المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَفِي خَلۡقِكُمۡ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ ءَايَٰتٞ لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ} (4)

4- وفي خلق الله لكم - أيها الناس - على ما أنتم عليه من حسن الصورة وبديع الصنع ، وما يفرق وينشر من الدواب على اختلاف الصور والمنافع لدلالات قوية واضحة لقوم يَسْتَيْقِنونَ بأمورهم بالتدبر والتفكر .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَفِي خَلۡقِكُمۡ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ ءَايَٰتٞ لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ} (4)

ثم ينتقل بهم السياق من آفاق الكون إلى ذوات أنفسهم ؛ وهي أقرب إليهم ، وهم بها أكثر حساسية :

وخلق هذا الإنسان بهذا التكوين العجيب ، وبهذه الخصائص الفريدة ، وبهذه الوظائف اللطيفة الدقيقة المتنوعة الكثيرة . خارقة . خارقة نسيناها لطول تكرارها ، ولقربها منا ! ولكن التركيب العضوي لجارحة واحدة من جوارح هذا الإنسان مسألة تدير الرأس عجباً ودهشة واستهوالاً لهذا التركيب العجيب !

إن الحياة في أبسط صورها معجزة . في الإميبا ذات الخلية الواحدة . وفيما هو أصغر من الإميبا ! فكيف بها في هذا الإنسان الشديد التركيب والتعقيد ? وهو في تركيبه النفسي أشد تركباً وتعقداً من تركيبه العضوي !

وحوله تلك الخلائق التي تدب على الأرض أنواعاً وأجناساً ، وأشكالاً وأحجاماً ، لا يحصيها إلا الله . وأصغرها كأكبرها معجز في خلقه . معجز في تصريفه . معجز في تناسب حيواته على هذه الأرض ، بحيث

لا يزيد جنس عن حدود معينة ، تحفظ وجوده وامتداده ، وتمنع طغيانه على الأجناس الأخرى طغيان إبادة وإفناء . واليد الممسكة بزمام الأنواع والأجناس تزيد فيها وتنقص بحكمة وتقدير ؛ وتركب في كل منها من الخصائص والقوى والوظائف ما يحفظ التوازن بينها جميعاً . .

النسور جارحة ضارية وعمرها مديد . ولكنها في مقابل هذا نزرة قليلة البيض والفراخ بالقياس إلى العصافير والزرازير . . ولنا أن نتصور كيف كان الأمر يكون لو كان للنسور نسل العصافير ? وكيف كانت تقضي على جميع الطيور !

والأسود كذلك في عالم الحيوان كاسرة ضارية . فكيف لو كانت تنسل كالظباء والشاء ? إنها ما كانت تبقي على لحم في الغابة ولا غذاء . . ولكن اليد التي تمسك بالزمام تجعل نسلها محدوداً بالقدر المطلوب ! وتكثر من ذوات اللحوم من الظباء والشاء وما إليها لسبب معلوم .

والذبابة الواحدة تبيض في الدورة الواحدة مئات الألوف . . وفي مقابل هذا لا تعيش إلا حوالي أسبوعين اثنين . فكيف لو افلت الزمام فعاشت الذبابة الواحدة أشهراً أو سنين ? لكان الذباب يغطي الأجسام ويأكل العيون ? ولكن اليد المدبرة هناك تضبط الأمور وفق تقدير دقيق محسوب فيه حساب كل الحاجات والأحوال والظروف .

وهكذا وهكذا . في الخلق ذاته . وفي خصائصه . وفي تدبيره وتقديره . في عالم الناس ، وعالم الدواب . . في هذا كله آيات . آيات ناطقة . ولكن لمن ? من الذي يراها ويتدبرها ويدركها ?

( لقوم يوقنون ) . .

واليقين هو الحالة المهيئة للقلوب كي تحس ، وكي تتأثر ، وكي تنيب . . اليقين الذي يدع القلوب تقر وتثبت وتطمئن ؛ وتتلقى حقائق الكون في هدوء ويسر وثقة ، وفي راحة من القلق والحيرة والزعزعة . فتصوغ من أقل ما تحصل ، أكبر النتائج وأعظم الآثار في هذا الوجود .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَفِي خَلۡقِكُمۡ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ ءَايَٰتٞ لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ} (4)

يُرشد تعالى خلقه إلى التفكر في آلائه ونعمه ، وقدرته العظيمة التي خلق بها السموات الأرض ، وما فيهما من المخلوقات المختلفة الأجناس والأنواع من الملائكة والجن والإنس ، والدواب والطيور والوحوش والسباع والحشرات ، وما في البحر من الأصناف المتنوعة ، واختلاف الليل والنهار في تعاقبهما دائبين لا يفتران ، هذا بظلامه وهذا بضيائه ، وما أنزل الله تعالى من السحاب من المطر في وقت الحاجة إليه ، وسماه رزقًا ؛ لأن به يحصل الرزق ، { فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } أي : بعد ما كانت هامدة لا نبات فيها ولا شيء .

وقوله : { وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ } أي : جنوبا وشآما{[26302]} ، ودبورًا وصبًا ، بحرية وبرية ، ليلية ونهارية . ومنها ما هو للمطر ، ومنها ما هو للقاح ، ومنها ما هو غذاء للأرواح ، ومنها ما هو عقيم [ لا ينتج ] {[26303]} .

وقال أولا { لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ } {[26304]} ، ثم { يوقنون } ثم { يعقلون } وهو تَرَقٍّ من حال شريف إلى ما هو أشرف منه وأعلى . وهذه الآيات شبيهة بآية " البقرة " وهي قوله : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ البقرة : 164 ] . وقد أورد ابن أبي حاتم هاهنا عن وهب بن مُنَبِّه أثرا طويلا غريبًا في خلق الإنسان من الأخلاط الأربعة .


[26302]:- (1) في ت، أ: "وشمالا".
[26303]:- (2) زيادة من ت، م، أ.
[26304]:- (3) في ت، أ: "لقوم يؤمنون" وهو خطأ.