وفي ظل هذه القصة بفصولها جميعا . في الدنيا حيث وقفت أمة الرسل في مواجهة الجاهلية الظالمة :
( واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد . من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد . يتجرعه ولا يكاد يسيغه ، ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ ) . .
وفي الآخرة حيث شاهدنا ذلك المشهد الفريد : مشهد الذين استكبروا والضعفاء والشيطان ، مع ذلك الحوار العجيب . .
في ظل تلك القصة ومصائر الأمة الطيبة ، والفرقة الخبيثة ، يضرب الله مثل الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة ، لتصوير سنته الجارية في الطيب والخبيث في هذه الحياة ، فتكون خاتمة كتعليق الراوية على الرواية بعد إسدال الستار :
( ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة ، أصلها ثابت وفرعها في السماء ، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون . ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار . . )
( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ؛ ويضل الله الظالمين ؛ ويفعل الله ما يشاء ) . .
إن مشهد الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء . . والكلمة الخبيثة كالشجرة الخبيثة ، اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار . . هو مشهد مأخوذ من جو السياق ، ومن قصة النبيين والمكذبين ، ومصير هؤلاء وهؤلاء بوجه خاص .
وقوله : ألَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ألم تر يا محمد بعين قلبك فتعلم كيف مثّل الله مثلاً وشبّه شبها كلمة طيبة ، ويعني بالطيبة : الإيمان به جلّ ثناؤه : كشجرة طيبة الثمرة ، وترك ذكر الثمرة استغناء بمعرفة السامعين عن ذكرها بذكر الشجرة . وقوله : أصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السّماءِ يقول عزّ ذكره : أصل هذه الشجرة ثابت في الأرض ، وفرعها ، وهو أعلاها في السماء : يقول : مرتفع علوا نحو السماء .
ألم تر كيف ضرب الله مثلا } كيف اعتمده ووضعه . { كلمة طيّبة كشجرة طيّبة } أي جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة ، وهو تفسير لقوله { ضرب الله مثلا } ، ويجوز أن تكون { كلمة } بدلا من { مثلا } و{ شجرة } صفتها أو خبر مبتدأ محذوف أي هي { كشجرة } ، وأن تكون أول مفعولي ضرب إجراء له مجرى جعل وقد قرئت بالرفع على الابتداء . { أصلها ثابت } في الأرض ضارب بعروقه فيها . { وفرعها } وأعلاها . { في السماء } ويجوز أن يريد وفروعها أي أفنائها على الاكتفاء بلفظ الجنس لاكتسابه الاستغراق من الإضافة . وقرئ " ثابت أصلها " والأول على أصله ولذلك قيل إنه أقوى ولعل الثاني أبلغ .
قوله : { ألم تر } بمعنى ألم تعلم ، و { مثلاً } مفعول بضرب ، و { كلمة } مفعول أول بها ، و { ضرب } هذه تتعدى إلى مفعولين ، لأنها بمنزلة جعل ونحوه إذ معناها : جعل ضربها . وقال المهدوي : { مثلاً } مفعول ، و { كلمة } بدل منه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا على أنها تتعدى إلى مفعول واحد ، وإنما أوهم في هذا قلة التحرير في { ضرب } هذه .
والكاف في قوله : { كشجرة } في موضع الحال ، أي مشبهة شجرة .
قال القاضي أبو محمد : وقال ابن عباس وغيره : «الكلمة الطيبة » هي لا إله إلا الله ، مثلها الله ب «الشجرة الطيبة » ، وهي النخلة في قول أكثر المتأولين ، فكأن هذه الكلمة { أصلها ثابت } في قلوب المؤمنين ، وفضلها وما يصدر عنها من الأفعال الزكية والحسنة وما يتحصل من عفو الله ورحمته - هو فرعها يصعد إلى السماء من قبل العبد ، ويتنزل بها من قبل الله تعالى .
وقرأ أنس بن مالك «ثابت أصلها »{[7060]} وقالت فرقة : إنما مثل الله ب «الشجرة الطيبة » المؤمن نفسه ، إذ «الكلمة الطيبة » لا تقع إلا منه ، فكأن الكلام كلمة طيبة وقائلها . وكأن المؤمن ثابت في الأرض وأفعاله وأقواله صاعدة ، فهو كشجرة فرعها في السماء ، وما يكون أبداً من المؤمن من الطاعة ، أو عن الكلمة من الفضل والأجر والغفران هو بمثابة الأكل الذي تأتي به كل حين .
وقوله عن الشجرة { وفرعها في السماء } أي في الهواء نحو السماء ، والعرب تقول عن المستطيل نحو الهواء ، وفي الحديث : «خلق الله آدم طوله في السماء ستون ذراعاً »{[7061]} ، وفي كتاب سيبويه : والقيدودة : الطويل في غير سماء{[7062]} .
قال القاضي أبو محمد : كأنه انقاد وامتد .
وقال أنس بن مالك وابن مسعود وابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد : «الشجرة الطيبة » في هذه الآية هي النخلة ، وروي ذلك في أحاديث {[7063]}وقال ابن عباس أيضاً : هي شجرة في الجنة .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن تكون شجرة غير معينة إلا أنها كل ما اتصف بهذه الصفات{[7064]} فيدخل في ذلك النخلة وغيرها . وقد شبه الرسول عليه السلام المؤمن الذي يقرا القرآن بالأترجة{[7065]} ، فلا يتعذر أيضاً أن يشبه بشجرتها .