هشام بن عمار ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، عن سعيد بن بشير ، عن قَتادة ، عن النضر بن أنس ، عن بشير بن نهيك ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كانَ أحَدُ أبَوَيْ صَاحِبَةِ سَبإٍ جِنّبّا » .
قال : ثنا صفوان بن صالح ، قال : ثني الوليد ، عن سعيد بن بشير ، عن قَتادة ، عن بشير بن نهيك ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ولم يذكر النضر بن أنس .
وقوله : فَلَما رأتْهُ حَسِبَتْهُ لُجةً يقول : فلما رأت المرأة الصرح حسبته لبياضه واضطراب دواب الماء تحته لجة بحر كشفت عن ساقيها لتخوضه إلى سليمان . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة قِيل لَهَا ادْخُلِي الصرْحَ فَلَمّا رأتْهُ حَسِبَتْهُ لُجّةً قال : وكان من قوارير ، وكان الماء من خلفه فحسبته لجة .
قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله حَسِبَتْهُ لُجّةً قال : بحرا .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا ابن سوار ، قال : حدثنا روح بن القاسم ، عن عطاء بن السائب ، عن مجاهد ، في قوله : وكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها فإذا هما شعراوان ، فقال : ألا شيء يذهب هذا ؟ قالوا : الموسى ، قال : لا ، الموسى له أثر ، فأمر بالنّورة فصنعت .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا حفص ، عن عمران بن سليمان ، عن عكرمة وأبي صالح قالا : لما تزوّج سليمان بلقيس قالت له : لم تمسني حديدة قطّ قال سليمان للشياطين : انظروا ما يُذهب الشعر ؟ قالوا : النّورة ، فكان أوّل من صنع النورة .
وقوله : إنّهُ صَرْحٌ مُمَرّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ يقول جلّ ثناؤه : قال سليمان لها : إن هذا ليس ببحر ، إنه صرح ممّرد من قوارير ، يقول : إنما هو بناء مبنيّ مشيد من قوارير . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، مُمَرّدً قال : مشيد .
وقوله : قالَتْ رَبّ إنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وأسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ . . . الاَية ، يقول تعالى ذكره : قالت المرأة صاحبة سبأ : ربّ إني ظلمت نفسي في عبادتي الشمس ، وسجودي لما دونك وأسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلّهِ تقول : وانقدت مع سليمان مذعنة الله بالتوحيد ، مفردة له بالألوهة والربوبية دون كلّ من سواه . وكان ابن زيد يقول في ذلك ما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في حَسِبَتْهُ لُجّةً قال : إنّهُ صَرْحٌ مُمَرّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ فعرفت أنها قد غلبت قالَتْ رَبّ إني ظَلَمْتُ نَفْسِي ، وأسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلّهِ رَبّ العالَمِينَ .
{ قيل لها ادخلي الصرح } القصر وقيل عرضة الدار . { فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها } روي انه أمر قبل قدومها ببناء قصر صحنه من زجاج أبيض وأجرى من تحته الماء وألقى فيه حيوانات البحر ووضع سريره في صدره فجلس عليه ، فلما أبصرته ظنته ماء راكدا فكشفت عن ساقيها . وقرأ ابن كثير برواية قنبل " سأقيها " بالهمز حملا على جمعه سؤوق وأسؤق . { قال إنه } إن ما تظنينه ماء . { صرح ممرد } مملس . { من قوارير } من الزجاج .
{ قالت رب إني ظلمت نفسي } بعبادتي الشمس ، وقيل بظني بسليمان فإنها حسبت انه يغرقها في اللجة . { وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين } فيما أمر به عباده وقد اختلف في أنه تزوجها أو زوجها من ذي تبع ملك همدان .
ولما وصلت بلقيس أمر سليمان الجن فصنعت له صرحاً وهو الصحن من غير سقف وجعلته مبنياً كالصهريج وملىء ماء وبث فيه السمك والضفادع وطبق بالزجاج الأبيض الشفاف ، وبهذا جاء صرحاً ، و { الصرح } أيضاً كل بناء عال ، وكل هذا من التصريح وهو الإعلان البالغ ، وجعل لسليمان في وسطه كرسي ، فلما وصلت إليه بلقيس { قيل لها ادخلي } إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأت اللجة وفزعت وظنت أنها قصد بها الغرق وعجبت من كون كرسيه على الماء ورأت ما هالها ولم يكن لها بد من امتثال الأمر ف » كشفت «عن ساقيها » ، فرأى سليمان ساقيها سليمة مما قالت الجن غير أنها كثيرة الشعر ، فلما بلغا هذا الحد ، قال لها سليمان { إنه صرح ممرد من قوارير } ، و «الممرد » المحكوك المملس ، ومنه الأمرد والشجرة المرداء التي لا ورق عليها والممرد أيضاً المطول ، ومنه قيل للحصن مارد{[9029]} ، وعند ذلك استسلمت بلقيس وأذعنت وأسلمت وأقرت على نفسها بالظلم ، فروي أن سليمان تزوجها عند ذلك وأسكنها الشام قاله الضحاك ، وقال سعيد بن عبد العزيز في كتاب النقاش تزوجها وردها إلى ملكها باليمن وكان يأتيها على الريح كل يوم مرة ، فولدت له غلاماً سماه داوود مات في حياته ، و { مع } ظرف ، وقيل حرف بني على الفتح ، وأما إذا أسكنت العين فلا خلاف أنه حرف جاء لمعنى{[9030]} وقرأ ابن كثير وحده في رواية أبي الأخربط «عن سأقيها » بالهمز قال أبو علي وهي ضعيفة وكذلك يضعف الهمز في قراءة قنبل «يكشف عن سأق »{[9031]} فأما همز السؤق{[9032]} وعلى سؤقه{[9033]} فلغة مشهورة في همز الواو التي قبلها ضمة حكى أبو علي أن أبا حيّة النميري كان يهمز كل واو قبلها ضمة وأنشد «لب المؤقدان إلى موسى »{[9034]} ووجهها أن الضمة تقوم على الواو إذ لا حائل بينهما ، وقرأ ابن مسعود «عن رجليها » ، وروي أن سليمان عليه السلام لما أراد زوال شعر ساقيها أشفق من حمل الموسى عليها وقيل إنها قالت ما مسني حديد قط فأمر الجن بالتلطف في زواله . فصنعوا النورة{[9035]} ولم تكن قبل الأمم ، وهذه الأمور التي فعلها سليمان عليه السلام من سوق العرش وعمل الصرح وغير ذلك قصد بذلك معاياتها والإغراب عليها ، كما سلكت هي قبل سبيل ملوك الدنيا في ذلك بأن أرسلت الجواري والغلمان واقترحت في أمر القدح والذرتين .
{ قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير }
جملة : { قيل لها ادخلي الصرح } استئناف ابتدائي لجزء من القصة . وطوي ذكر ترحلها إلى وصولها في ذكر ما يدل عليه من حلولها أمام صرح سليمان للدخول معه إليه أو الدخول عليه وهو فيه .
لما أراها سليمان عظمة حضارته انتقل بها حيث تشاهد أثراً بديعاً من آثار الصناعة الحكيمة وهو الصرح . والصرح يطلق على صحن الدار وعَرصتها . والظاهر أن صرح القصر الذي ذكر في سفر الملوك الأول في الإصحاح السابع وهو بيت وَعْر له بابان كان يجلس فيه سليمان للقضاء بين الناس .
والقائل لها : { ادخلي الصرح } هم الذين كانوا في رفقتها .
والقائل { إنه صرح ممرد من قوارير } هو سليمان كان مصاحباً لها أو كان يترقبها وزجاج الصرح المبلط به الصرح بينهما .
وذكر الدخول يقتضي أن الصرح مكان له باب . وفي سفر الملوك الأول في الإصحاح العاشر : فلما رأت البيت الذي بناه .
وحكاية أنها حسبته لجة عندما رأته تقتضي أن ذلك بدا لها في حين دخولها فدل على أن الصرح هو أول ما بدا لها من المدخل فهو لا محالة ساحة مَعْنِيّة للنزهة فرشت بزجاج شفاف وأجري تحته الماء حتى يخاله الناظر لُجّة ماء . وهذا من بديع الصناعة التي اختصت بها قصور سليمان في ذلك الزمان لم تكن معروفة في اليمن على ما بلغته من حضارة وعظمة بناء .
وقرأ قنبل عن ابن كثير { عن سأقيها } بهمزة ساكنة بعد السين عوضاً عن الألف على لغة من يهمز حرف المدّ إذا وقع وسط الكلمة . ومنه قول جرير :
لحَب المُؤقِدانِ إليَّ مؤسى *** وجعدة إذْ أضاءهما الوقود
وكشف ساقيها كان من أجل أنها شمرت ثيابها كراهية ابتلالها بما حسبته ماء . فالكشف عن ساقيها يجوز أن يكون بخلع خفيها أو نعليها ، ويجوز أن يكون بتشمير ثوبها . وقد قيل : إنها كانت لا تلبس الخفّين . والممرّد : المملس .
والقوارير : جمع قارورة وهي اسم لإناء من الزجاج كانوا يجعلونه للخمر ليظهر للرائي ما قرّ في قعر الإناء من تفث الخمر فيظهر المقدار الصافي منها . فسمى ذلك الإناء قارورة لأنه يظهر منه ما يقَرّ في قعره ، وجمعت على قَوارير ، ثم أطلق هذا الجمع على الطين الذي تتخذ منه القارورة وهو الزجاج ، فالقوارير من أسماء الزجاج ، قال بشار :
ارفُق بعمرو إذا حركْت نسبته *** فإنه عربي من قَوارير
يريد أن نسبته في العرب ضعيفة إذا حُرّكت تكسرت . وقد تقدم ذكر الزجاج عند قوله تعالى : { المصباح في زجاجة } في سورة النور ( 35 ) .
{ قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين }
بهرها ما رأت من آيات علمت منها أن سليمان صادق فيما دعاها إليه وأنه مؤيَّد من الله تعالى ، وعلمت أن دينها ودين قومها باطل فاعترفت بأنها ظلمت نفسها في اتباع الضلال بعبادة الشمس .
وهذا درجة أولى في الاعتقاد وهو درجة التخلية ، ثم صعدت إلى الدرجة التي فوقها وهي درجة التحَلّي بالإيمان الحق فقالت : { وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين } فاعترفت بأن الله هو رب جميع الموجودات ، وهذا مقام التوحيد .
وفي قولها : { مع سليمان } إيمان بالدين الذي تقلده سليمان وهو دين اليهودية ، وقد أرادت جمع معاني الدين في هذه الكلمة ليكون تفصيلها فيما تتلقاه من سليمان من الشرائع والأحكام .
وجملة : { قالت رب إني ظلمت نفسي } جواب عن قول سليمان { إنه صرح ممرّد من قوارير } ولذلك لم تعطف .
والإسلام : الانقياد إلى الله تعالى . وتقلُّد بلقيس للتوحيد كان في خاصة نفسها لأنها دانت لله بذلك إذ لم يثبت أن أهل سبأ انخلعوا عن عبادة الأصنام كما يأتي في سورة سبأ . وأما دخول اليهودية بلاد اليمن فيأتي في سورة البروج . وسكت القرآن عن بقية خبرها ورجوعها إلى بلادها ، وللقصاصين أخبار لا تصح فهذا تمام القصة .
ومكان العبرة منها الاتعاظ بحال هذه الملكة ، إذ لم يصدّها علوّ شأنها وعظمة سلطانها مع ما أوتيته من سلامة الفطرة وذكاء العقل عن أن تنظر في دلائل صدق الداعي إلى التوحيد وتوقن بفساد الشرك وتعترف بالوحدانية لله ، فما يكون إصرار المشركين على شركهم بعد أن جاءهم الهدي الإسلامي إلا لسخافة أحلامهم أو لعمايتهم عن الحق وتمسكهم بالباطل وتصلبهم فيه . ولا أصل لما يذكره القصّاصون وبعض المفسرين من أن سليمان تزوج بلقيس ، ولا أن له ولداً منها . فإن رحبعام ابنَه الذي خلفه في الملك كان من زوجة عَمُّونِيَّة .