الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَإِذَا تُلِيَتۡ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُهُۥ زَادَتۡهُمۡ إِيمَٰنٗا وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ} (2)

فيه ثلاث مسائل :

الأولى - قال العلماء : هذه الآية تحريض على إلزام طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أمر به من قسمة تلك الغنيمة . والوجل : الخوف . وفي مستقبله أربع لغات : وجل يوجل وياجل وييجل وييجل ، حكاه سيبويه . والمصدر وجل جلا وموجلا ، بالفتح . وهذا موجله ( بالكسر ) للموضع والاسم . فمن قال : ياجل في المستقبل جعل الواو ألفا لفتحة ما قبلها . ولغة القرآن الواو " قالوا لا توجل " {[7578]} [ الحجر : 53 ] . ومن قال : " ييجل " بكسر الياء فهي على لغة بني أسد ، فإنهم يقولون : أنا إيجل ، ونحن نيجل ، وأنت تيجل ، كلها بالكسر . ومن قال : " ييجل " بناه على هذه اللغة ، ولكنه فتح الياء كما فتحوها في يعلم ، ولم تكسر الياء في يعلم لاستثقالهم الكسر على الياء . وكسرت في " ييجل " لتقوي إحدى الياءين بالأخرى . والأمر منه " إيجل " صارت الواو ياء الكسرة ما قبلها . وتقول : إني منه لأوجل . ولا يقال في المؤنث : وجلاء : ولكن وجلة . وروى سفيان عن السدي في قوله جل وعز : " الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم " قال : إذا أراد أن يظلم مظلمة قيل له : اتق الله ، ووجل قلبه .

الثانية - وصف الله تعالى المؤمنين في هذه الآية بالخوف والوجل عند ذكره . وذلك لقوة إيمانهم ومراعاتهم لربهم ، وكأنهم بين يديه . ونظير هذه الآية " وبشر المخبتين . الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم{[7579]} " [ الحج : 34 ، 35 ] . وقال : " وتطمئن قلوبهم بذكر الله{[7580]} " [ الرعد : 28 ] . فهذا يرجع إلى كمال المعرفة وثقة القلب . والوجل : الفزع من عذاب الله ، فلا تناقض . وقد جمع الله بين المعنيين في قوله " الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله{[7581]} " [ الزمر : 23 ] . أي تسكن نفوسهم من حيث اليقين إلى الله وإن كانوا يخافون الله . فهذه حالة العارفين بالله ، الخائفين من سطوته وعقوبته ، لا كما يفعله جهال العوام والمبتدعة الطغام{[7582]} من الزعيق والزئير ومن النهاق الذي يشبه نهاق الحمير . فيقال لمن تعاطى ذلك وزعم أن ذلك وجد وخشوع : لم تبلغ أن تساوي حال الرسول ولا حال أصحابه في المعرفة بالله ، والخوف منه ، والتعظيم لجلاله ، ومع ذلك فكانت حالهم عند المواعظ الفهم عن الله والبكاء خوفا من الله . ولذلك وصف الله أحوال أهل المعرفة عند سماع ذكره وتلاوة كتابه فقال : " وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين{[7583]} " [ المائدة : 83 ] . فهذا وصف حالهم وحكاية مقالهم . ومن لم يكن كذلك فليس على هديهم ولا على طريقتهم ، فمن كان مستنا فليستن ، ومن تعاطى أحوال المجانين والجنون فهو من أخسهم حالا ، والجنون فنون . روى مسلم عن أنس بن مالك أن الناس سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه{[7584]} في المسألة ، فخرج ذات يوم فصعد المنبر فقال : " سلوني لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم ما دمت في مقامي هذا " . فلما سمع ذلك القوم أرموا{[7585]} ورهبوا أن يكون بين يدي{[7586]} أمر قد حضر . قال أنس : فجعلت ألتفت يمينا وشمالا فإذا كل إنسان لاف رأسه في ثوبه يبكي . وذكر الحديث . وروى الترمذي وصححه عن العرباض بن سارية قال : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون ، ووجلت منها القلوب . الحديث . ولم يقل : زعقنا ولا رقصنا ولا زفنا{[7587]} ولا قمنا .

الثالثة - قوله تعالى : " زادتهم إيمانا " أي تصديقا . فإن إيمان هذه الساعة زيادة على إيمان أمس ، فمن صدق ثانيا وثالثا فهو زيادة تصديق بالنسبة إلى ما تقدم . وقيل : هو زيادة انشراح الصدر بكثرة الآيات والأدلة ، وقد مضى هذا المعنى في " آل عمران " . " وعلى ربهم يتوكلون " تقدم معنى التوكل في " آل عمران{[7588]} " أيضا .


[7578]:راجع ج 10 ص 34
[7579]:راجع ج 12 ص 58 فما بعد.
[7580]:راجع ج 9 ص 314 فما بعد
[7581]:راجع ج 15 ص 248.
[7582]:الطغام والطغامة: أرذال الناس وأوغادهم.
[7583]:راجع ج 6 ص 258
[7584]:أي أكثروا عليه. وأحفى في السؤال وألحف بمعنى الخ.
[7585]:أرم الرجل إرماما: إذا سكت فهو مرم.
[7586]:زيادة عن صحيح مسلم.
[7587]:زفن (من باب ضرب) رقص، وأصله الدفع الشديد والضرب بالرجل: كما يفعل الراقص.
[7588]:راجع ج 4 ص 280 و 189