نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرۡسِلَ بِٱلۡأٓيَٰتِ إِلَّآ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلۡأَوَّلُونَۚ وَءَاتَيۡنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبۡصِرَةٗ فَظَلَمُواْ بِهَاۚ وَمَا نُرۡسِلُ بِٱلۡأٓيَٰتِ إِلَّا تَخۡوِيفٗا} (59)

ولما كانت كفار قريش تكرر اقتراحهم للآيات بعد أن اشتد أذاهم ، وكان صلى الله عليه وعلى آله وسلم - لشدة حرصه على إيمان كل أحد فكيف بقومه العرب فكيف ببني عمه منهم - ربما أحب أن الله تعالى يجيبهم إلى مقترحهم طمعاً في إيمانهم وإراحة له ولأتباعه من أذاهم ، وكان ما رأوه من آية الإسراء أمراً باهراً ثم لم يؤمنوا ، بل ارتد بعض من كان آمن منهم ، كان المقام في قوة اقتضائه أن يقال بعد ذكر آية العذاب : ما لهم لا يعجل عذابهم أو يجابون إلى مقترحاتهم ليقضى الأمر ؟ فيقال في الجواب : ما منعنا من تعجيل عذابهم إلا أنا ضربنا لهم أجلاً لا بد من بلوغه { وما منعنا } أي على ما لنا من العظمة التي لا يعجزها شيء ولا يمنعها مانع { أن نرسل } أي إرسالاً يظهر عظمتنا على وجه العموم { بالآيات } أي التي اقترحتها قريش ، فكان كأنه لا آيات عندهم سواها { إلا } علمنا في عالم الشهادة بما وقع من { أن كذب بها } أي المقترحات { الأولون } وعلمنا في عالم الغيب أن هؤلاء مثل الأولين في أن الشقي منهم لا يؤمن بالمقترحات كما لم يؤمن بغيرها ، وأنه يقول فيها ما قال في غيرها من أنها سحر ونحو هذا ، والسعيد لا يحتاج في إيمانه إليها ، فكم أجبنا أمة إلى مقترحها فما زاد ذلك أهل الضلالة منهم إلا كفراً ، فأخذناهم لأن سنتنا جرت أنا لا نمهل بعد الإجابة إلى المقترحات من كذب بها ، ونحن قد قضينا برحمة هذه الأمة وتشريفها على الأمم السالفة بعدم استئصالها ، لما يخرج من أصلاب كفرتها من خلص عبادنا ، والمنع هنا مبالغة مراد بها نفي إجابتهم إلى مقترحاتهم ، ولا يجوز أخذه على ظاهره ، لأنه وجود ما يتعذر معه وقوع الفعل من القادر عليه ، ثم عطف على ما دل عليه المقام وهو : فكم أجبنا - إلى آخر ما ذكرته ، قوله تعالى : { وءاتينا } أي بما لنا من العزة الباهرة { ثمود الناقة } حال كونها { مبصرة } أي مضيئة ، جديرة بأن يستبصر بها كل من شاهدها { فظلموا بها } أي فوقعوا في الظلم الذي هو كالظلام بسببها ، بأن لم يؤمنوا ولم يخافوا عاقبتها ، وخص آية ثمود بالذكر تحذيراً بسبب أنهم عرب اقترحوا ما كان سبباً لاستئصالهم ، ولأن لهم من علمها وعلم مساكنهم بقربها إليهم وكونها في بلادهم ما ليس لهم من علم غيرها ، وخص الناقة لأنها حيوان أخرجه من حجر ، والمقام لإثبات القدرة على الإعادة ولو كانوا حجارة أو حديداً ، ودل على سفههم في كلا الأمرين على طريق النشر المشوش بذكر داود عليه السلام إشارة إلى الحديد ، والناقة إشارة إلى الحجارة ، فلله هذه الإشارة ما أدقها‍‍ ! وهذه العبارة ما أجلها وأحقها‍ ! { وما نرسل } أي بما لنا من الجلالة التي هي بحيث تذوب لها الجبال { بالآيات } أي المقترحات وغيرها { إلا تخويفاً * } أي للمرسل إليهم بها ، فإن خافوا نجوا وإلا هلكوا فإذا كشف الأمر لكم في عالم الشهادة عن أنهم لا يخافونها وفق ما كان عندنا في عالم الغيب ، علم أنه لا فائدة لكم فيها .