الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَإِذَا تُلِيَتۡ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُهُۥ زَادَتۡهُمۡ إِيمَٰنٗا وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ} (2)

وقوله سبحانه : { إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ . . . } [ الأنفال : 2 ] .

{ إِنَّمَا } لفظ لا تُفَارِقُهُ المُبَالَغَةُ والتأكيد ؛ حيث وقع ، ويصلح مع ذلك لِلْحَصْرِ ، بحسب القرينة ، فقوله هنا : { إِنَّمَا المؤمنون } ظاهرها أنَّها للمبالغة والتأكيد فقط ، أي الكاملون .

قال الشَّيْخُ أبو عَبْدُ اللَّه محمد بن محمد بن أحمد الأَنْصَارِيّ الساحلي المالقي في كتابه الذي ألَّفَهُ في «السلوك » : واعلم أن الإنْسَانَ مطلوب بطَهَارَة نفسه ، وتزكيتها ، وطُرُقُ التزكية وإن كَثُرَتْ ، فطريق الذِّكْرِ أسرع نفعاً ، وأقرب مَرَاماً ، وعليه دَرَجَ أكثر مشائخ التربية ، ثم قال : والذِّكْرُ ضد النسيان ، والمطلوب منه عِمَارَةُ الباطن باللَّهِ تعالى في كل زمان ، ومع كل حال ؛ لأن الذِّكْرَ يَدُلُّ على المذكور لا محالة ، فذكره ديدنا يوجب المَحَبَّةَ له ، والمعرفة به ، والذكر وإن اختلفت ألفاظه ومعانيه ، فلكل معنًى معانيه اختصاص بنوعٍ من التَّحْلِيَةِ والتخلية ، والتزكية ، ثم قال : الذِّكْرُ على قسمين : ذكر العامة ، وذِكْرُ الخاصة . أما ذِكْرُ العامة ، هو ذِكْرُ الأجور ، فهو أن يذكر العَبْدُ مَوْلاَهُ بما شاء من ذِكْرِهِ لا يقصد غير الأجور والثواب ، وأما ذكر الخَاصَّة ، فهو ذِكْرُ الحضور ، وهو أن يذكر العَبْدُ مَوْلاَهُ بأذكار مَعْلُومَةٍ ، على صفة مَخْصُوصَةٍ ؛ لِينال بذلك المَعْرِفَةَ باللَّهِ سبحانه بطهارة نَفْسِهِ من كل خُلُقٍ ذَمِيمٍ ، وتحليتها بكل خُلُق كريم . انتهى .

و{ وَجِلَتْ } معناه : فَزِعَتْ ، وَرَقَّتْ ، وخافت ، وبهذه المعاني فسرتها العُلَمَاءُ .

و{ تُلِيَتْ } معناه : سُرِدَتْ ، وقرئت ، والآيات هنا : القرآن المَتْلُوُّ .

ومن كلام صاحب «الكلم الفارقية » : إن تَيَقَّظْتَ يقظة قلبية ، وانْتَبَهْتَ انتباهة حقيقية لم تر في وَقْتِكَ سَعَةً لغير ذِكْرِ ربك ، واستشعار عظمته ، ومهابته ، والإِقبال على طاعته ، ما في وَقْتِ العاقل فَضْلَةٌ في غير ما خُلِقَ له من عبادة خالقه ، والاهتمام بمَصَالِحِ آخرته ، والاستعداد لمَعَادِهِ ، أعرف العبيد بجلالِ مَوْلاَهُ أَخْلاَهُمْ عما سواه ، وأكثرهم لَهَجاً بذكره ، وتعظيماً لأمره ، وأحسنهم تَأَمُّلاً لآثار صنعته ، وبدائع حِكْمته ، وأشدهم شَوْقاً إلى لقائه ، ومشاهدته انتهى .

وزيادة الإيمان على وجوه كلها خَارِجٌ ، عن نَفْسِ التصديق : منها أن المؤمن إذا كان لم يسمع حُكْماً من أحكام اللَّه عز وجل في القرآن ، فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعه ، فآمن به ، زاد إيماناً إلى سائر ما قد آمن به ؛ إذ لكل حُكْم تَصْدِيقٌ خاص ، وهذا يَتَرتَّبُ فيمن بَلَغَهُ ما لم يكن عنده من الشرع إلى يوم القِيَامَةِ ، وترتب زيادة الإِيمان بزيادة الدَّلاَئِلِ ، ولهذا قال مالك : الإِيمان يَزِيدُ ولا ينقص ، ويترتب بِزِيَادَةِ الأعمال البَرَّةِ على قول من يَرَى أنَّ لَفْظَةَ الإيمان واقعة على التَّصْدِيقِ والطاعات ، وهؤلاء يقولون : يزيد وينقص .

وقوله سبحانه : { وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } عبارة جامعة لِمَصَالِحِ الدنيا والآخرة ، إذا اعتبرت وعمل بحسبها في أن يَمْتَثِلَ الإنسان ما أمر به ، ويبلغ في ذلك أَقْصَى جهده دون عجز ، وينتظر بعدما وعد به من نَصْرٍ ، أو رزق ، أو غيره ، وهذه أَوْصَافٌ جَمِيلَةٌ وَصَفَ اللَّه بها فُضَلاَءَ المؤمنين ، فجعلها غاية للأُمَّةِ يَسْتَبِقُ إِليها الأَفَاضِلُ ،