فها هو ذا الإيمان الذي يريده منهم رب هذا الدين :
( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم ، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً ، وعلى ربهم يتوكلون . الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون . أولئك هم المؤمنون حقاً ، لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ) . .
إن التعبير القرآني دقيق في بنائه اللفظي ليدل دلالة دقيقة على مدلوله المعنوي . وفي العبارة هنا قصر بلفظ : ( إنما ) . وليس هنالك مبرر لتأويله - وفيه هذا الجزم الدقيق - ليقال : إن المقصود هو " الإيمان الكامل " ! فلو شاء اللّه - سبحانه - أن يقول هذا لقاله . إنما هو تعبير محدد دقيق الدلالة . إن هؤلاء الذين هذه صفاتهم وأعمالهم ومشاعرهم هم المؤمنون . فغيرهم ممن ليس له هذه الصفات بجملتها ليسوا بالمؤمنين .
والتوكيد في آخر الآيات : ( أولئك هم المؤمنون حقا )يقرر هذه الحقيقة . فغير المؤمنين( حقا )لا يكونون مؤمنين أصلاً . . والتعبيرات القرآنية يفسر بعضها بعضا . واللّه يقول : ( فماذا بعد الحق إلا الضلال ) . فما لم يكن حقاً فهو الضلال . وليس المقابل لوصف : ( المؤمنون حقاً )هو المؤمنون إيماناً غير كامل ! ولا يجوز أن يصبح التعبير القرآني الدقيق عرضة لمثل هذه التأويلات المميعة لكل تصور ولكل تعبير !
لذلك كان السلف يعرفون من هذه الآيات أن من لم يجد في نفسه وعمله هذه الصفات لم يجد الإيمان ، ولم يكن مؤمناً أصلاً . . جاء في تفسير ابن كثير : قال علي ابن طلحة عن ابن عباس ، في قوله : ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم ) " قال : المنافقون : لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر اللّه عند أداء فرائضه ، ولا يؤمنون بشيء من آيات اللّه ، ولا يتوكلون ، ولا يصلون إذا غابوا [ أي عن أعين الناس ] ولا يؤدون زكاة أموالهم . فأخبر اللّه تعالى أنهم ليسوا بمؤمنين . ثم وصف اللّه المؤمنين فقال : ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم )فأدوا فرائضه . ( وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً )يقول : زادتهم تصديقاً ، ( وعلى ربهم يتوكلون )يقول : لا يرجون غيره " .
وسنرى من طبيعة هذه الصفات أنه لا يمكن أن يقوم بدونها الإيمان أصلاً ؛ وأن الأمر فيها ليس أمر كمال الإيمان أو نقصه ؛ إنما هو أمر وجود الإيمان أو عدمه .
( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم ) . . .
إنها الارتعاشة الوجدانية التي تنتاب القلب المؤمن حين يذكر باللّه في أمر أو نهي ؛ فيغشاه جلاله ، وتنتفض فيه مخافته ؛ ويتمثل عظمة اللّه ومهابته ، إلى جانب تقصيره هو وذنبه ، فينبعث إلى العمل والطاعة . . . أو هي كما قالت أم الدرداء - رضي اللّه عنها - فيما رواه الثوري ، عن عبد اللّه بن عثمان بن خثيم ، عن شهر بن حوشب ، عن أم الدرداء قالت : " الوجل في القلب كاحتراق السعفة ، أما تجد له قشعريرة ? قال : بلى . قالت : إذا وجدت ذلك فادع اللّه عند ذلك . فإن الدعاء يذهب ذلك " . .
إنها حال ينال القلب منها أمر يحتاج إلى الدعاء ليستريح منها ويقر ! وهي الحال التي يجدها القلب المؤمن حين يذكر بالله في صدد أمر أو نهي ؛ فيأتمر معها وينتهي كما يريد الله ، وجلا وتقوى لله .
( وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً ) .
والقلب المؤمن يجد في آيات هذا القرآن ما يزيده إيماناً ، وما ينتهي به إلى الاطمئنان . . إن هذا القرآن يتعامل مع القلب البشري بلا وساطة ، ولا يحول بينه وبينه شيء إلا الكفر الذي يحجبه عن القلب ويحجب القلب عنه ؛ فإذا رفع هذا الحجاب بالإيمان وجد القلب حلاوة هذا القرآن ، ووجد في إيقاعاته المتكررة زيادة في الإيمان تبلغ إلى الاطمئنان . . وكما أن إيقاعات القرآن على القلب المؤمن تزيده إيماناً ، فإن القلب المؤمن هو الذي يدرك هذه الإيقاعات التي تزيده إيماناً . . لذلك يتكرر في القرآن تقرير هذه الحقيقة في أمثال قوله تعالى : إن في ذلك لآيات للمؤمنين . . ( إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ) . . ومن ذلك قول أحد الصحابة - رضوان الله عليهم - : كنا نؤتى الإيمان قبل أن نؤتى القرآن . .
وبهذا الإيمان كانوا يجدون في القرآن ذلك المذاق الخاص ، يساعدهم عليه ذلك الجو الذي كانوا يتنسمونه ؛ وهم يعيشون القرآن فعلاً وواقعاً ؛ ولا يزاولونه مجرد تذوق وإدراك ! وفي الروايات الواردة في نزول الآية قول سعد بن مالك وقد طلب أن ينفله رسول الله [ ص ] السيف ، قبل أن ينزل القرآن الذي يرد ملكية الأنفال للرسول [ ص ] فيتصرف فيها بما يريد . وقد قال له : " إن هذا السيف لا لك ولا لي ، ضعه " فلما نودي سعد من ورائه بعد وضعه السيف وانصرافه ، توقع أن يكون الله - سبحانه - قد أنزل فيه شيئاً ؛ قال : " قلت : قد أنزل الله في شيئاً " قال رسول الله [ ص ] : كنت سألتني السيف وهو ليس لي ، وإنه قد وهب لي ، فهو لك . . فهكذا كانوا يعيشون مع ربهم ، ومع هذا القرآن الذي يتنزل عليهم . وهو شيء هائل . وهي فترة عجيبة في حياة البشر . ومن ثم كانوا يتذوقون القرآن هذا التذوق . . كما أن قيامهم بالحركة الواقعية في ظل التوجيهات القرآنية المباشرة كان يجعل التفاعل مع هذا التذوق مضاعفاً . . وإذا كانت الأولى لا تتكرر في حياة البشر ؛ فإن هذه الثانية تتكرر كلما قامت في الأرض عصبة مؤمنة تحاول بالحركة أن تنشئ هذا الدين في واقع الناس كما كانت الجماعة المسلمة الأولى تنشئه . . وهذه العصبة المؤمنة التي تتحرك بهذا القرآن لإعادة إنشاء هذا الدين في واقع الناس هي التي تتذوق هذا القرآن ؛ وتجد في تلاوته ما يزيد قلوبها إيماناً ؛ لأنها ابتداء مؤمنة . الدين عندها هو الحركة لإقامة هذا الدين بعد الجاهلية التي عادت فطغت على الأرض جميعاً ! وليس الإيمان عندها بالتمني ، لكن ما وقر في القلب وصدقه العمل !
عليه وحده . . كما يفيده بناء العبارة . لا يشركون معه أحداً يستعينون به ويتوكلون عليه . . أو كما عقب عليها الإمام ابن كثير في التفسير : " أي لا يرجون سواه ، ولا يقصدون إلا إياه ، ولا يلوذون إلا بجنابه ، ولا يطلبون الحوائج إلا منه ، ولا يرغبون إلا إليه ، ويعلمون أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وأنه المتصرف في الملك لا شريك له ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب ، ولهذا قال سعيد ابن جبير : التوكل على الله جماع الإيمان " . .
وهذا هو إخلاص الاعتقاد بوحدانية الله ؛ وإخلاص العبادة له دون سواه فما يمكن أن يجتمع في قلب واحد ، توحيد الله والتوكل على أحد معه سبحانه . والذين يجدون في قلوبهم الاتكال على أحد أو على سبب يجب أن يبحثوا ابتداء في قلوبهم عن الإيمان بالله !
وليس الاتكال على الله وحده بمانع من اتخاذ الأسباب . فالمؤمن يتخذ الأسباب من باب الإيمان بالله وطاعته فيما يأمر به من اتخاذها ؛ ولكنه لا يجعل الأسباب هي التي تنشئ النتائج فيتكل عليها . إن الذي ينشئ النتائج - كما ينشئ الأسباب - هو قدر الله . ولا علاقة بين السبب والنتيجة في شعور المؤمن . . اتخاذ السبب عبادة بالطاعة . وتحقق النتيجة قدر من الله مستقل عن السبب لا يقدر عليه إلا الله . . وبذلك يتحرر شعور المؤمن من التعبد للأسباب والتعلق بها ؛ وفي الوقت ذاته هو يستوفيها بقدر طاقته لينال ثواب طاعة الله في استيفائها .
ولقد ظلت الجاهلية " العلمية ! " الحديثة تلج فيها تسميه " حتمية القوانين الطبيعية " . ذلك لتنفي " قدر الله " وتنفي " غيب الله " . حتى وقفت في النهاية عن طريق وسائلها وتجاربها ذاتها ، أمام غيب الله وقدر الله وقفة العاجز عن التنبؤ الحتمي ! ولجأت إلى نظرية " الاحتمالات " في عالم المادة . فكل ما كان حتمياً صار احتمالياً . وبقي " الغيب " سراً مختوماً . وبقي قدر الله هو الحقيقة الوحيدة المستيقنة ؛ وبقي قول الله - سبحانه - ( لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً )هو القانون الحتمي الوحيد ، الذي يتحدث بصدق عن طلاقة المشيئة الإلهية من وراء القوانين الكونية التي يدبر الله بها هذا الكون ، بقدره النافذ الطليق !
يقول سير جيمس جينز الإنجليزي الأستاذ في الطبيعيات والرياضيات :
" لقد كان العلم القديم يقرر تقرير الواثق ، أن الطبيعة لا تستطيع أن تسلك إلا طريقاً واحداً ، وهو الطريق الذي رسم من قبل لتسير فيه من بداية الزمن إلى نهايته ، وفي تسلسل مستمر بين علة ومعلول ، وأن لا مناص من أن الحالة [ أ ] تتبعها الحالة [ ب ] . . أما العلم الحديث فكل ما يستطيع أن يقوله حتى الآن ، هو أنالحالة [ أ ] يحتمل أن تتبعها الحالة [ ب ] أو [ ج ] أو [ د ] أو غيرها من الحالات الأخرى التي يخطئها الحصر . نعم إن في استطاعته أن يقول : إن حدوث الحالة [ ب ] أكثر احتمالاً من حدوث الحالة [ ج ] وإن الحالة [ ج ] أكثر احتمالاً من [ د ] . . . وهكذا . بل إن في مقدوره أن يحدد درجة احتمال كل حالة من الحالات [ ب ] و [ ج ] و [ د ] بعضها بالنسبة إلى بعض . ولكنه لا يستطيع أن يتنبأ عن يقين : أي الحالات تتبع الآخرى . لأنه يتحدث دائماً عما يحتمل . أما ما يجب أن يحدث ، فأمره موكول إلى الأقدار . مهما تكن حقيقة هذه الأقدار "
ومتى تخلص القلب من ضغط الأسباب الظاهرة ، لم يعد هناك محل فيه للتوكل على غير الله ابتداء . وقدر الله هو الذي يحدث كل ما يحدث . وهو وحده الحقيقة المستيقنة . والأسباب الظاهرة لا تنشئ إلا احتمالات ظنية ! . . وهذه هي النقلة الضخمة التي ينقلها الاعتقاد الإسلامي للقلب البشري - وللعقل البشري أيضاً - النقلة التي تخبطت الجاهلية الحديثة ثلاثة قرون لتصل إلى أولى مراحلها من الناحية العقلية ؛ ولم تصل إلى شيء منها في الناحية الشعورية ، وما يترتب عليها من نتائج عملية خطيرة في التعامل مع قدر الله ؛ والتعامل مع الأسباب والقوى الظاهرية ! . . إنها نقلة التحرر العقلي ، والتحرر الشعوري ، والتحرر السياسي ، والتحرر الاجتماعي ، والتحرر الأخلاقي . . . إلى آخر أشكال التحرر وأوضاعه . . . وما يمكن أن يتحرر " الإنسان " أصلاً إذا بقي عبداً للأسباب " الحتمية " وما وراءها من عبوديته لإرادة الناس . أو عبوديته لإرادة [ الطبيعة ! ] فكل " حتمية " غير إرادة الله وقدره ، هي قاعدة لعبودية لغير الله وقدره . . ومن ثم هذا التوكيد على التوكل على الله وحده ، واعتباره شرطاً لوجود الإيمان أو عدمه . . والتصور الإعتقادي في الإسلام كل متكامل . ثم هو بدوره كل متكامل مع الصورة الواقعية التي يريدها هذا الدين لحياة الناس .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَىَ رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : ليس المؤمن بالذي يخالف الله ورسوله ويترك اتباع ما أنزله إليه في كتابه من حدوده وفرائضه والانقياد لحكمه ، ولكن المؤمن هو الذي إذا ذكر الله وجل قلبه وانقاد لأمره وخضع لذكره خوفا منه وفَرَقا من عقابه ، وإذا قرئت عليه آيات كتابه صدّق بها وأيقن أنها من عند الله ، فازداد بتصديقه بذلك إلى تصديقه بما كان قد بلغه منه قبل ذلك تصديقا وذلك هو زيادة ما تلى عليهم من آيات الله إياهم إيمانا . وَعلى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ يقول : وبالله يوقنون في أنّ قضاءه فيهم ماض فلا يرجون غيره ولا يرهبون سواه .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إنّمَا المُؤْمِنُونَ الّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ قال : المنافقون لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه ، ولا يؤمنون بشيء من آيات الله ، ولا يتوكلون على الله ، ولا يصلّون إذا غابوا ، ولا يؤدّون زكاة أموالهم . فأخبر الله سبحانه أنهم ليسوا بمؤمنين ، ثم وصف المؤمنين فقال : إنّمَا المُؤْمنُونَ الّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ فأدّوا فرائضه ، وَإذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتهُ زَادَتْهُمْ إيمَانا يقول : تصديقا ، وَعلى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ يقول : لا يرجون غيره .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، عن مجاهد : الّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ قال : فرِقت .
قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن السديّ : الّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ قال : إذا ذكر الله عند الشيء وجل قلبه .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : إنّمَا المُؤْمِنونَ الّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ يقول : إذا ذكر الله وجل قلبه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ قال : فَرِقَت .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ فرقت .
قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، قال : سمعت السديّ يقول في قوله : إنّمَا المُؤْمِنُونَ الّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ قال : هو الرجل يريد أن يظلم أو قال : يهمّ بمعصية أحسبه قال : فينزع عنه .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان الثوريّ ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي الدرداء ، في قوله : إنّمَا المُؤْمِنُونَ الّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ قال : الوجل في القلب كإحراق السعفة ، أما تجد له قُشَعْرِيرَةً ؟ قال : بلى . قال : إذا وجدت ذلك في القلب فادع الله ، فإن الدعاء يذهب بذلك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّمَا المُؤْمِنُونَ الّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ قال : فرقا من الله ، ووجلاً من الله ، وخوفا من الله تبارك وتعالى .
وأما قوله : زَادَتْهُمْ إيمَانا فقد ذكرت قول ابن عباس فيه . وقال غيره فيه ، ما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : وَإذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُه زَادَتْهُمْ إيمَانا قال : خشية .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَإذَا تُلِليَتْ عَلَيْهِمْ آياتِهُ زَادَتْهُمْ إيمَانا وَعلى رَبهِمْ يَتَوّكَلُونَ قال : هذا نعت أهل الإيمان ، فأثبت نعتهم ، ووصفَهم فأثبت صفتهم .
{ إنما المؤمنون } أي الكاملون في الإيمان . { الذين إذا ذُكر الله وجلت قلوبهم } فزعت لذكره استعظاما له وتهيبا من جلاله . وقيل هو الرجل يهم بمعصية فيقال له اتق الله فينزع عنها خوفا من عقابه . وقرئ { وجلت } بالفتح وهي لغة ، وفرقت أي خافت . { وإذا تُليت عليهم آياته زادتهم إيمانا } لزيادة المؤمن به ، أو لاطمئنان النفس ورسوخ اليقين بتظاهر الأدلة ، أو بالعمل بموجبها وهو قول من قال الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية بناء على أن العمل داخل فيه . { وعلى ربهم يتوكّلون } يفوضون إليه أمورهم ولا يخشون ولا يرجون إلا إياه .
{ إنما } لفظ لا تفارقه المبالغة والتأكيد حيث وقع ، ويصلح مع ذلك للحصر ، فإذا دخل في قصة وساعد معناها على الانحصار صح ذلك وترتب كقوله { إنما إلهكم اله واحد }{[5217]} وغير ذلك من الأمثلة ، وإذا كانت القصة لا تتأتى للانحصار بقيت «إنما » للمبالغة والتأكيد فقط ، كقوله عليه السلام «إنما الربا في النسيئة »{[5218]} ، وكقوله «إنما الشجاع عنترة » وأما من قال «إنما » ، هي لبيان الموصوف فهي عبارة فاترة إذ بيان الموصوف يكون في مجرد الإخبار دون «إنما » ، وقوله ها هنا { إنما المؤمنون } ظاهرها أنها للمبالغة والتأكيد فقط أي الكاملون ، { وجلت } معناه : فزعت ورقت وخافت ، وبهذه المعاني فسرت العلماء ، وقرأ ابن مسعود «فرقت » ، وقرأ أبي بن كعب «فزعت »{[5219]} ، يقال وجل يؤجل وياجل وييجل وهي شاذة وييجل بكسر الياء الأولى ووجه هذه أنهم لما أبدلوا الواو ياء لم يكن لذلك وجه قياس ، فكسروا الياء الأولى ليجيء بدل الواو ياء لعلة ، حكى هذه اللغات الأربع سيبويه رحمه الله ، و { تليت } معناه سردت وقرئت ، والآيات هنا القرآن المتلو ، وزيادة الإيمان على وجوه كلها خارج عن نفس التصديق ، منها أن المؤمن إذا كان لم يسمع حكماً من أحكام الله في القرآن فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعه فآمن به ، زاد إيماناً إلى سائر ما قد آمن به ، إذ لكل حكم تصديق خاص ، وهذا يترتب فيمن بلغه ما لم يكن عنده من الشرع إلى يوم القيامة ، وتترتب زيادة الإيمان بزيادة الدلائل ، ولهذا قال مالك الإيمان يزيد ولا ينقص وتترتب بزيادة الأعمال البرة على قول من يرى لفظة الإيمان واقعة على التصديق والطاعات .
وهؤلاء يقولون يزيد وينقص ، وقوله { وعلى ربهم يتوكلون } عبارة جامعة لمصالح الدنيا والآخرة إذا اعتبرت وعمل بحسبها في أن يمتثل الإنسان ما أمر به ويبلغ في ذلك أقصى جهده دون عجز ، وينتظر بعد ما تكفل له به من نصر أو رزق أو غيره ، وهذه أوصاف جميلة وصف الله بها فضلاء المؤمنين فجعلها غاية للأمة يستبق إليها الأفاضل .
{ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم }
موقع هذه الجملة وما عطف عليها موقع التعليل لوجوب تقوى الله وإصلاح ذات بينهم وطاعتهم الله ورسوله ، لأن ما تضمنته هذه الجمل التي بعد { إنما } من شأنه أن يحمل المتصفين به على الامتثال لما تضمنته جُمل الأمر الثلاث السابقة ، وقد اقتضى ظاهر القصر المستفاد من { إنما } أن من لم يَجلْ قلبُه إذا ذُكر الله ، ولم تزده تلاوة آيات الله إيماناً مع إيمانه ، ولم يتوكل على الله ، ولم يقم الصلاة ، ولم ينفق ، لم يكن موصوفاً بصفة الإيمان ، فهذا ظاهرٌ مؤول بما دلت عليه أدلة كثيرة من الكتاب والسنة من أن الإيمان لاَ ينقضه الإخلال ببعض الواجبات كما سيأتي عند قوله تعالى : { أولئك هم المؤمنون حقاً } [ الأنفال : 4 ] فتعين أن القصر ادعائي بتنزيل الإيمان الذي عَدم الواجبات العظيمةَ منزلة العدم ، وهو قصر مجازي لابتنائه على التشبيه ، فهو استعارة مكنية : شبه الجانب المنفي في صيغة القصر بمن ليس بمؤمن ، وطوي ذكر المشبه به ورُمز إليه بذكر لازمه وهو حَصْر الإيمان فيمن اتصف بالصفات التي لم يتصف بها المشبه به ، ويئول هذا إلى معنى : إنما المؤمنون الكاملُو الإيمانِ ، فالتعريف في { إنما المؤمنون } تعريف الجنس المفيد قصراً ادعائياً على أصحاب هذه الصفات مبالغة ، وحرف ( أل ) فيه هو ما يسمى بالدالة على معنى الكمال .
وقد تكون جملة : { إنما المؤمنون } مستأنفة استينافاً بيانياً لجواب سؤال سائِل يثيره الشرطُ وجزاؤه المقدرُ في قوله : { إن كنتم مؤمنين } [ الأنفال : 1 ] بأن يتساءلوا عن هذا الاشتراط بعد ما تحقق أنهم مؤمنون من قبل ، وهل يمتري في أنهم مؤمنون ، فيجابوا بأن المؤمنين هم الذين صفتهم كيت وكيت ، فيعلموا أن الإيمان المجعول شرطاً هو الإيمان الكامل فتنبعث نفوسهم إلى الاتسام به والتباعد عن موانع زيادته .
وإذ قد كان الاحتمالان غير متنافيين صح تحميل الآية إياهما توفيراً لمعاني الكلام المعجز فإن علة الشيء مما يُسأل عنه ، وإن بيان العلة مما يصح كونه استينافاً بيانياً .
وعلى كلا الاحتمالين وقعت الجملة مفصولة عن التي قبلها لاستغنائها عن الربط وإن اختلف موجب الاستغناء باختلاف الاحتمالين ، والاعتباراتُ البلاغية يصح تعدد أسبابها في الموقع الواحد لأنها اعتبارات معنوية وليست كيفيات لفظية فتحقَّقْه حق تحقُّقه .
والمعنى ليس المؤمنون الكامل إيمانهم إلا أصحاب هذه الصلة التي يعرف المتصف بها تحققها فيه أو عدمه من عرض نفسه على حقيقتها ، فإنه لما كان الكلام وارداً مورد الأمر بالتخلق بما يقتضيه الإيمان أحيلوا في معرفة أمارات هذا التخلق على صفات يأنسونها من أنفسهم إذا علموها .
والذكر حقيقته التلفظ باللسان ، وإذا علق بما يدل على ذات فالمقصود من الذات أسماؤها ، فالمراد من قوله : { إذا ذكر الله } إذا نطق ناطق باسم من أسماء الله أو بشأن من شؤونه ، مثل أمره ونهيه ، لأن ذلك لا بد معه من جريان اسمه أو ضميره أو موصوله أو إشارته أو نحو ذلك من دلائل ذاته .
والوجل خوف مع فزع فيكون لاستعظام الموجول منه .
وقد جاء فعل وَجل في الفصيح بكسر العين في الماضي على طريقة الأفعال الدالة على الانفعال الباطني مثل فَرِح ، وصَدِي ، وهوِيَ ، ورَوِي .
وأسند الوجل إلى القلوب لأن القلب يكثر إطلاقه في كلام العرب على إحساس الإنسان وقرارة إدراكه ، وليس المراد به هذا العضو الصنوبري الذي يرسل الدم إلى الشرايين .
وقد أجملت الآية ذكر الله إجمالاً بديعاً ليناسب معنى الوجل ، فذكرُ الله يكون : بذكر اسمه ، وبذكر عقابه ، وعظمته ، وبذكر ثوابه ورحمته ، وكل ذلك يحصل معه الوجل في قلوب كُمّل المؤمنين ، لأنه يحصلَ معه استحضار جلال الله وشدة بأسه وسعة ثوابه ، فينبعث عن ذلك الاستحضار توقعُ حلول بأسه ، وتوقع انقطاع بعض ثوابه أو رحمته ، وهو وجل يبعث المؤمن إلى الاستكثار من الخير وتوقي ما لا يرضي الله تعالى وملاحظة الوقوف عند حدود الله في أمره ونهيه ، ولذلك روي عن عمر بن الخطاب أنه قال : « أفضَلُ من ذِكر الله باللسان ذكرُ الله عند أمره ونهيه » .
وإذ قد كان المقصود من هذا الكلام حث المؤمنين على الرضى بما قسم النبي صلى الله عليه وسلم من غنايم بدر ، وأن يتركوا التشاجر بينهم في ذلك ، ناسب الاقتصار على وجل قلوب المؤمنين عند ذكر الله ، والوجلُ حالين يحصلان للمؤمن عند ذكر الله والحال الآخر هو الأمل والطمع في الثواب فطوى ذكره هنا اعتماداً على استلزام الوجل إياه ، لأن من الوجل أن يَجل ، من فوات الثواب أو نقصانه .
{ وإذا تليت عليهم ءاياته زادهم إيمانا }
التلاوة : القراءة واستظهار ما يحفظه التالي من كلام له أو لغيره يحكيه لسامعه ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } في [ البقرة : 102 ] .
وآيات الله القرآن ، سميت آيات ، لأن وحيها إلى النبي الأمّي وعجزَ قومه ، خاصتهم وعامتهم عن الإتيان بمثلها فيه دلالة على صدق من جاء بها فلذلك سميت آيات . ويسمى القرآن كله آية أيضاً باعتبار دلالة جملته على صدق محمد ، وقد تقدم ذلك في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير .
وإسناد فعل زيادة الإيمان إلى آيات الله لأنها سبب تلك الزيادة للإيمان باعتبار حال من أحوالها ، وهو تلاوتها لاعتبار مجرد وجودها في صدر غير المتلوة عليه . وهذا الإسناد من المجاز العقلي إذ جُعلت الآيات بمنزلة فاعل الزيادة في الإيمان .
فإنه لما لم يعرف الفاعل الحقيقي لزيادة الإيمان ، إذْ تلك الزيادة كيفية نفسية عارضة ، لليقين ، لا يُعرف فاعل انقداحها في العقل ، وغاية ما يعرف أن يقال : ازداد إيمان فلان ، أو ازداد فلان إيماناً ، بطريق ما يدل على المطاوعة ، ولا التفات في الاستعمال إلى أن الله هو خالق الأحوال ، كلها إذ ليس ذلك معنى الفاعل الحقيقي في العُرف ، ولو لوحظ ذلك لم ينقسم الكلام إلى حقيقة ومجاز عقليين وإنما الفاعل الحقيقي هو من يأتي بالفعل ويصنعه كالكاتب للكتابة والضارب بالسيف للقتل .
والإيمانُ : تصديق النفس بثبوت نسبة شيء لشيء ، أو بانتفاء نسبة شيء عن شيء ، تصديقاً جازماً لا يحتمل نقيض تلك النسبة ، وقد اشتهر اسم الإيمان شرعاً في اليقين بالنسبة المقتضية وجود الله ووجودَ صفاته التي دلت عليها الأدلة العقلية أو الشرعية ، والمقتضية مجيء رسول الله مخبراً عن الله الذي أرسله وثبوتَ صفات الرسول عليه الصلاة والسلام التي لا يتم معنى رسالته عن الله بدونها : مثل الصدق فيما يبلغ عن الله ، والعصمة عن اقتراف معصية الله تعالى .
ومعنى زيادة الإيمان : قوة اليقين في نفس المُوقن على حسب شدة الاستغناء عن استحضار الأدلة في نفسه ، وعن إعادة النظر فيها ، ودفعِ الشك العارض للنفس ، فإنه كلما كانت الأدلة أكثر وأقوى وأجلى مقدمات كان اليقين أقوى ، فتلك القوة هي المعبر عنها بالزيادة ، وتفاوتها تدرج في الزيادة ، ويجوز أن تسمى قلة التدرج في الأدلة نقصاً لكنه نقص عن الزيادة ، وذلك مع مراعاة وجود أصل حقيقة الإيمان ، لأنها لو نقصت عن اليقين لبطلت ماهية الأيمان ، وقد أشار البخاري إلى هذا بقوله : باب زيادةِ الإيمان ونقصانه فإذا ترك شيئاً من الكمال فهو ناقص فلو أن نقص الأدلة بلغ بصاحبه إلى انخرَام اليقين لم يكن العلم الحاصل له إيماناً ، حتى يوصف بالنقص ، فهذا هو المراد من وصف الإيمان بالزيادة ، في القرآن وكلام الرسول ، وهو بين . ولم يرد عن الشريعة ذكر نقص الإيمان ، وذلك هو الذي يريده جمهور علماء الأمه إذا قالوا الإيمان يزيد كما قال مالك بن أنس الإيمانُ يزيد ولا ينقص ، وهو عبارة كاملة ، وقد يطلق الإيمان على الأعمال التي تجب على المؤمن وهو إطلاق باعتبار كون تلك الأعمال من شرائِع الإيمان ، كما أطلق على الصلاة اسم الإيمان في قوله تعالى : { وما كان الله ليضيع إيمانكم } [ البقرة : 143 ] ولكن الاسم المضبوط لهذا المعنى هو اسم ( الإسلام ) كما يفصح عنه حديث سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام والإحسان ، فالإيمان قد يطلق على الإسلام وهو بهذا الاعتبار يوصف بالنقص والزيادة باعتبار الإكثار من الأعمال والإقلال ، ولكنه ليس المراد في هذه الآية ولا في نظائِرها من آيات الكتاب وأقوالِ النبيّء صلى الله عليه وسلم وقد يريده بعض علماء الأمة فيقول : الإيمان يزيد وينقص ، ولعل الذي ألجأهم إلى وصفه بالنقص هو ما اقتضاه الوصف بالزيادة . وهذا مذهبٌ أشار إليه البخاري في قوله " باب من قال إن الإيمان هو العمل " وقال الشيخ ابن أبي زيد « وأن الإيمان قولُ باللسان واخلاصٌ بالقلب وعملٌ بالجوارح يزيد بزيادة الأعمال وينقص بنقص الأعمال فيكون فيها النقص وبها الزيادة » ، وهو جار على طريقة السلف من إقرار ظواهر القرآن والسنة ، في الأمور الاعتقادية ولكن وصف الإيمان بالنقص لا داعي إليه لعدم وجود مقتضيه لعدم وصفه بالنقص في القرآن والسنة ولهذا قال مالك الإيمان يزيد ولا ينقص .
وكيفية تأثير تلاوة الآيات في زيادة الإيمان : أن دقائِق الإعجاز التي تحتوي عليها آيات القرآن تزيد كل آية تنزل منها أو تتكرر على الأسماع سامعها يقيناً بأنها من عند الله ، فتزيده استدلالاً على ما في نفسه ، وذلك يُقوي الإيمان حتى يصل إلى مرتبة تقرب من الضرورة على نحو ما يحصل في تواتر الخبر من اليقين بصدق المخبرين ، ويحصل مع تلك الزيادة زيادة في الإقبال عليها بشراشر القلوب ثم في العمل بما تتضمنه من أمر أو نهي ، حتى يحصل كمال التقوى ، فلا جرم كان لكل آية تتلى على المؤمنين زيادة في عوارض الإيمان من قوة اليقين وتكثير الأعمال فهذا وصف راسخ للآيات ويجوز أن تفسر زيادة الإيمان عند تلاوة الآيات بأنها زيادة إدراك للمعاني المؤمن بها ، كما فسرت زيادة الإيمان بالنسبة إلى الأعمال ، التي تجب على المؤمن إذ تلك الإدراكات تعلقات بعضها حسي وبعضها عقلي .
وحظ المقام المتعلق بآحكام الأنفال من هذه الزيادة هو أن سماع آيات حكم الأنفال يزيد إيمان المؤمنين قوة ، بنبذ الشقاق والتشاجر الطارىء ببينهم في أنفس الأموال عندهم ، وهو المال المكتسب من سيوفهم ، فإنه أحب أموالهم إليهم . وفي الحديث « وجعل رزقي تحت ظل رمحي » وبذلك تتضح المناسبة بين ذكر حكم الأنفال ، وتعقيبه بالأمر بالتقوى وإصلاح ذات البين والطاعة ، ثم تعليل ذلك بأن شأن المؤمنين ازدياد إيمانهم عند تلاوة آيات الله .
صلة ثالثة ل { المؤمنون } أوحال منه ، وجعلت فعلاً مضارعاً للدلالة على تكرر ذلك منهم ، ووصفهم بالتوكل على الله وهو الاعتماد على الله في الأحوال والمساعي ليقدر للمتوكل تيسيراً مرة ويعوضه عن الكسب المنهي عنه بآحسن منه من الحلال المأذون فيه . وتقدم تفسير التوكل عند قوله : { فإذا عزمت ، فتوكل على الله } في سورة [ آل عمران : 159 ] .
ومناسبة هذا الوصف للغرض : أنهم أمروا بالتخلي عن الأنفال ، والرضى بقسمة الرسول صلى الله عليه وسلم فيها ، فمن كان قد حرم من نفل قتيله يتوكلُ على الله في تعويضه بأحسن منه .
وتقديم المجرور في قوله : { وعلى ربهم يتوكلون } إما للرعاية على الفاصلة فهو من مقتضيات الفصاحة مع ما فيه من الاهتمام باسم الله ، وإما للتعريض بالمشركين ، لأنهم يتوكلون على إعانة الأصنام ، قال تعالى : { واتخذوا من دون الله آلهةً ليكونوا لهم عزاً } [ مريم : 81 ] فيكون الكلام مدحاً للمؤمنين ، وتعريضاً بذم المشركين ، ثم فيه تحذير من أن تبقى في نفوس المؤمنين آثار من التعلق بما نهوا عن التعلق به ، لتوهمهم أنهم إذا فوّتوه فقد أضاعوا خيراً من الدنيا .
القاضي عياض: قال غير واحد: سمعت مالكا يقول: الإيمان: قول وعمل، يزيد وينقص، وبعضه أفضل من بعض...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ليس المؤمن بالذي يخالف الله ورسوله ويترك اتباع ما أنزله إليه في كتابه من حدوده وفرائضه والانقياد لحكمه، ولكن المؤمن هو الذي إذا ذكر الله وجل قلبه وانقاد لأمره وخضع لذكره خوفا منه وفَرَقا من عقابه، وإذا قرئت عليه آيات كتابه صدّق بها وأيقن أنها من عند الله، فازداد بتصديقه بذلك إلى تصديقه بما كان قد بلغه منه قبل ذلك تصديقا وذلك هو زيادة ما تلى عليهم من آيات الله إياهم إيمانا. "وَعلى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ "يقول: وبالله يوقنون في أنّ قضاءه فيهم ماض فلا يرجون غيره ولا يرهبون سواه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الوَجَل: شِدَّة الخوف، ومعناه ها هنا أَن يُخْرِجَهم الوَجَلُ عن أوطان الغفلة، ويزعجهم عن مساكن الغيبة. فإذا انفصلوا عن أوْدية التفرقة وفاؤوا إلى مَشَاهِدِ الذكر نالوا السكون إلى الله -عز وجل؛ فيزيدُهم ما يُتْلَى عليهم من آياته تصديقاً على تصديق، وتحقيقاً على تحقيق. فإذا طالعوا جلال قَدْرِهِ، وأيقنوا قصورَهم عن إدراكه، توكلوا عليه في إمدادهم بالرعاية في نهايتهم، كما استخلصهم بالعناية في بدايتهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
واللام في قوله: {إِنَّمَا المؤمنون} إشارة إليهم. أي إنما الكاملو الإيمان من صفتهم كيت وكيت والدليل عليه قوله: {أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون حَقّاً}. {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}: فزعت... يعني فزعت لذكره استعظاماً له، وتهيباً من جلاله وعزّة سلطانه وبطشه بالعصاة وعقابه...
وقيل: هو الرجل يريد أن يظلم أو يهم بمعصية فيقال له: اتق الله فينزع... {زَادَتْهُمْ إيمانا}: ازدادوا بها يقيناً وطمأنينة في نفس. لأن تظاهر الأدلة أقوى للمدلول عليه وأثبت لقدمه، وقد حمل على زيادة العمل. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (عن النبي صلى الله عليه وسلم):"الإيمان سبع وسبعون شعبة، أعلاها: شهادة أن لا إله إلا الله. وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" وعن عمر بن العزيز رضي الله عنه: إن للإيمان سنناً وفرائض وشرائع، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان. {وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} ولا يفوّضون أمورهم إلى غير ربهم، لا يخشون ولا يرجون إلا إياه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... {تليت} معناه سردت وقرئت، والآيات هنا القرآن المتلو، وزيادة الإيمان على وجوه كلها خارج عن نفس التصديق، منها أن المؤمن إذا كان لم يسمع حكماً من أحكام الله في القرآن فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعه فآمن به، زاد إيماناً إلى سائر ما قد آمن به، إذ لكل حكم تصديق خاص، وهذا يترتب فيمن بلغه ما لم يكن عنده من الشرع إلى يوم القيامة، وتترتب زيادة الإيمان بزيادة الدلائل... وتترتب بزيادة الأعمال البرة على قول من يرى لفظة الإيمان واقعة على التصديق والطاعات.
وقوله {وعلى ربهم يتوكلون} عبارة جامعة لمصالح الدنيا والآخرة إذا اعتبرت وعمل بحسبها في أن يمتثل الإنسان ما أمر به ويبلغ في ذلك أقصى جهده دون عجز، وينتظر بعد ما تكفل له به من نصر أو رزق أو غيره، وهذه أوصاف جميلة وصف الله بها فضلاء المؤمنين فجعلها غاية للأمة يستبق إليها الأفاضل.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{إنما المؤمنون} أي الراسخون في وصف الإيمان {الذين} أي يقيمون الدليل على دعوى الإيمان بتصديق أفعالهم لأقوالهم فيكونون {إذا ذكر الله} أي الجامع لصفات الكمال من الجلال والجمال مجرد ذكر في نحو قوله {الأنفال لله} {وجلت} أي خافت خوفاً عظيماً يتخلل صميم عظامهم ويجول في سائر معانيهم وأجسامهم {قلوبهم} أي بمجرد ذكره استعظاماً له {وإذا تليت} أي قرئت على سبيل الموالاة والاتصال من ايّ تال كان {عليهم آياته} أي كما يأتي في إقامة الأدلة على ذلك الحكم الذي ورد ذكره فيه {زادتهم إيماناً} أي بإيمانهم بها وبما حصل لهم من نور القلب وطمأنينة اليقين بسببها، فإنها هي الدالة على الله بما تبين من عظيم أفعاله ونعوت جلاله وجماله، وتظاهر الأدلة أقوى للمدلول عليه، وكمال قدرة الله تعالى إنما يعرف بواسطة آثار حكمته في مخلوقاته، وذلك بحر لا ساحل له، ولما كانت المراتب لا نهاية لها، كانت مراتب التجلي والمعرفة لا نهاية لها، فالزيادة في أشخاص التصديق {وعلى} أي والحال أنهم على {ربهم} أي الدائم الإحسان إليهم وحده {يتوكلون} أي يجددون إسناد أمورهم إليه مهما وسوس لهم الشيطان بالفقر أو غيره ليكفيهم من حيث لا يحتسبون، فإن خزائنه واسعة، ويده سحاء الليل والنهار، كما أنهم لما توكلوا عليه في القتال نصرهم وقد كانوا في غاية الخوف من الخذلان، وكان حالهم جديراً بذلك لقلقهم وخوفهم وقتلهم وضعفهم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم وصف الله المؤمنين بما يدل على هذا ويثبته فقال: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم}. هذه جملة مستأنفة لبيان حال المؤمنين الذين بين في شرطية الآية قبلها شأنهم من التقوى وإصلاح ذات البين في الأمة وطاعة الله ورسوله على قاعدة أن النكرة إذا أعيد ذكرها معرفة تكون عين الأولى أو بيان حال المؤمنين الكاملي الإيمان مطلقا ليعلم منه أن تلك الأمور الثلاثة هي بعض شأنهم، وقد بين صفاتهم بصيغة الحصر التي يخاطب بها من يعلم ذلك أو ينزل منزلة العالم به الذي لا ينكره وهي "إنما "كما حققه إمام الفن الشيخ عبد القاهر. وصفهم بخمس صفات.
الصفة الأولى: قوله: {الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} قال الراغب: الوجل استشعار الخوف. يعني ما يجعل القلب يشعر به بالفعل وعبر غيره عنه بالفزع والخوف (وبابه فرح وتعب) وذلك أن الخوف توقع أمر مؤلم في المستقبل قد يصحبه شعور الألم والفزع، وقد يفارقه لضعفه أو لاعتقاده بعد أجله، فالوجل والفزع أخص منه. وفي سورة الحجر من حوار إبراهيم صلى الله عليه وسلم مع ضيفه المنكرين {قال إنا منكم وجلون * قالوا لا توجل} [الحجر: 52، 53] الخ، وفي سورة المؤمنين في صفة المؤمنين المشفقين من خشية ربهم {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة إنهم إلى ربهم راجعون} [المؤمنون: 61] فالوجل هنا مقترن بالعمل الصالح وهو البذل والعطاء وفي سورة الحج {وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} [الحج: 32] وهي بمعنى آية الأنفال، وليس للوجل ذكر في غير هذه الآيات.
ويتفق معنى الوجل فيها بأنه الفزع وشعور الخوف يلم بالقلب، وقد يكون هذا الخوف من العاقبة المجهولة، وقد يكون من الإجلال والمهابة،... وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما الوجل من القلب إلا كضرمة السعفة، إذا وجل أحدكم فيلدع عند ذلك...
والمراد بذكر الله ذكر القلب لعظمته وسلطانه وجلاله أو لوعيده ووعده، ومحاسبته لخلقه وإدانتهم، وغير ذلك من صفاته وأفعاله سواء صحبه ذكر اللسان أم لا، وأعظم ذكر اللسان مع القلب ترتيل القرآن بالتدبر، وقد يقول المؤمن في صلاة التهجد في الخلوة (الله أكبر) مستحضرا لمعنى كبريائه عز وجل فينتفض ويقشعر جلده، فمن خص الذكر هنا بالوعيد غفل عن كل هذا وظن أن الوجل لا يكون إلا من خوف العذاب، وكأنه لم يذق طعم الخشية والوجل من مهابة الله وعظمته وكبريائه وعزة سلطانه وغير ذلك من معاني أسمائه وصفاته، ولم يقرأ قوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر: 28] ولم يعلم أن من عباد الله من يخشع قلبه ويفيض دمعه من ذكر أسماء الله في آخر سورة الحشر {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدّعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون * هو الله الذي لا إله هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمان الرحيم} [الحشر: 21، 22] الخ.
ولا يجد مثل هذا الوجل عند وصف جهنم وذكر الحساب والجزاء. وإنما يأخذ مثل هذا معاني القرآن من فهمه لظواهر بعض الألفاظ بدون شعور بما لها من التأثير في القلوب فيقابل بين هذه الآية وما في معناها وبين قوله تعالى في سورة الرعد {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب} [الرعد: 29] فيظن أن بينهما تعارض فيحاول التفصي منه بحمل هذا على ذكر الوعد والآخر على ذكر الوعيد، ولا تعارض في الحقيقة ولا تنافي ففي كل من الوعد والوعيد وصفات الكمال وذكر آيات الله تعالى في الأنفس والآفاق اطمئنان للقلوب بالإيمان بالله تعالى والثقة بما عنده، وغير ذلك مما يأتي بسطه في محله إن شاء الله تعالى. ولا ذكر يضرم سعفة الوجل في القلب كتلاوة كلام الرب عز وجل {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد} [الزمر: 22].
الصفة الثانية: قوله تعالى: {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا} أي إذا تليت عليهم آياته المنزلة على خاتم أنبيائه صلى الله عليه وسلم زادتهم إيمانا أي يقينا في الإذعان وقوة في الاطمئنان، وسعة في العرفان ونشاطا في الأعمال، ويطلق الإيمان في عرف الشرع على مجموع العلم والاعتقاد والعمل بموجبه وعلى كل منهما والقرائن تعين المراد، وفيما رواه البخاري ومسلم في كتاب الإيمان من صحيحهما شواهد صريحة في ذلك ومن أهمها أحاديث أقل الإيمان المنجي في الآخرة وحديث (الإيمان بضعة وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) ولهذا حمل بعض الناس زيادة الإيمان على زيادة العمل اللازم له، وبعضهم على زيادة ما يتعلق به الإيمان الذي فسروه بالتصديق القطعي، والحق أن الإيمان القلبي نفسه يزيد وينقص أيضا فإن إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان مؤمنا بإحياء الله للموتى لما دعاه أن يريه كيف يحييها {قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} [البقرة: 260] فمقام الطمأنينة في الإيمان يزيد على ما دونه من الإيمان المطلق قوة وكمالا.
ويروى عن علي المرتضى كرم الله وجهه: لو كشف الحجاب ما ازددت يقينا. وهذا أقوى من الإيمان بالبرهان وهو أقوى من إيمان التقليد الذي قال به الأكثرون إذا وافق الحق وكان يقينا، والعلم التفصيلي في الإيمان أقوى وأكمل من العلم الإجمالي، مثال ذلك أن الإيمان بتوحيد الله تعالى لا يكمل إلا بمعرفة أنواع الشرك الظاهر والباطن التي تنافيه أو تنافي كماله ومنها ما هو أخفى من دبيب النمل...وجملة القول إن زيادة الإيمان ثابتة بنص هذه الآية وآيات أخرى... الصفة الثالثة: قوله تعالى: {وعلى ربهم يتوكلون} أي يتوكلون على ربهم وحده لا يتوكلون على غيره ولا يفوضون أمورهم إلى سواه عز وجل كما أفاده تركيب الجملة. وعن ابن عباس قال: لا يرجون غيره. والتوكل أعلى مقامات التوحيد، فإن من كان مؤمنا بأن ربه هو المدبر لأموره وأمور العالم كلها لا يمكن أن يكل شيئا منها إلى غيره، ولما كان من المعلوم من الشرع والطبع والعقل بالضرورة أن للإنسان كسبا اختياريا كلفه الله العمل به وأن يؤمن بأنه يجازى على عمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر – وجب على الإنسان أن يسعى في تدبير أمور نفسه بحسب ما علمه من سنن الله تعالى في نظام الأسباب وارتباطها بالمسببات معتقدا أن الأسباب ما يعقل منها كالإنسان وما لا يعقل لم تكن أسبابا إلا بتسخير الله تعالى، وأن ما يناله باستعمالها فهو من فضل ربه الذي سخرها وجعلها أسبابا وعلمه ذلك.
وأما ما لا يعرف له سبب يطلب به فالمؤمن يتوكل فيه على الله وحده وإليه يتوجه وإياه يدعو فيما يطلبه منه، وأما ترك الأسباب وتنكب سنن الله تعالى في الخلق وتسمية ذلك توكلا فهو جهل بدينه وجهل بسننه التي أخبرنا بأنها لا تتبدل ولا تتحول. ومثله فيه كمثل من أمره ملكه أو مالكه بأن يعول في طعامه وشرابه وسائر حاجته عليه ولا يطلب من غيره شيئا، وكان ذلك الملك أو المالك قد أعد له ولأمثاله كل يوم مائدة لطعامهم وشرابهم فتنطع هو وامتنع عن الاختلاف إلى المائدة مع أمثاله زاعما أن هذا عصيان لأمر الملك في التعويل عليه وانتظر أن يرسل إليه طعاما خاصا- أي أنه يطلب من ربه أن يبطل سننه في خلقه لأجله- فما أعظم جهله وغروره به؟
وقد تقدم تحقيق معنى التوكل مع بسط القول فيه وكونه يستلزم الأخذ بالأسباب في تفسير {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} من سورة آل عمران الآية 160 وسيأتي التذكير ببعضه في الكلام على توكل النبي صلى الله عليه وسلم من تفسير هذه السورة (الأنفال).
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ولما كان الإيمان قسمين: إيمانا كاملا يترتب عليه المدح والثناء، والفوز التام، وإيمانا دون ذلك ذكر الإيمان الكامل فقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الألف واللام للاستغراق لشرائع الإيمان.الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أي: خافت ورهبت، فأوجبت لهم خشية اللّه تعالى الانكفاف عن المحارم، فإن خوف اللّه تعالى أكبر علاماته أن يحجز صاحبه عن الذنوب. وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ووجه ذلك أنهم يلقون له السمع ويحضرون قلوبهم لتدبره فعند ذلك يزيد إيمانهم،. لأن التدبر من أعمال القلوب، ولأنه لا بد أن يبين لهم معنى كانوا يجهلونه، أو يتذكرون ما كانوا نسوه، أو يحدث في قلوبهم رغبة في الخير، واشتياقا إلى كرامة ربهم، أو وجلا من العقوبات، وازدجارا عن المعاصي، وكل هذا مما يزداد به الإيمان. وَعَلَى رَبِّهِمْ وحده لا شريك له يَتَوَكَّلُونَ أي: يعتمدون في قلوبهم على ربهم في جلب مصالحهم ودفع مضارهم الدينية والدنيوية، ويثقون بأن اللّه تعالى سيفعل ذلك. والتوكل هو الحامل للأعمال كلها، فلا توجد ولا تكمل إلا به.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن التعبير القرآني دقيق في بنائه اللفظي ليدل دلالة دقيقة على مدلوله المعنوي. وفي العبارة هنا قصر بلفظ: (إنما). وليس هنالك مبرر لتأويله -وفيه هذا الجزم الدقيق- ليقال: إن المقصود هو "الإيمان الكامل "! فلو شاء اللّه -سبحانه- أن يقول هذا لقاله. إنما هو تعبير محدد دقيق الدلالة. إن هؤلاء الذين هذه صفاتهم وأعمالهم ومشاعرهم هم المؤمنون. فغيرهم ممن ليس له هذه الصفات بجملتها ليسوا بالمؤمنين. والتوكيد في آخر الآيات: (أولئك هم المؤمنون حقا) يقرر هذه الحقيقة. فغير المؤمنين (حقا) لا يكونون مؤمنين أصلاً.. والتعبيرات القرآنية يفسر بعضها بعضا. واللّه يقول: (فماذا بعد الحق إلا الضلال). فما لم يكن حقاً فهو الضلال. وليس المقابل لوصف: (المؤمنون حقاً) هو المؤمنون إيماناً غير كامل! ولا يجوز أن يصبح التعبير القرآني الدقيق عرضة لمثل هذه التأويلات المميعة لكل تصور ولكل تعبير! لذلك كان السلف يعرفون من هذه الآيات أن من لم يجد في نفسه وعمله هذه الصفات لم يجد الإيمان، ولم يكن مؤمناً أصلاً...
(إنما المؤمنون الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم)... إنها الارتعاشة الوجدانية التي تنتاب القلب المؤمن حين يذكر باللّه في أمر أو نهي؛ فيغشاه جلاله، وتنتفض فيه مخافته؛ ويتمثل عظمة اللّه ومهابته، إلى جانب تقصيره هو وذنبه، فينبعث إلى العمل والطاعة. (وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً). والقلب المؤمن يجد في آيات هذا القرآن ما يزيده إيماناً، وما ينتهي به إلى الاطمئنان.. إن هذا القرآن يتعامل مع القلب البشري بلا وساطة، ولا يحول بينه وبينه شيء إلا الكفر الذي يحجبه عن القلب ويحجب القلب عنه؛ فإذا رفع هذا الحجاب بالإيمان وجد القلب حلاوة هذا القرآن، ووجد في إيقاعاته المتكررة زيادة في الإيمان تبلغ إلى الاطمئنان.. وكما أن إيقاعات القرآن على القلب المؤمن تزيده إيماناً، فإن القلب المؤمن هو الذي يدرك هذه الإيقاعات التي تزيده إيماناً.. لذلك يتكرر في القرآن تقرير هذه الحقيقة في أمثال قوله تعالى: إن في ذلك لآيات للمؤمنين.. (إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون).. ومن ذلك قول أحد الصحابة -رضوان الله عليهم -: كنا نؤتى الإيمان قبل أن نؤتى القرآن.. وبهذا الإيمان كانوا يجدون في القرآن ذلك المذاق الخاص، يساعدهم عليه ذلك الجو الذي كانوا يتنسمونه؛ وهم يعيشون القرآن فعلاً وواقعاً؛ ولا يزاولونه مجرد تذوق وإدراك!...
.كما أن قيامهم بالحركة الواقعية في ظل التوجيهات القرآنية المباشرة كان يجعل التفاعل مع هذا التذوق مضاعفاً.. وإذا كانت الأولى لا تتكرر في حياة البشر؛ فإن هذه الثانية تتكرر كلما قامت في الأرض عصبة مؤمنة تحاول بالحركة أن تنشئ هذا الدين في واقع الناس كما كانت الجماعة المسلمة الأولى تنشئه.. وهذه العصبة المؤمنة التي تتحرك بهذا القرآن لإعادة إنشاء هذا الدين في واقع الناس هي التي تتذوق هذا القرآن؛ وتجد في تلاوته ما يزيد قلوبها إيماناً؛ لأنها ابتداء مؤمنة. الدين عندها هو الحركة لإقامة هذا الدين بعد الجاهلية التي عادت فطغت على الأرض جميعاً! وليس الإيمان عندها بالتمني، لكن ما وقر في القلب وصدقه العمل! (وعلى ربهم يتوكلون).. عليه وحده.. كما يفيده بناء العبارة. لا يشركون معه أحداً يستعينون به ويتوكلون عليه...
.وهذا هو إخلاص الاعتقاد بوحدانية الله؛ وإخلاص العبادة له دون سواه فما يمكن أن يجتمع في قلب واحد، توحيد الله والتوكل على أحد معه سبحانه. والذين يجدون في قلوبهم الاتكال على أحد أو على سبب يجب أن يبحثوا ابتداء في قلوبهم عن الإيمان بالله! وليس الاتكال على الله وحده بمانع من اتخاذ الأسباب. فالمؤمن يتخذ الأسباب من باب الإيمان بالله وطاعته فيما يأمر به من اتخاذها؛ ولكنه لا يجعل الأسباب هي التي تنشئ النتائج فيتكل عليها. إن الذي ينشئ النتائج- كما ينشئ الأسباب -هو قدر الله. ولا علاقة بين السبب والنتيجة في شعور المؤمن.. اتخاذ السبب عبادة بالطاعة. وتحقق النتيجة قدر من الله مستقل عن السبب لا يقدر عليه إلا الله.. وبذلك يتحرر شعور المؤمن من التعبد للأسباب والتعلق بها؛ وفي الوقت ذاته هو يستوفيها بقدر طاقته لينال ثواب طاعة الله في استيفائها.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} موقع هذه الجملة وما عطف عليها موقع التعليل لوجوب تقوى الله وإصلاح ذات بينهم وطاعتهم الله ورسوله، لأن ما تضمنته هذه الجمل التي بعد {إنما} من شأنه أن يحمل المتصفين به على الامتثال لما تضمنته جُمل الأمر الثلاث السابقة، وقد اقتضى ظاهر القصر المستفاد من {إنما} أن من لم يَجلْ قلبُه إذا ذُكر الله، ولم تزده تلاوة آيات الله إيماناً مع إيمانه، ولم يتوكل على الله، ولم يقم الصلاة، ولم ينفق، لم يكن موصوفاً بصفة الإيمان، فهذا ظاهرٌ مؤول بما دلت عليه أدلة كثيرة من الكتاب والسنة من أن الإيمان لاَ ينقضه الإخلال ببعض الواجبات كما سيأتي عند قوله تعالى: {أولئك هم المؤمنون حقاً} [الأنفال: 4] فتعين أن القصر ادعائي بتنزيل الإيمان الذي عَدم الواجبات العظيمةَ منزلة العدم، وهو قصر مجازي لابتنائه على التشبيه، فهو استعارة مكنية: شبه الجانب المنفي في صيغة القصر بمن ليس بمؤمن، وطوي ذكر المشبه به ورُمز إليه بذكر لازمه وهو حَصْر الإيمان فيمن اتصف بالصفات التي لم يتصف بها المشبه به، ويؤول هذا إلى معنى: إنما المؤمنون الكاملُو الإيمانِ، فالتعريف في {إنما المؤمنون} تعريف الجنس المفيد قصراً ادعائياً على أصحاب هذه الصفات مبالغة، وحرف (أل) فيه هو ما يسمى بالدالة على معنى الكمال. وقد تكون جملة: {إنما المؤمنون} مستأنفة استينافاً بيانياً لجواب سؤال سائِل يثيره الشرطُ وجزاؤه المقدرُ في قوله: {إن كنتم مؤمنين} [الأنفال: 1] بأن يتساءلوا عن هذا الاشتراط بعد ما تحقق أنهم مؤمنون من قبل، وهل يمتري في أنهم مؤمنون، فيجابوا بأن المؤمنين هم الذين صفتهم كيت وكيت، فيعلموا أن الإيمان المجعول شرطاً هو الإيمان الكامل فتنبعث نفوسهم إلى الاتسام به والتباعد عن موانع زيادته. وإذ قد كان الاحتمالان غير متنافيين صح تحميل الآية إياهما توفيراً لمعاني الكلام المعجز فإن علة الشيء مما يُسأل عنه، وإن بيان العلة مما يصح كونه استينافاً بيانياً. والمعنى ليس المؤمنون الكامل إيمانهم إلا أصحاب هذه الصلة التي يعرف المتصف بها تحققها فيه أو عدمه من عرض نفسه على حقيقتها، فإنه لما كان الكلام وارداً مورد الأمر بالتخلق بما يقتضيه الإيمان أحيلوا في معرفة أمارات هذا التخلق على صفات يأنسونها من أنفسهم إذا علموها. والذكر حقيقته التلفظ باللسان، وإذا علق بما يدل على ذات فالمقصود من الذات أسماؤها، فالمراد من قوله: {إذا ذكر الله} إذا نطق ناطق باسم من أسماء الله أو بشأن من شؤونه، مثل أمره ونهيه، لأن ذلك لا بد معه من جريان اسمه أو ضميره أو موصوله أو إشارته أو نحو ذلك من دلائل ذاته...
وقد أجملت الآية ذكر الله إجمالاً بديعاً ليناسب معنى الوجل، فذكرُ الله يكون: بذكر اسمه، وبذكر عقابه، وعظمته، وبذكر ثوابه ورحمته، وكل ذلك يحصل معه الوجل في قلوب كُمّل المؤمنين، لأنه يحصلَ معه استحضار جلال الله وشدة بأسه وسعة ثوابه، فينبعث عن ذلك الاستحضار توقعُ حلول بأسه، وتوقع انقطاع بعض ثوابه أو رحمته، وهو وجل يبعث المؤمن إلى الاستكثار من الخير وتوقي ما لا يرضي الله تعالى وملاحظة الوقوف عند حدود الله في أمره ونهيه...
{وإذا تليت عليهم ءاياته زادهم إيمانا} التلاوة: القراءة واستظهار ما يحفظه التالي من كلام له أو لغيره يحكيه لسامعه...
وآيات الله القرآن، سميت آيات، لأن وحيها إلى النبي الأمّي وعجزَ قومه، خاصتهم وعامتهم عن الإتيان بمثلها فيه دلالة على صدق من جاء بها فلذلك سميت آيات. ويسمى القرآن كله آية أيضاً باعتبار دلالة جملته على صدق محمد...
وإسناد فعل زيادة الإيمان إلى آيات الله لأنها سبب تلك الزيادة للإيمان باعتبار حال من أحوالها، وهو تلاوتها لاعتبار مجرد وجودها في صدر غير المتلوة عليه...
.ومعنى زيادة الإيمان: قوة اليقين في نفس المُوقن على حسب شدة الاستغناء عن استحضار الأدلة في نفسه، وعن إعادة النظر فيها، ودفعِ الشك العارض للنفس، فإنه كلما كانت الأدلة أكثر وأقوى وأجلى مقدمات كان اليقين أقوى، فتلك القوة هي المعبر عنها بالزيادة، وتفاوتها تدرج في الزيادة، ويجوز أن تسمى قلة التدرج في الأدلة نقصاً لكنه نقص عن الزيادة، وذلك مع مراعاة وجود أصل حقيقة الإيمان، لأنها لو نقصت عن اليقين لبطلت ماهية الأيمان، وقد أشار البخاري إلى هذا بقوله: باب زيادةِ الإيمان ونقصانه فإذا ترك شيئاً من الكمال فهو ناقص فلو أن نقص الأدلة بلغ بصاحبه إلى انخرَام اليقين لم يكن العلم الحاصل له إيماناً، حتى يوصف بالنقص، فهذا هو المراد من وصف الإيمان بالزيادة، في القرآن وكلام الرسول، وهو بين...
وكيفية تأثير تلاوة الآيات في زيادة الإيمان: أن دقائِق الإعجاز التي تحتوي عليها آيات القرآن تزيد كل آية تنزل منها أو تتكرر على الأسماع سامعها يقيناً بأنها من عند الله، فتزيده استدلالاً على ما في نفسه، وذلك يُقوي الإيمان حتى يصل إلى مرتبة تقرب من الضرورة على نحو ما يحصل في تواتر الخبر من اليقين بصدق المخبرين، ويحصل مع تلك الزيادة زيادة في الإقبال عليها بشراشر القلوب ثم في العمل بما تتضمنه من أمر أو نهي، حتى يحصل كمال التقوى، فلا جرم كان لكل آية تتلى على المؤمنين زيادة في عوارض الإيمان من قوة اليقين وتكثير الأعمال فهذا وصف راسخ للآيات ويجوز أن تفسر زيادة الإيمان عند تلاوة الآيات بأنها زيادة إدراك للمعاني المؤمن بها، كما فسرت زيادة الإيمان بالنسبة إلى الأعمال، التي تجب على المؤمن إذ تلك الإدراكات تعلقات بعضها حسي وبعضها عقلي. وحظ المقام المتعلق بأحكام الأنفال من هذه الزيادة هو أن سماع آيات حكم الأنفال يزيد إيمان المؤمنين قوة، بنبذ الشقاق والتشاجر الطارئ ببينهم في أنفس الأموال عندهم، وهو المال المكتسب من سيوفهم، فإنه أحب أموالهم إليهم...
وبذلك تتضح المناسبة بين ذكر حكم الأنفال، وتعقيبه بالأمر بالتقوى وإصلاح ذات البين والطاعة، ثم تعليل ذلك بأن شأن المؤمنين ازدياد إيمانهم عند تلاوة آيات الله. {وعلى ربهم يتوكلون} صلة ثالثة ل {المؤمنون} أحوال منه، وجعلت فعلاً مضارعاً للدلالة على تكرر ذلك منهم،...
ومناسبة هذا الوصف للغرض: أنهم أمروا بالتخلي عن الأنفال، والرضى بقسمة الرسول صلى الله عليه وسلم فيها، فمن كان قد حرم من نفل قتيله يتوكلُ على الله في تعويضه بأحسن منه.
وتقديم المجرور في قوله: {وعلى ربهم يتوكلون} إما للرعاية على الفاصلة فهو من مقتضيات الفصاحة مع ما فيه من الاهتمام باسم الله، وإما للتعريض بالمشركين، لأنهم يتوكلون على إعانة الأصنام، قال تعالى: {واتخذوا من دون الله آلهةً ليكونوا لهم عزاً} [مريم: 81] فيكون الكلام مدحاً للمؤمنين، وتعريضاً بذم المشركين، ثم فيه تحذير من أن تبقى في نفوس المؤمنين آثار من التعلق بما نهوا عن التعلق به، لتوهمهم أنهم إذا فوّتوه فقد أضاعوا خيراً من الدنيا.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
كان الكلام في الآية السابقة عن تقوى الله وطاعته وطاعة رسوله بعد المشاجرة اللفظية بين بعض المسلمين في شأن الغنائم.
وإكمالا لهذا الموضوع فالآيات محل البحث تذكر صفات المؤمنين بحق في عبارات موجزة غزيرة المعنى.
فيشير الذكر الحكيم في هذه الآيات إلى خمس صفات بارزة في المؤمنين: ثلاث منها ذات جانب معنوي وروحاني وباطني، واثنتين منها لها جانب عملي وخارجي...
فالثلاث الأُولى عبارة عن «الإحساس بالمسؤولية» و «الإِيمان» و«التوكل».
والاثنتان الأُخريان هما الارتباط بالله، والارتباط بخلق الله سبحانه.
فتقول الآيات أوّلا: (إنّما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم).
و«الوجل» حالة الخوف التي تنتاب الإِنسان، وهو ناشئ عن أحد أمرين: فقد ينشأ عند إدراك المسؤولية واحتمال عدم القيام بالوظائف اللازمة التي ينبغي على الإِنسان أداؤها بأكمل وجه امتثالا لأمر الله تعالى.
وقد ينشأ عند إدراك عظمة مقام الله، والتوجه إلى وجوده المطلق الذي لا نهاية له، ومهابته التي لا حدّ لها.
وتوضيح ذلك: قد يتفق للإِنسان أن يمضي لرؤية شخص عظيم هو بحق جدير بالعظمة من جميع الجوانب، فالإِنسان الذي يمضي لرؤيته قد يقع تحت تأثير ذلك المقام وتلك العظمة، بحيث يحس بنوع من الرهبة في داخله ويضطرب قلبه حتى أنّه لو أراد الكلام لتلعثم، وقد ينسى ما أراد أن يقوله، حتى لو كان ذلك الشخص يحب هذا الإِنسان ويحب الآخرين جميعاً ولم يصدر عنه ما يدعو إلى القلق.
فهذا الخوف والاضطراب أو المهابة مصدرها عظمة ذلك الشخص، يقول القرآن الكريم في هذا الصدد: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله).
كما نقرأ في آية أُخرى من قوله تعالى: (إنّما يخشى الله من عباده العلماء).
وهكذا فإن العلاقة قائمة بين العلم والخوف أيضاً، وبناءً على ذلك فمن الخطأ أن نعدّ أساس الخوف والخشية عدم أداء الوظائف المطلوبة فحسب.
ثمّ تبيّن الآية الصفة الثّانية للمؤمنين فتقول: (وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً).
إنّ النمو والتكامل من خصائص جميع الموجودات الحية، فالموجودات الفاقد للنمو والتكامل إمّا أن يكون ميتاً أو في طريقه إلى الموت. والمؤمنون حقّاً لهم إيمان حيّ ينمو غرسه يوماً بعد يوم بسقيه من آيات الله، وتفتح أزهاره وبراعمه، ويؤتي ثماره أكثر فأكثر، فهم ليسوا كالموتى من الجمود وعدم التحرك، ففي كل يوم جديد يكون لهم فكر جديد وتكون صفاتهم مشرقة جديدة...
وهذه الدّرجات مبهمة لم يعين مقدارها وميزانها، وهذا الإِبهام يشير إلى أنّها درجات كريمة عالية.
وللمؤمنين إضافة لدرجاتهم رحمة من الله ومغفرة ورزق كريم.
والحق أنّنا نحن المسلمين الذين ندّعي الإسلام وقد نرى أنفسنا أُولي فضل على الإسلام والقرآن، نتهم القرآن والإِسلام جهلا بأنّهما سبب التأخر والانحطاط، وتُرى لو أنّنا طبقنا فقط مضامين هذه الآيات محل البحث على أنفسنا و التي تمثل صفات المؤمنين بحق، ولم نتكل على هذا وذاك، وأن نطوي كل يوم مرحلة جديدة من الإِيمان والمعرفة، وأن نحس دائماً بالمسؤولية لتقوية علاقتنا بالله وبعباده فننفق ما رزقنا الله في سبيل تقدم المجتمع، أنكون بمثل ما نحن عليه اليوم؟!
وينبغي ذكر هذا الموضوع أيضاً، وهو أنّ الإِيمان ذو مراحل ودرجات، فقد يكون ضعيفاً في بعض مراحله حتى أنّه لا يبدو منه أي شيء عملي مؤثر، أو يكون ملوّثاً بكثير من السيّئات. إلاّ أنّ الإِيمان المتين الراسخ من المحال أن يكون غير بناءً أو غير مؤثر وما يراه البعض من أن العمل ليس جزءاً من الإِيمان، فلاقتصارهم على أدنى مراحل الإِيمان.