السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرۡسِلَ بِٱلۡأٓيَٰتِ إِلَّآ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلۡأَوَّلُونَۚ وَءَاتَيۡنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبۡصِرَةٗ فَظَلَمُواْ بِهَاۚ وَمَا نُرۡسِلُ بِٱلۡأٓيَٰتِ إِلَّا تَخۡوِيفٗا} (59)

ولما كان كفار قريش قد تكرر اقتراحهم للآيات وكان صلى الله عليه وسلم لشدة حرصه على إيمان كل أحد يحب أن الله تعالى يجيبهم إلى مقترحهم طمعاً في إيمانهم فأجاب الله تعالى بقوله : { وما منعنا } أي : على ما لنا من العظمة التي لا يعجزها شيء ولا يمنعها مانع { أن نرسل بالآيات } أي : التي اقترحوها كما حكى الله تعالى عنهم ذلك في قولهم { فليأتنا بآية كما أرسل الأوّلون } [ الأنبياء ، 5 ] وقال آخرون { لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً } [ الإسراء ، 90 ] الآيات . وقال سعيد بن جبير : أنهم قالوا إنك تزعم أنه كان قبلك أنبياء منهم من سخرت له الريح ومنهم من أحيا الموتى فأتنا بشيء من هذه المعجزات فكان كأنه لا آيات عندهم سوى ذلك { إلا } علمنا في عالم الشهادة بما وقع من { أن كذب بها } أي : المقترحات { الأولون } وعلمنا في عالم الغيب أنّ هؤلاء مثل الأوّلين أن الشقّي منهم لا يؤمن بالمقترحات كما لم يؤمن بغيرها وأنه يقول فيها ما قال في غيرها من أنها سحر ونحو ذلك ، والسعيد لا يحتاج في إيمانه إليها فكم أجبنا أمّة إلى مقترحها فما زاد ذلك أهل الضلالة منهم إلا كفراً فأخذناهم لأنّ سنتنا جرت أنَّا لا نمهل بعد الإجابة إلى المقترحات من كذب بها . قال ابن عباس : سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً وأن ينحي الجبال عنهم ليزرعوا تلك الأراضي فطلب صلى الله عليه وسلم ذلك من الله تعالى فأوحى الله تعالى إليه إن شئت فعلت ذلك لكن بشرط إن لم يؤمنوا أهلكتهم فقال صلى الله عليه وسلم : «لا أريد ذلك » فتفضل الله تعالى برحمته هذه الأمة وتشريفها على الأمم السالفة بعدم استئصالها لما يخرج من أصلاب كفرتها من خلص عباده ، فلهذا السبب ما أجابهم الله تعالى إلى مطلوبهم فقال جلّ ذكره : { بل الساعة موعدها والساعة أدهى وأمرّ } [ القمر ، 46 ] . ثم ذكر تعالى من تلك الآيات التي اقترحها الأولون ثم كذبوا بها لما أرسلت إليهم فأهلكوا ما ذكره تعالى بقوله تعالى : { آتينا ثمود الناقة } حالة كونها { مبصرة } أي : مضيئة بينة جديرة بأن يستبصر بها كل من شاهدها فيستدل بها على صدق قول ذلك النبيّ { فظلموا بها } أي : ظلموا أنفسهم بتكذيبها . وقال ابن قتيبة : جحدوا بأنها من الله تعالى فأهلكناهم فكيف يتمناها هؤلاء على سبيل الاقتراح والتحكم على الله تعالى ، وخص تعالى هذه الآية بالذكر لأنّ آثار إهلاكهم في بلاد العرب قريبة من حدودهم يبصرها صادرهم وواردهم . ثم قال تعالى : { وما نرسل بالآيات } أي : المقترحات وغيرها { إلا تخويفاً } للمرسل إليهم بها فإن خافوا نجوا وإلا هلكوا بعذاب الاستئصال من كذب بالآيات المقترحات وبعذاب الآخرة من كذب بغيرها كالمعجزات وآيات القرآن فأمر من بعث إليهم مؤخراً إلى يوم القيامة .

فإن قيل : المقصود الأعظم من إظهار الآيات أن يستدل بها على صدق المدّعى فكيف حصل المقصود من إظهارها في التخويف ؟ أجيب : بأنه لما كان هو الحامل والغالب على التصديق فكأنه هو المقصود .