46- من اليهود فريق يُميلون الكلام عن معناه ، ويقولون في أنفسهم للنبي : سمعنا القول وعصينا الأمر . ويقولون : اسمع كلامنا ، لا سمعت دعاء ، يدعون بذلك على النبي ويقولون : اسمع غير مسمع . فاللفظ يسوقونه ومرادهم منه الدعاء عليه ، ويوهمون أن مرادهم الدعاء له .
ويقولون : راعنا . يلوون بها ألسنتهم يوهمون أنهم يريدون : انظرنا . فيظهرون أنهم يطلبون رعايته ويبطنون وصفه بالرعونة ، ويطعنون بذلك في الدين لوصف مُبَلِّغه بالرعونة .
ولو أنهم استقاموا وقالوا : سمعنا وأطعنا ، بدل قولهم : سمعنا وعصينا . وقالوا : اسمع ، دون أن يقولوا : غير مسمع ، وقالوا : انظرنا ، بدل راعنا . لكان خيراً لهم مما قالوه وأعدل منه سبيلاً ، ولكن الله طردهم من رحمته بإعراضهم فلا تجد منهم من يستجيبون لداعي الإيمان إلا عدداً قليلاً .
وقد كان التعجيب من أهل الكتاب عامة - وكان المفهوم أن المعنيين هم يهود المدينة - ولكن السياق لا يكتفي بهذا المفهوم . بل يمضي فيعين اليهود . ثم يصف حالهم وتصرفاتهم وسوء أدبهم مع الرسول [ ص ] في هذه الفترة التي يبدو أنها كانت في أوائل سنوات الهجرة ، قبل أن تخضد شوكتهم في المدينة :
( من الذين هادوا ، يحرفون الكلم عن مواضعه ؛ ويقولون : سمعنا وعصينا . واسمع - غير مسمع - وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين . ) . .
لقد بلغ من التوائهم ، وسوء أدبهم مع الله عز وجل : أن يحرفوا الكلام عن المقصود به . والأرجح أن ذلك يعني تأويلهم لعبارات التوراة بغير المقصود منها . وذلك كي ينفوا ما فيها من دلائل على الرسالة الأخيرة ؛ ومن أحكام كذلك وتشريعات يصدقها الكتاب الأخير ؛ وتدل وحدتها في الكتابين على المصدر الواحد ؛ وتبعا لهذا على صحة رسالة النبى [ ص ] . وتحريف الكلم عن المقصود به ، ليوافق الأهواء ، ظاهرة ملحوظة في كل رجال دين ينحرفون عن دينهم ، ويتخذونه حرفة وصناعة ، يوافقون بها أهواء ذوي السلطان في كل زمان ؛ وأهواء الجماهير التي تريد التفلت من الدين . . واليهود أبرع من يصنع ذلك . وإن كان في زماننا هذا من محترفي دين المسلمين من ينافسون - في هذه الخصلة - اليهود !
ثم بلغ من التوائهم وسوء أدبهم مع رسول الله [ ص ] أن يقولوا له : سمعنا يا محمد ما تقول . ولكننا عصينا ! فلا نؤمن ولا نتبع ولا نطيع ! - مما يدل على أن هذه الآيات نزلت في وقت مبكر ، حيث كانت لليهود هذه الجرأة على مواجهة النبي [ ص ] ثم يضيفون إلى التبجح سوء الأدب والخلق والالتواء أيضا . إذ يقولون للرسول [ ص ] :
( واسمع - غير مسمع - وراعنا ) . .
ففي ظاهر اللفظ أنهم يقولون : اسمع - غير مأمور بالسمع [ وهي صيغة تأدب ] - وراعنا : أى : انظر إلينا نظرة رعاية لحالنا أو نظرة اهتمام لوضعنا . بما أنهم أهل كتاب ، فلا ينبغي أن يدعوا إلى إلاسلام كالمشركين !
أما في اللي الذي يلوونه ، فهم يقصدون : اسمع - لا سمعت ، ولا كنت سامعا ! - [ أخزاهم الله ] . وراعنا يميلونها إلى وصف " الرعونة " !
وهكذا . . تبجح وسوء أدب ، والتواء ومداهنة ، وتحريف للكلم عن مواضعه وعن معانيه . .
وبعد أن يحكي القرآن هذا عنهم ؛ يقرر المنهج اللائق بأهل الكتاب ؛ والأدب الجدير بمن أوتوا نصيبا منه . ويطمعهم - بعد ذلك كله - في الهداية والجزاء الحسن والفضل والخير من الله . لو ثابوا إلى الطريق القويم . وذلك مع بيان حقيقة طبيعتهم . وأنها هكذا كانت وهكذا تكون :
( ولو أنهم قالوا : سمعنا وأطعنا ، واسمع وانظرنا ، لكان خيرا لهم وأقوم ، ولكن لعنهم الله بكفرهم ، فلا يؤمنون إلا قليلاً ) . .
فهم لا يواجهون الحق بهذه الصراحة وهذه النصاعة وهذه الاستقامة . ولو أنهم واجهوه هكذا بالألفاظ الصريحة التي لا التواء فيها :
( سمعنا وأطعنا ، واسمع وانظرنا ) .
لكان هذا خيرا لهم ، وأقوم لطبيعتهم وأنفسهم وحالهم . ولكن واقع الأمر أنهم - بسبب كفرهم - مطرودون من هداية الله . فلا يؤمن منهم إلا القليل .
وصدق قول الله . . فلم يدخل في الإسلام - في تاريخه الطويل - إلا القليل من اليهود . ممن قسم الله لهم الخير ، وأراد لهم الهدى ؛ باجتهادهم للخير وسعيهم للهدى . أما كتلة اليهود ، فقد ظلت طوال أربعة عشر قرنا ، حربا على الإسلام والمسلمين . منذ أن جاورهم الإسلام في المدينة إلى اللحظة الحاضرة . وكيدهم للإسلام كان هو الكيد الواصب الذي لا ينقطع ، العنيد الذي لا يكف ، المنوع الأشكال والألوان والفنون ، منذ ذلك الحين ! وما من كيد كاده أحد للإسلام في تاريخه كله - بما في ذلك كيد الصليبية العالمية والاستعمار بشتى أشكاله - إلا كان من ورائه اليهود . أو كان لليهود فيه نصيب !
ثم قال تعالى : { مِنَ الَّذِينَ هَادُوا } " من " هذه لبيان الجنس كقوله : { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ }
وقوله : { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ } أي : يتأولون على غير تأويله ، ويفسرونه بغير مراد الله ، عز وجل ، قصدا منهم وافتراء { وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } أي يقولون{[7651]} سمعنا ما قلته يا محمد ولا نطيعك فيه . هكذا فسره مجاهد وابن زيد ، وهو المراد ، وهذا أبلغ في عنادهم وكفرهم ، أنهم يتولون{[7652]} عن كتاب الله بعد ما عقلوه ، وهم يعلمون ما عليهم في ذلك من الإثم والعقوبة .
وقوله{[7653]} { وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ } أي : اسمع ما نقول ، لا سمعت . رواه الضحاك عن ابن عباس . وقال مجاهد والحسن : واسمع غير مقبول منك .
قال ابن جرير : والأول أصح . وهو كما قال . وهذا استهزاء منهم واستهتار ، عليهم لعنة الله [ والملائكة الناس أجمعين ]{[7654]} .
{ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ } أي : يوهمون أنهم يقولون : راعنا سمعك بقولهم : " راعنا " وإنما يريدون الرعونة . وقد تقدم الكلام في هذا عند قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا } [ البقرة : 104 ] .
ولهذا قال تعالى عن هؤلاء اليهود الذين يريدون بكلامهم خلاف ما يظهرونه : { لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ } يعني : بسبهم النبي صلى الله عليه وسلم .
ثم قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا } أي : قلوبهم مطرودة عن الخير مبعدة منه ، فلا يدخلها من الإيمان شيء نافع لهم وقد تقدم الكلام على قوله تعالى : { فَقَلِيلا مَا يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 88 ] والمقصود : أنهم لا يؤمنون إيمانا نافعا .
{ مّنَ الّذِينَ هَادُواْ يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدّينِ وَلَوْ أَنّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً } . .
ولقوله جلّ ثناؤه : { مِنَ الّذِينَ هادُوا يُحَرّفُونَ الكَلِمَ } وجهان من التأويل : أحدهما : أن يكون معناه : ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من الذين هادوا يحرّفون الكلم . فيكون قوله : { مِنَ الّذِينَ هادُوا } من صلة «الذين » . وإلى هذا القول كانت عامة أهل العربية من أهل الكوفة يوجهون . قوله : { مِنَ الّذِينَ هادُوا يُحَرّفُونَ } . والاَخر منهما : أن يكون معناه : من الذين هادوا من يحرّف الكلم عن مواضعه . فتكون «من » محذوفة من الكلام اكتفاء بدلالة قوله : { مِنَ الّذِينَ هادُوا } عليها ، وذلك أن «مِن » لو ذكرت في الكلام كانت بعضا ل «مَنْ » ، فاكتفى بدلالة «مِنْ » عليها ، والعرب تقول : منا من يقول ذلك ، ومنا لا يقوله ، بمعنى : منا من يقول ذاك ، ومنا من لا يقوله ، فتحذف «من » اكتفاء بدلالة من عليه ، كما قال ذو الرمة :
فَظَلّوا وَمِنْهُمْ دَمْعُهُ سابِقٌ لَهُ ***وآخَرُ يُذْرِي دَمْعَةَ العْينِ بالمَهْلِ
يعني : ومنهم من دمعه . وكما قال الله تبارك وتعالى : { وَما مِنّا إلاّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ } ، وإلى هذا المعنى كانت عامة أهل العربية من أهل البصرة يوجهون تأويل قوله : { مِنَ الّذِينَ هادُوا يُحَرّفُونَ الكَلِمَ } غير أنهم كانوا يقولون : المضمر في ذلك «القوم » ، كأن معناه عندهم : من الذين هادوا قوم يحرّفون الكلم ، ويقولون : نظير قول النابغة :
كأنّكَ مِنْ جِمالِ بني أُقَيْشٍ ***يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيهِ بِشَنّ
يعني : كأنك جمل من جمال أقيشٍ .
فأما نحويو الكوفة ، فينكرون أن يكون المضمر مع «مِن » إلا «مَن«أو ما أشبهها .
والقول الذي هو أولى بالصواب عندي في ذلك قول من قال قوله : { مِنَ الذِينَ هادُوا } من صلة الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ، لأن الخبرين جميعا والصفتين من صفة نوع واحد من الناس ، وهم اليهود الذين وصف الله صفتهم في قوله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ } . وبذلك جاء تأويل أهل التأويل ، فلا حاجة بالكلام إذ كان الأمر كذلك إلى أن يكون فيه متروك .
وأما تأويل قوله : { يُحَرّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ } فإنه يقول : يبدّلون معناها ويغيرونها عن تأويله ، والكلم جماع كلمة . وكان مجاهد يقول : عنى بالكلم : التوراة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { يُحَرّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ } : تبديل اليهود التوراة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وأما قوله : { عَنْ مَوَاضِعِهِ } فإنه يعني : عن أماكنه ووجوهه التي هي وجوهه .
وأما تأويل قوله : { وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : من الذين هادوا يقولون : سمعنا يا محمد قولك ، وعصينا أمرك . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة عن مجاهد ، في قوله : { سَمِعْنا وَعَصَيْنا } قال : قالت اليهود : سمعنا ما تقول ، ولا نطيعك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { سَمعنا وَعَصَيْنا } قالوا : قد سمعنا ، ولكن لا نطيعك .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ } .
وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن اليهود الذين كانوا حوالى مهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصره ، أنهم كانوا يسبون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤذونه بالقبيح من القول ، ويقولون له : اسمع منا غير مسمع ، كقول القائل للرجل يسبه : اسمع لا أسمعك الله . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ } قال : هذا قول أهل الكتاب يهود ، كهيئة ما يقول الإنسان : اسمع لاسمعت ، أذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشتما له واستهزاء .
حُدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : { وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ } قال : يقولون لك : واسمع لاسمعت .
وقد رُوي عن مجاهد والحسن أنهما كانا يتأوّلان في ذلك بمعنى : واسمع غير مقبول منك . ولو كان ذلك معناه لقيل : واسمع غير مسموع ، ولكن معناه : واسمع لاتسمع ، ولكن قال الله تعالى ذكره : { لَيّا بألْسِنَتِهِمْ وَطَعْنا فِي الدّينِ } فوصفهم بتحريف الكلام بألسنتهم والطعن في الدين بسبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم .
وأما القول الذي ذكرته عن مجاهد : { وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ } يقول : غير مقبول ما تقول ، فهو كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ } قال : غير مستمع . قال ابن جريج عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد : { وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ } : غير مقبول ما تقول .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن ، في قوله : { وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ } قال : كما تقول : اسمع غير مسموع منك .
وحدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : كان ناس منهم يقولون : { وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ } كقولك : اسمع غير صاغ .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَرَاعِنا لَيّا بألْسِنَتِهِمْ وَطَعْنا فِي الدّينِ } .
يعني بقوله : { وَرَاعِنا } : أي راعنا سمعك ، افهم عنا وأفهمنا . وقد بينا تأويل ذلك في سورة البقرة بأدلته بما فيه الكفاية عن إعادته .
ثم أخبر الله جلّ ثناؤه عنهم أنهم يقولون ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم : { لَيّا بألْسِنَتِهِمْ } يعني : تحريكا منهم بألسنتهم بتحريف منهم لمعناه إلى المكروه من معنييه ، واستخفافا منهم بحقّ النبيّ صلى الله عليه وسلم { وَطَعْنا فِي الدّين } . كما :
حدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : قال قتادة : كانت اليهود يقولون للنبيّ صلى الله عليه وسلم : راعنا سمعك ! يستهزئون بذلك ، فكانت اليهود قبيحة ، فقال : راعنا سمعك ليّا بألسنتهم¹ والليّ : تحريكهم ألسنتهم بذلك ، { وطَعْنا في الدّينِ } .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { رَاعِنا لَيّا بألْسِنَتِهِمْ } كان الرجل من المشركين يقول : أرعني سمعك ! يلوي بذلك لسانه ، يعني : يحرّف معناه .
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { مِنَ الّذِينَ هادُوا يُحَرّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ } . . . إلى : { وَطَعْنا فِي الدّينِ } فإنهم كانوا يستهزئون ويلوون ألسنتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويطعنون في الدين .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { وَرَاعِنا لَيّا بألْسِنَتِهِمْ وَطَعْنا فِي الدّينِ } قال : «راعنا » طعنهم في الدين ، وليهم بألسنتهم ليبطلوه ويكذبوه . قال : والراعن : الخطأ من الكلام .
حُدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر ، أبو روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : { لَيّا بألْسِنَتِهِمْ } قال : تحريفا بالكذب .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ أنّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وأطَعْنا وَاسمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْرا لَهُمْ وأقُوَمَ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : ولو أن هؤلاء اليهود الذين وصف الله صفتهم قالوا لنبيّ لله : سمعنا يا محمد قولك ، وأطعنا أمرك ، وقبلنا ما جئتنا به من عند الله ، واسمع منا ، وانظرنا ما نقول ، وانتظرنا نفهم عنك ما تقول لنا ، { لَكَانَ خَيْرا لَهُمْ وأَقْوَمَ } يقول : لكان ذلك خيرا لهم عند الله وأقوم ، يقول : وأعدل وأصوب في القول . وهو من الاستقامة من قول الله : { وَأقْوَمَ قِيلاً } بمعنى : وأصوب قيلاً . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَلَوْ أنّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وأطَعْنا وَاسمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْرا لَهُمْ } قال : يقولون : اسمع منا فإنا قد سمعنا وأطعنا ، وانظرنا فلا تعجل علينا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو تميلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن عكرمة ومجاهد ، قوله : { وَانظُرْنا } قال : اسمع منا .
حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { وَانْظُرْنا } قال : أفهمنا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَانْظُرْنا } قال : أفهمنا .
قال أبو جعفر : وهذا الذي قاله مجاهد وعكرمة من توجيههما معنى : { وَانْظُرْنا } إلى : اسمع منا ، وتوجيه مجاهد ذلك إلى : أفهمنا ، ما لا نعرف في كلام العرب ، إلا أن يكون أراد بذلك من توجيهه إلى أفهمنا : انتظرنا نفهم ما تقول ، أو انتظرنا نقل حتى تسمع منا ، فيكون ذلك معنى مفهوما وإن كان غير تأويل الكلمة ولا تفسير لها ، فلا نعرف «انظرنا » في كلام العرب إلا بمعنى : انتظرنا وانظر إلينا ، فأما «انظرنا » بمعنى انتظرنا ، فمنه قول الحطيئة :
وَقَدْ نَظَرْتُكُمْ لَوْ أنّ دِرّتَكُمْ ***يَوْما يَجِيءُ بِها مَسْحِي وَإبْساسِي
وأما انظرنا بمعنى : انظر إلينا ، فمنه قول عبد الله بن قيس الرقيات :
ظاهِرَاتُ الجَمالِ والحُسْنِ يَنْظُرْ ***نَ كمَا يَنْظُرُ الأرَاكَ الظّباءُ
بمعنى كما ينظر إلى الأراك الظباء .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إلاّ قَلِيلاً } .
يعني بذلك : ولكن الله تبارك وتعالى أخزى هؤلاء اليهود الذين وصف صفتهم في هذه الاَية فأقصاهم وأبعدهم من الرشد ، واتباع الحقّ بكفرهم ، يعني بجحودهم نبوّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وما جاءهم به من عند ربهم من الهدى والبينات { فلا يُؤْمِنُونَ إلاّ قَلِيلاً } يقول : فلا يصدّقون بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وما جاءهم به من عند ربهم ، ولا يقرّون بنبوّته إلا قليلاً ، يقول : لا يصدّقون بالحقّ الذي جئتهم به يا محمد إلا إيمانا قليلاً . كما :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { فَلا يُؤْمِنُونَ إلاّ قَلِيلاً } قال : لا يؤمنون هم إلا قليلاً .
{ من الذين هادوا يحرفون } بيان للذين أوتوا نصيبا فإنه يحتملهم وغيرهم ، وما بينهما اعتراض أو بيان لأعدائكم أو صلة لنصيرا . أي ينصركم من الذين هادوا ويحفظكم منهم ، أو خبر محذوف صفته يحرفون . { الكلم عن مواضعه } أي من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها بإزالته عنها وإثبات غيره فيها . أو يؤولونه على ما يشتهون فيميلونه عما أنزل الله فيه . وقرئ الكلم بكسر الكاف وسكون اللام جمع كلمة تخفيف كلمة . { ويقولون سمعنا } قولك . { عصينا } أمرك . { واسمع غير مسمع } أي مدعوا عليك بلا سمعت لصمم أو موت ، أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه ، أو اسمع غير مسمع كلاما ترضاه ، أو اسمع كلاما غير مسمع إياك لأن أذنك تنبو عنه فيكون مفعولا به ، أو اسمع غير مسمع مكروها من قولهم أسمعه فلان إذا سبه ، وإنما قالوه نفاقا . { وراعنا } انظرنا نكلمك أو نفهم كلامك . { ليا بألسنتهم } فتلا بها وصرفا للكلام إلى ما يشبه السب ، حيث وضعوا راعنا المشابه لما يتسابون به موضع انظرنا وغير مسمع موضع لا أسمعت مكروها ، أو فتلا بها وضما لما يظهرون من الدعاء والتوقير إلى ما يضمرون من السب والتحقير نفاقا . { وطعنا في الدين } استهزاء به وسخرية . { ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا } ولو ثبت قولهم هذا مكان ما قالوه . { لكان خيرا لهم وأقوم } لكان قولهم ذلك خيرا لهم وأعدل ، وإنما يجب حذف الفعل بعد لو في مثل ذلك لدلالة أن عليه ووقوعه موقعه . { ولكن لعنهم الله بكفرهم } ولكن خذلهم الله وأبعدهم عن الهدى بسبب كفرهم . { فلا يؤمنون إلا قليلا } أي إلا إيمانا قليلا لا يعبأ به وهو الإيمان ببعض الآيات والرسل ، ويحتمل أن يراد بالقلة العدم كقوله :
قليل التشكي للمهم يصيبه *** أو إلا قليلا منهم آمنوا أو سيؤمنون