تقرر هذه السورة أن الله قد شرح صدر نبيه وجعله مهبط الأسرار والعلوم ، وحط عنه ما أثقل ظهره من أعباء الدعوة ، وقرن اسمه باسمه في أصل العقيدة وشعائر الدين ، ثم ذكرت سنة الله في أن يقرن اليسر بالعسر ، ودعت الرسول كلما فرغ من فعل خير أن يجتهد في فعل خير آخر ، وأن يجعل قصده إلى ربه فهو القادر على عونه .
نزلت هذه السورة بعد سورة الضحى . وكأنها تكملة لها . فيها ظل العطف الندي . وفيها روح المناجاة الحبيب . وفيها استحضار مظاهر العناية . واستعراض مواقع الرعاية . وفيها البشرى باليسر والفرج . وفيها التوجيه إلى سر اليسر وحبل الاتصال الوثيق . .
( ألم نشرح لك صدرك ? ووضعنا عنك وزرك . الذي أنقض ظهرك ? ورفعنا لك ذكرك ? )
وهي توحي بأن هناك ضائقة كانت في روح الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] لأمر من أمور هذه الدعوة التي كلفها ، ومن العقبات الوعرة في طريقها ؛ ومن الكيد والمكر المضروب حولها . . توحي بأن صدره [ صلى الله عليه وسلم ] كان مثقلا بهموم هذه الدعوة الثقيلة ، وأنه كان يحس العبء فادحا على كاهله . وأنه كان في حاجة إلى عون ومدد وزاد ورصيد . .
ثم كانت هذه المناجاة الحلوة ، وهذا الحديث الودود !
( ألم نشرح لك صدرك ? ) . . ألم نشرح صدرك لهذه الدعوة ? ونيسر لك أمرها ? . ونجعلها حبيبة لقلبك ، ونشرع لك طريقها ? وننر لك الطريق حتى ترى نهايته السعيدة !
فتش في صدرك - ألا تجد فيه الروح والانشراح والإشراق والنور ? واستعد في حسك مذاق هذا العطاء ، وقل : ألا تجد معه المتاع مع كل مشقة والراحة مع كل تعب ، واليسر مع كل عسر ، والرضى مع كل حرمان ?
يقول تعالى : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } يعني : أما شرحنا لك صدرك ، أي : نورناه وجعلناه فَسيحًا رحيبًا واسعًا كقوله : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ } [ الأنعام : 125 ] ، وكما شرح الله صدره كذلك جعل شَرْعه فسيحا واسعًا سمحًا سهلا لا حرج فيه ولا إصر ولا ضيق .
وقيل : المراد بقوله : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } شرح صدره ليلة الإسراء ، كما تقدم من رواية مالك بن صعصعة{[30202]} وقد أورده الترمذي هاهنا . وهذا وإن كان واقعًا ، ولكن لا منافاة ، فإن من جملة شرح صدره الذي فُعِل بصدره ليلة الإسراء ، وما نشأ عنه من الشرح المعنوي أيضًا ، والله أعلم .
قال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثني محمد بن عبد الرحيم{[30203]} أبو يحيى البزاز{[30204]} حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا معاذ بن محمد بن معاذ بن محمد بن أبي بن كعب ، حدثني أبي محمد بن معاذ ، عن معاذ ، عن محمد ، عن أبي بن كعب : أن أبا هريرة كان جريًّا على أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء لا يسأله عنها غيره ، فقال : يا رسول الله ، ما أولُ ما رأيت من أمر النبوة ؟ فاستوى رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا وقال : " لقد سألتَ يا أبا هريرة ، إني لفي الصحراء ابنُ عشر سنين وأشهر ، وإذا بكلام فوق رأسي ، وإذا رجل يقول لرجل : أهو هو ؟ [ قال : نعم ]{[30205]} فاستقبلاني بوجوه لم أرها [ لخلق ]{[30206]} قط ، وأرواح لم أجدها من خلق قط ، وثياب لم أرها على أحد قط . فأقبلا إلي يمشيان ، حتى أخذ كل واحد منهما بعَضُدي ، لا أجد لأحدهما مسا ، فقال أحدهما لصاحبه : أضجعه . فأضجعاني بلا قَصْر ولا هَصْر . فقال أحدهما لصاحبه : افلق صدره . فهوى أحدهما إلى صدري ففلقه فيما أرى بلا دم ولا وجع ، فقال له : أخرج الغِلّ والحَسَد . فأخرج شيئًا كهيئة العلقة ثم نبذها فطرحها ، فقال له : أدخل الرأفة والرحمة ، فإذا مثل الذي أخرج شبهُ الفضة ، ثم هز إبهام رجلي اليمنى فقال : اغدُ واسلم . فرجعت بها أغدو ، رقة على الصغير ، ورحمةً للكبير " {[30207]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الّذِيَ أَنقَضَ ظَهْرَكَ } .
قوله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، مذكّره آلاءه عنده ، وإحسانه إليه ، حاضا له بذلك على شكره على ما أنعم عليه ، ليستوجب بذلك المزيد منه : أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ يا محمد ، للهدى والإيمان بالله ومعرفة الحقّ صَدْرَكَ فنلين لك قلبك ، ونجعله وعاء للحكمة وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ يقول : وغفرنا لك ما سلف من ذنوبك ، وحططنا عنك ثقل أيام الجاهلية التي كنت فيها وهي في قراءة عبد الله فيما ذُكر : «وَحَلَلْنا عَنْكَ وِقْرَكَ » الّذِي أنْقَضَ ظَهْرَكَ يقول : الذي أثقل ظهرك فأوهنه ، وهو من قولهم للبعير إذا كان رجيع سفر ، قد أوهنه السفر ، وأذهب لحمه : هو نِقْضُ سَفَر . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ قال : ذنبك .
وقوله : أنْقَضَ ظَهْرَكَ قال : أثقل ظهرك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : أَلَمَ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الّذِي أنْقَضَ ظَهْرَكَ : كانت للنبيّ صلى الله عليه وسلم ذنوب قد أثقلته ، فغفرها الله له .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : أنْقَضَ ظَهْرَكَ قال : كانت للنبيّ صلى الله عليه وسلم ذنوب قد أثقلته ، فغفرها الله له .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ يعني : الشرك الذي كان فيه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ألَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ قال : شرح له صدرَه ، وغفر له ذنبَه الذي كان قبل أن يُنَبأ ، فوضعه .
بسم الله الرحمن الرحيم ألم نشرح لك صدرك ألم نفسحه حتى وسع مناجاة الحق ودعوة الخلق فكان غائبا حاضرا ، أو ألم نفسحه بما أودعنا فيه من الحكم وأزلنا عنه ضيق الجهل ، أو بما يسرنا لك تلقي الوحي بعدما كان يشق عليك ، وقيل إنه إشارة إلى ما روي أن جبريل عليه الصلاة والسلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صباه أو يوم الميثاق فاستخرج قلبه فغسله ثم ملأه إيمانا وعلما ، ولعله إشارة إلى نحو ما سبق ، ومعنى الاستفهام إنكار نفي الانشراح مبالغة في إثباته ولذلك عطف عليه .
عدد الله على نبيه صلى الله عليه وسلم نعمه عليه في أن شرح صدره للنبوة وهيأه لها ، وذهب الجمهور إلى شرح الصدر المذكور هو تنويره بالحكمة وتوسيعه لتلقي ما يوحي إليه ، وقال ابن عباس وجماعة : هذه إشارة إلى شرحه بشق جبريل عنه في وقت صغره ، وفي وقت الإسراء إذ التشريح شق اللحم ، وقرأ أبو جعفر المنصور «ألم نشرحَ » بنصب الحاء على نحو قول الشاعر [ طرفة ] : [ المنسرح ]
أضرب عنك الهموم طارقها . . . ضربك بالسيف قونس الفرس{[11880]}
ومثله في نوادر أبي زيد : [ الرجز ]
من أي يومي من الموت أفر . . . أيوم لم يقدر أم يوم قدر{[11881]}
كأنه قال : «ألم نشرحن » ثم أبدل من النون ألفاً ثم حذفها تخفيفاً ، وهي قراءة مردودة{[11882]} .