59- لقد اقترح عليك قومك أن تأتيهم بالآيات والمعجزات ، ولم يقنعوا بما آتاهم مما يقنع ذوى الألباب ، وقد جرت سنتنا مع من يقترح الآيات ثم يجاب إليها ولا يؤمن بها أن نستأصله بالعذاب كما فعلنا بالأولين . ومنهم ثمود ، إذ اقترحوا آيات ، فكانت الناقة معجزة مضيئة نيرة واضحة مجلية للشك والريب فكفروا بها ، فكان ما كان من أمرهم ، وكان من حكمة الله ألا يجيب قومك إلى ما طلبوا خشية أن يكفروا بها ، ويرجى منهم مَنْ يؤمن أو يلد مَنْ يؤمن . والآيات إنما نرسل بها إلى الناس تخويفاً وإرهاباً .
وقد كانت الخوارق تصاحب الرسالات لتصديق الرسل وتخويف الناس من عاقبة التكذيب وهي الهلاك بالعذاب . ولكن لم يؤمن بهذه الخوارق إلا المستعدة قلوبهم للإيمان ؛ أما الجاحدون فقد كذبوا بها في زمانهم . ومن هنا جاءت الرسالة الأخيرة غير مصحوبة بهذه الخوارق :
( وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون . وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها . وما نرسل بالآيات إلا تخويفا ) .
إن معجزة الإسلام هي القرآن . وهو كتاب يرسم منهجا كاملا للحياة . ويخاطب الفكر والقلب ، ويلبي الفطرة القويمة . ويبقى مفتوحا للأجيال المتتابعة تقرؤه وتؤمن به إلى يوم القيامة . أما الخارقة المادية فهي تخاطب جيلا واحدا من الناس ، وتقتصر على من يشاهدها من هذا الجيل .
على أن كثرة من كانوا يشاهدون الآيات لم يؤمنوا بها . وقد ضرب السياق المثل بثمود ، الذين جاءتهم الناقة وفق ما طلبوا واقترحوا آية واضحة . فظلموا بها أنفسهم وأوردوها موارد الهلكة تصديقا لوعد الله بإهلاك المكذبين بالآية الخارقة . وما كانت الآيات إلا إنذارا أو تخويفا بحتمية الهلاك بعد مجيء الآيات .
هذه التجارب البشرية اقتضت أن تجيء الرسالة الأخيرة غير مصحوبة بالخوارق . لأنها رسالة الأجيال المقبلة جميعها لا رسالة جيل واحد يراها . ولأنها رسالة الرشد البشري تخاطب مدارك الإنسان جيلا بعد جيل ، وتحترم إدراكه الذي تتميز به بشريته والذي من أجله كرمه الله على كثير من خلقه .
{ وَمَا مَنَعَنَآ أَن نّرْسِلَ بِالاَيَاتِ إِلاّ أَن كَذّبَ بِهَا الأوّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالاَيَاتِ إِلاّ تَخْوِيفاً } .
يقول تعالى ذكره : وما منعنا يا محمد أن نرسل بالاَيات التي سألها قومك ، إلا أن كان من قبلهم من الأمم المكذّبة ، سألوا ذلك مثل سؤالهم فلما أتاهم ما سألوا منه كذّبوا رسلهم ، فلم يصدّقوا مع مجيء الاَيات ، فعوجلوا فلم نرسل إلى قومك بالاَيات ، لأنّا لو أرسلنا بها إليها ، فكذّبوا بها ، سلكنا في تعجيل العذاب لهم مسلك الأمم قبلها . وبالذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد وابن وكيع ، قالا : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن جعفر بن أياس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : سأل أهل مكة النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا ، وأن ينحي عنهم الجبال ، فيزرعوا ، فقيل له : إن شئت أن نستأني بهم لعلنا نجتني منهم ، وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا ، فإن كفروا أهلكوا كما أهلك من قبلهم ، قال : «بل تستأني بهم » ، فأنزل الله : وَما مَنَعَنا أنْ نُرْسِلَ بالاَياتِ إلاّ أنْ كَذّبَ بِها الأوّلُونَ وآتَيْنا ثَمُودَ النّاقَةَ مُبْصِرَةً .
حدثني إسحاق بن وهب ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا مسعود بن عباد ، عن مالك بن دينار ، عن الحسن في قول الله تعالى وَما مَنَعَنَا أنْ نُرْسِلَ بالاَياتِ إلاّ أنْ كَذّبَ بِها الأوّلُونَ قال : رحمة لكم أيتها الأمة ، إنا لو أرسلنا بالاَيات فكذّبتم بها ، أصابكم ما أصاب من قبلكم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير ، قال : قال المشركون لمحمد صلى الله عليه وسلم : يا محمد إنك تزعم أنه كان قبلك أنبياء ، فمنهم من سخرت له الريح ، ومنهم من كان يحيي الموتى ، فإن سرّك أن نؤمن بك ونصدّقك ، فادع ربك أن يكون لنا الصفا ذهبا ، فأوحى الله إليه : إني قد سمعت الذي قالوا ، فإن شئت أن نفعل الذي قالوا ، فإن لم يؤمنوا نزل العذاب ، فإنه ليس بعد نزول الاَية مناظرة ، وإن شئت أن تستأني قومك استأنيت بها ، قال : «يا ربّ أستأني » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَما مَنَعَنا أنْ نُرْسِلَ بالاَياتِ إلاّ أنْ كَذّبَ بِها الأوّلُونَ قال : قال أهل مكة لنبيّ الله صلى الله عليه وسلم : إن كان ما تقول حقا ، ويسرّك أن نؤمن ، فحوّل لنا الصفا ذهبا ، فأتاه جبرئيل عليه السلام ، فقال : إن شئت كان الذي سألك قومك ، ولكنه إن كان ثم لم يؤمنوا لم يناظروا ، وإن شئت استأنيت بقومك ، قال : «بَلِ أسْتَأْنِي بقَومْي » فأنزل الله : وآتَيْنا ثَمُودَ النّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وأنزل الله عزّ وجلّ ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أهْلَكْناها أفَهُمْ يُؤْمِنُونَ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، أنهم سألوا أن يحوّل الصفا ذهبا ، قال الله : وَما مَنَعَنا أنْ نُرْسِلَ بالاَياتِ إلاّ أنْ كَذّبَ بِها الأوّلُونَ قال ابن جريج : لم يأت قرية بآية فيكذّبوا بها إلا عذّبوا ، فلو جعلت لهم الصفا ذهبا ثم لم يؤمنوا عذّبوا . و«أن » الأولى التي مع مَنَعَنا ، في موضع نصب بوقوع منعنا عليها ، وأن الثانية رفع ، لأن معنى الكلام : وما منعنا إرسال الاَيات إلا تكذيب الأوّلين من الأمم ، فالفعل لأن الثانية .
يقول تعالى ذكره : وقد سأل الاَيات يا محمد من قِبَل قومك ثمود ، فآتيناها ما سألت ، وجعلنا تلك الاَية ناقة مبصرة . جعل الإبصار للناقة ، كما تقول للشجة : موضحة ، وهذه حجة مبينة . وإنما عنى بالمبصرة : المضيئة البينة التي من يراها كانوا أهل بصر بها ، أنها لله حجة ، كما قيل : والنهارَ مُبْصِرا كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وآتَيْنا ثَمُودَ النّاقَةَ مُبْصِرَةً : أي بيّنة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله عزّ ذكره النّاقَةَ مُبْصِرَةً قال : آية .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
وقوله : فَظَلَمُوا بِها يقول عزّ وجلّ : فكان بها ظلمهم ، وذلك أنهم قتلوها وعقروها ، فكان ظلمهم بعقرها وقتلها . وقد قيل : معنى ذلك : فكفروا بها ، ولا وجه لذلك إلا أن يقول قائله أراد : فكفروا بالله بقتلها ، فيكون ذلك وجها .
وأما قوله : وَما نُرْسِلُ بالاَياتِ إلاّ تَخْوِيفا فإنه يقول : وما نرسل بالعبر والذكر إلا تخويفا للعباد ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَما نُرْسِلُ بالاَياتِ إلاّ تَخْوِيفا وإن الله يخوّف الناس بما شاء من آية لعلهم يعتبرون ، أو يذكّرون ، أو يرجعون ، ذُكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود ، فقال : يأيها الناس إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا نوح بن قيس ، عن أبي رجاء ، عن الحسن وَما نُرْسلُ بالاَياتِ إلاّ تَخْوِيفا قال : الموت الذريع .
{ وما منعنا أن نُرسل بالآيات } ما صرفنا عن إرسال الآيات التي اقترحها قريش . { إلا أن كذّب بها الأوّلون } إلا تكذيب الأولين الذين هم أمثالهم في الطبع كعاد وثمود ، وأنها لو أرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك ، واستوجبوا الاستئصال على ما مضت به سنتنا وقد قضينا أن لا نستأصلهم ، لأن منهم من يؤمن أو يلد من يؤمن . ثم ذكر بعض الأمم المهلكة بتكذيب الآيات المقترحة فقال : { وآتينا ثمود الناقة } بسؤالهم . { مبصرة } بينة ذات أبصار أو بصائر ، أو جاعلتهم ذوي بصائر وقرئ بالفتح . { فظلموا بها } فكفروا بها ، أو فظلموا أنفسهم بسبب عقرها . { وما نرسل بالآيات } أي بالآيات المقترحة . { إلا تخويفا } من نزول العذاب المستأصل ، فإن لم يخافوا نزل أو بغير المقترحة كالمعجزات وآيات القرآن إلا تخويفا بعذاب الآخرة ، فإن أمر من بعثت إليهم مؤخر إلى يوم القيامة ، والباء مزيدة أو في موقع الحال والمفعول محذوف .
وقوله تعالى : { وما منعنا أن نرسل } الآية ، هذه العبارة في معناها هي على ظاهر ما تفهم العرب ، فسمى سبق قضائه بتكذيب من كذب وتعذيبه منعاً ، وأن الأولى في موضع نصب ، والثانية في موضع رفع ، والتقدير : وما منعنا الإرسال إلا التكذيب ، وسبب هذه الآية أن قريشاً اقترحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً ، واقترح بعضهم أن يزيل عنهم الجبال حتى يزرعوا الأرض ، فأوحى الله إلى محمد عليه السلام ، إن شئت أن أفعل ذلك لهم ، فإن تأخروا عن لاإيمان عاجلتهم العقوبة ، وإن شئت استأنيت بهم ، عسى أن أجتبي منهم مؤمنين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بل تستأني بهم يا رب » ، فأخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لم يمنعه من إرسال الآيات المقترحة إلا الاستيناء ، إذ قد سلفت عادته بمعالجة الأمم الذين جاءتهم الآيات المقترحة فلم يؤمنوا ، قال الزجاج : أخبر تعالى أن موعد كفار هذه الأمة الساعة ، بقوله { بل الساعة موعدهم }{[7611]} ، فهذه الآية تنظر إلى ذلك ، ثم ذكر أمر ثمود ، احتجاجاً إن قال منهم قائل نحن كنا نؤمن لو جاءتنا آية اقترحناها ولا نكفر بوجه ، فذكر الله تعالى ثمود ، بمعنى : لا تؤمنون إن تظلموا بالآية كما ظلمت ثمود بالناقة ، وقرأ الجمهور : «ثمود » بغير تنوين ، قال هارون : أهل الكوفة ينونون «ثموداً » في كل وجه ، قال أبو حاتم : لا تنون العامة والعلماء بالقرآن «ثمود » في وجه من الوجوه ، وفي أربعة مواطن ألف مكتوبة ، ونحن نقرؤها بغير ألف ، وقوله { مبصرة } على جهة النسب أي معها إبصار ، كما قال : { آية النهار مبصرة }{[7612]} أي معها إبصار ممن ينظر ، وهذا عبارة عن بيان أمرها ، ووضوح إعجازها ، وقرأ قوم «مُبصَرة » بضم الميم وفتح الصاد ، حكاه الزجاج ، ومعناه متبينة ، وقرأ قتادة «مَبصَرة » بفتح الميم والصاد ، وهي مَفعَلة من البصر ومثله قول عنترة : [ الكامل ] .
الكفر مخبثة لنفس المنعم{[7613]} . . . وقوله { فظلموا بها } أي وضعوا الفعل غير موضعه ، أي بعقرها ، وقيل بالكفر في أمرها ، ثم أخبر الله تعالى أنه إنما يرسل { بالآيات } غير المقترحة { تخويفاً } للعباد ، وهي آيات معها إمهال لا معاجلة ، فمن ذلك الكسوف والرعد والزلزلة وقوس قزح وغير ذلك ، قال الحسن والموت الذريع{[7614]} ، وروي أن الكوفة رجفت في مدة عبد الله بن مسعود . فقال : أيها الناس إن ربكم يستعتبكم فاعتبوه ، ومن هذا قول النبي علي السلام في الكسوف : «فافزعوا إلى الصلاة » الحديث{[7615]} ، وآيات الله المعتبر بها ثلاثة أقسام : فقسم عام في كل شيء إذ حيثما وضعت نظرك وجدت آية ، وهنا فكرة العلماء ، وقسم معتاد غباً كالرعد والكسوف ونحوه ، وهنا فكرة الجهلة فقط ، وقسم خارق للعادة وقد انقضى بانقضاء النبوءة ، وإنما يعتبر به توهماً لما سلف منه .