فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرۡسِلَ بِٱلۡأٓيَٰتِ إِلَّآ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلۡأَوَّلُونَۚ وَءَاتَيۡنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبۡصِرَةٗ فَظَلَمُواْ بِهَاۚ وَمَا نُرۡسِلُ بِٱلۡأٓيَٰتِ إِلَّا تَخۡوِيفٗا} (59)

{ وَمَا مَنَعَنَا أَن نُرْسِلَ بالآيات وَلاَ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون } قال المفسرون : إن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً وأن ينحي عنهم جبال مكة ، فأتاه جبريل فقال : إن شئت كان ما سأل قومك ، ولكنهم إن لم يؤمنوا بها يمهلوا وإن شئت استأنيت بهم ، فأنزل الله هذه الآية . والمعنى : وما منعنا من إرسال الآيات التي سألوها إلاّ تكذيب الأوّلين ، فإن أرسلناها وكذب بها هؤلاء عوجلوا ولم يمهلوا كما هو سنّة الله سبحانه في عباده ، فالمنع مستعار للترك ، والاستثناء مفرّغ من أعمّ الأشياء ، أي : ما تركنا إرسالها لشيء من الأشياء إلاّ تكذيب الأوّلين ، فإن كذب بها هؤلاء كما كذب بها أولئك لاشتراكهم في الكفر والعناد حلّ بهم ما حلّ بهم ، و«أن » الأولى في محل نصب [ بإيقاع ] المنع عليها ، و«أن » الثانية في محل رفع ، والباء في { بالآيات } زائدة . والحاصل : أن المانع من إرسال الآيات التي اقترحوها هو أن الاقتراح مع التكذيب موجب للهلاك الكلي وهو الاستئصال ، وقد عزمنا على أن نؤخر أمر من بعث إليهم محمد إلى يوم القيامة ؛ وقيل : معنى الآية : إن هؤلاء الكفار من قريش ونحوهم مقلدون لآبائهم فلا يؤمنون ألبتة كما لم يؤمن أولئك ، فيكون إرسال الآيات ضائعاً ، ثم إنه سبحانه استشهد على ما ذكر بقصة صالح وناقته ، فإنهم لما اقترحوا عليه ما اقترحوا من الناقة وصفتها التي قد بينت في محل آخر ، وأعطاهم الله ما اقترحوا فلم يؤمنوا استؤصلوا بالعذاب . وإنما خصّ قوم صالح بالاستشهاد ، لأن آثار إهلاكهم في بلاد العرب قريبة من قريش وأمثالهم يبصرها صادرهم وواردهم فقال : { وآتينا ثمود الناقة مبصرة } أي : ذات إبصار يدركها الناس بأبصارهم كقوله : { وجعلنا آية النهار مبصرة } [ الإسراء : 12 ] أو أسند إليها حال من يشاهدها مجازاً ، أو أنها جعلتهم ذوي إبصار ، من أبصره جعله بصيراً . وقرئ على صيغة المفعول . وقرئ بفتح الميم والصاد وانتصابها على الحال . وقرئ برفعها على أنها خبر مبتدأ محذوف ، والجملة معطوفة على محذوف يقتضيه سياق الكلام أي : فكذبوها وآتينا ثمود الناقة ، ومعنى { فَظَلَمُوا بِهَا } فظلموا بتكذيبها أو على تضمين ظلموا معنى جحدوا أو كفروا أي : فجحدوا بها أو كفروا بها ظالمين ولم يكتفوا بمجرد الكفر أو الجحد { وَمَا نُرْسِلُ بالآيات إِلاَّ تَخْوِيفًا } اختلف في تفسير { بالآيات } على وجوه : الأوّل : أن المراد بها العبر والمعجزات التي جعلها الله على أيدي الرسل من دلائل الإنذار تخويفاً للمكذبين ؛ الثاني : أنها آيات الانتقام تخويفاً من المعاصي ؛ الثالث : تقلب الأحوال من صغر إلى شباب ثم إلى تكهل ثم إلى شيب ، ليعتبر الإنسان بتقلب أحواله فيخاف عاقبة أمره ؛ الرابع آيات القرآن ، الخامس : الموت الذريع ، والمناسب للمقام أن تفسر الآيات المذكورة بالآيات المقترحة ، أي : لا نرسل الآيات المقترحة إلا تخويفاً من نزول العذاب ، فإن لم يخافوا وقع عليهم . والجملة مستأنفة لا محل لها ، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من ضمير ظلموا بها أي : فظلموا بها ، ولم يخافوا ، والحال أنّ ما نرسل بالآيات التي هي من جملتها إلاّ تخويفاً . قال ابن قتيبة : وما نرسل بالآيات المقترحة إلاّ تخويفاً من نزول العذاب العاجل .

/خ60