( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم ، وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين : الذين ينفقون في السراء والضراء . والكاظمين الغيظ . والعافين عن الناس . والله يحب المحسنين . والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله ، فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله ؟ - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون . . )
والتعبير هنا يصور أداء هذه الطاعات في صورة حسية حركية . . يصوره سباقا إلى هدف أو جائزة تنال :
( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم ) . . ( وجنة عرضها السماوات والأرض ) . . سارعوا فهي هناك : المغفرة والجنة . . ( أعدت للمتقين ) . .
{ وَسَارِعُوَاْ إِلَىَ مَغْفِرَةٍ مّن رّبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُهَا السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدّتْ لِلْمُتّقِينَ }
يعني تعالى ذكره بقوله : { وَسَارِعُوا } وبادروا وسابقوا إلى مغفرة من ربكم ، يعني : إلى ما يستر عليكم ذنوبكم من رحمته ، وما يغطيها عليكم من عفوه عن عقوبتكم عليها { وَجنّةِ عَرْضُها السّمَوَاتُ والأَرْضُ } يعنى سارعوا أيضا إلى جنة عرضها السموات والأرض ، ذكر أن معنى ذلك : وجنة عرضها كعرض السموات السبع ، والأرضين السبع ، إذا ضمّ بعضها إلى بعض . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَجَنّةٍ عَرْضُها السّمَوَاتُ وَالأَرْضُ } قال : قال ابن عباس : تقرن السموات السبع والأرضون السبع ، كما تقرن الثياب بعضها إلى بعض ، فذاك عرض الجنة .
وإنما قيل : { وَجَنّةٍ عَرْضُها السّمَوَاتُ والأَرْضُ } فوصف عرضها بالسموات والأرضين ، والمعنى ما وصفنا من وصف عرضها بعرض السموات والأرض ، تشبيها به في السعة والعظم ، كما قيل : { مَا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إلاّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } يعني إلا كبعث نفس واحدة ، وكما قال الشاعر :
كأنّ عَذِيرَهُمْ بجَنُوبِ سِلّى *** نَعامٌ قَاقَ فَي بَلَدٍ قِفارِ
أي عذير نعام ، وكما قال الاَخر :
حَسِبْتُ بُغامَ رَاحِلَتي عَناقا *** وَما هِيَ وَيْبَ غَيْرِكَ بالْعَناقِ
يريد صوت عناق . وقد ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل فقيل له : هذه الجنة عرضها السموات والأرض ، فأين النار ؟ فقال : «هَذَا النّهارُ إذَا جَاءَ ، أيْنَ اللّيْلُ ؟ » .
ذكر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني مسلم بن خالد ، عن ابن خثيم ، عن سعيد بن أبي راشد ، عن يعلى بن مرة ، قال : لقيت التنوخيّ رسول هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمص شيخا كبيرا قد أقعد ، قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب هرقل ، فناول الصحيفة رجلاً عن يساره ، قال : قلت من صاحبكم الذي يقرأ ؟ قالوا : معاوية ، فإذا هو : إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدّت للمتقين ، فأين النار ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «سُبْحانَ اللّهِ ، فأيْنَ اللّيْلُ إذَا جاءَ النّهارُ ؟ » .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب : أن ناسا من اليهود سألوا عمر بن الخطاب عن جنة عرضها السموات والأرض ، أين النار ؟ قال : «أرأيتم إذا جاء الليل أين يكون النهار ؟ » فقالوا : اللهمّ نزعْتَ مثله من التوراة .
حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب : أن عمر أتاه ثلاثة نفر من أهل نجران ، فسألوه وعنده أصحابه ، فقالوا : أرأيت قوله : { وَجَنّةٍ عَرْضُها السّمَوَاتِ وَالأرْضُ } فأين النار ؟ فأحجم الناس ، فقال عمر : «أرأيتم إذا جاء الليل ، أين يكون النهار ؟ وإذا جاء النهار ، أين يكون الليل ؟ » فقالوا : نزعت مثلها من التوراة .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : أخبرنا شعبة ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن طارق بن شهاب ، عن عمر ، بنحوه في الثلاثة الرهط الذين أتوا عمر ، فسألوه عن جنة عرضها كعرض السموات والأرض ، بمثل حديث قيس بن مسلم .
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا جعفر بن عون ، أخبرنا الأعمش ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، قال : جاء رجل من اليهود إلى عمر ، فقال : تقولون : جنة عرضها السموات والأرض أين تكون النار ؟ فقال له عمر : أرأيت النهار إذا جاء ، أين يكون الليل ؟ أرأيت الليل إذا جاء ، أين يكون النهار ؟ فقال : إنه لمثلها في التوراة ، فقال له صاحبه : لم أخبرته ؟ فقال له صاحبه : دعه إنه بكلّ موقنٌ .
حدثني أحمد بن حازم ، قال : أخبرنا أبو نعيم ، قال : حدثنا جعفر بن برقان ، قال : حدثنا يزيد بن الأصم أن رجلاً من أهل الكتاب أتى ابن عباس ، فقال : تقولون جنة عرضها السموات والأرض ، فأين النار ؟ فقال ابن عباس : أرأيت الليل إذا جاء ، أين يكون النهار ؟ وإذا جاء النهار ، أين يكون الليل ؟
وأما قوله : { أُعِدّتْ للْمُتّقِينَ } فإنه يعني : إن الجنة التي عرضها كعرض السموات والأرضين السبع أعدها الله للمتقين ، الذين اتقوا الله ، فأطاعوه فيما أمرهم ونهاهم ، فلم يتعدّوا حدوده ، ولم يقصروا في واجب حقه عليهم فيضيعوه . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : { وَسَارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُها السّمَوَاتُ والأرْضُ أُعِدّتْ للْمُتّقِينَ } : أي ذلك لمن أطاعني وأطاع رسولي .
{ سارعوا إلى مغرفة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض } .
قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر { سارعوا } دون واو عطف .
تتنزل جملة { سارعوا . . } منزلة البيان ، أو بدل الاشتمال ، لجملة { وأطيعوا الله والرسول } لأن طاعة الله والرسول مسارعة إلى المغفرة والجنة فلذلك فصلت . ولكون الأمر بالمسارعة إلى المغفرة والجنة يؤول إلى الأمر بالأعمال الصالحة ، جاز عطف الجملة على جملة الأمر بالطاعة ، فلذلك قرأ بقية العشرة وسارعوا بالعطف . وفي هذه الآية ما ينبأنا بأنه يجوز الفصل في بعض الجمل باعتبارين .
والسرعة المشتق منها سارعوا مجاز في الحرص والمنافسة والقبور إلى عمل الطاعات التي هي سبب المغفرة والجنة ، ويجوز أن تكون السرعة حقيقة ، وهي سرعة الخروج إلى الجهاد عند التنفير كقوله في الحديث وإذا استنفرتم فانفروا .
والمسارعة على التقادير كلها تتعلق بأسباب المغفرة ، وأسباب دخول الجنة ، فتعليقها بذات المغفرة والجنة من تعليق الأحكام بالذوات على إرادة أحوالها عند ظهور عدم الفائدة في التعلق بالذات .
وجيء بصيغة المفاعلة ، مجرد عن المعنى حصول الفعل من جانبين ، قصد المبالغة في طلب الإسراع ، والعرب تأتي بما يدل على الوضع على تكرر الفعل وهم يريدون التأكيد والمبالغة دون التكرير ، ونظيره التثنية في قولهم : لبيك وسعديك ، وقوله تعالى { ثم ارجع البصر كرتين } .
وتنكير { مغفرة } ووصلها بقوله { من ربكم } مع تأتي الإضافة بأن يقال إلى مغفرة ربكم ، لقصد الدلالة على التعظيم ، ووصف الجنة بان عرضها السماوات والأرض على طريقة التشبيه البليغ ، بدليل التصريح بحرف التشبيه في نظيرتها في آية سورة الحديد . والعرض في كلام العرب يطلق على ما يقابل الطول ، وليس هو المراد هنا ، ويطلق على الاتساع لأن الشيء العريض هو الواسع في العرف بخلاف الطويل غير العريض فهو ضيق ، وهذا كقول العديل :
ودون يد الحجاج من أن تنالني *** بساط بأيدي الناعجات عريض
وذكر السماوات والأرض على طريقة العرب في تمثيل شدة الاتساع . وليس المراد حقيقة عرض السماوات والأرض ليوافق قول الجمهور من علمائنا بأن الجنة مخلوق الآن ، وأنها في السماء ، وقيل : هو عرضها حقيقة ، وهي مخلوقة الآن لكنها أكبر من السماوات وهي فوق السماوات تحت العرش ، وقد روي : العرش سقف الجنة . وأما من قال : إن الجنة لن تخلق الآن وستخلق يوم القيامة ، وهو قول المعتزلة وبعض أهل السنة منهم منذر بن سعيد البلوطي الأندلسي الظاهري ، فيجوز عندهم أن تكون كعرض السماوات والأرض بأن تخلق في سعة الفضاء الذي كان يملؤه السماوات والأرض أو في سعة فضاء أعظم من ذلك . وأدلة الكتاب والسنة ظاهرة في أن الجنة مخلوقة ، وفي حديث رؤيا رآها النبي صلى الله عليه وسلم وهو الحديث الطويل الذي فيه قوله إن جبريل وميكال قالا له : ارفع رأسك ، فرفع فإذا فوقه مثل السحاب ، قالا : هذا منزلك ، قال : فقلت : وعامي أدخل منزلي ، قالا : إنه بقي لك لم تستكمله فلو استكملت أتيت منزلك .
وأعقب وصف الجنَّة بذكر أهلها لأنّ ذلك ممَّا يزيد التَّنويه به ، ولم يزل العقلاء يتخيّرون حسن الجوار كما قال أبو تمام :
مَنْ مُبْلِغُ أفْنَاءَ يعرُب كلّها *** أني بَنيت الجارَ قبل المنزلِ
وجملةُ { أعدّت للمتّقين } استئناف بياني لأنّ ذكر الجنَّة عقب ذكر النَّار الموصوفة بأنَّها أعدّت للكافرين يثير في نفوس السامعين أن يتعرّفوا مَن الذين أعدّت لهم : فإن أريد بالمتَّقين أكمل ما يتحقّق فيه التَّقوى ، فإعدادها لهم لأنَّهم أهلها فضلاً من الله تعالى الّذين لا يلجون النار أصلاً عدلاً من الله تعالى فيكون مقابلَ قوله : { واتقوا النار التي أُعدت للكافرين } [ آل عمران : 131 ] ، ويكون عصاة المؤمنين غير التَّائبين قد أخذوا بحظّ من الدارين ، لمشابهة حالهم حالَ الفريقين عدلاً من الله وفضلاً ، وبمقدار الاقتراب من أحدهما يكون الأخذ بنصيب منه ، وأريد المتّقون في الجملة فالإعداد لهم باعتبار أنَّهم مقدّرون من أهلها في العاقبة .
وقد أجرى على المتَّقين صفات ثناءٍ وتنويه ، هي ليست جماع التَّقوى ، ولكن اجتماعها في محلّها مؤذن بأنّ ذلك المحلّ الموصوف بها قد استكمل ما به التقوى ، وتلك هي مقاومة الشحّ المُطاع ، والهوَى المتَّبع .