111- إن أولئك الذين أقسموا إذا جاءتهم آية ليؤمنن بها كاذبون ، والله أعلم بإيمانهم ، ولو أننا نزّلنا الملائكة يرونهم رأي العين ، وكلَّمهم الموتى بعد إحيائهم وإخراجهم من قبورهم ، وجمعنا لهم كل شيء مقابلا لهم مواجهاً يبين لهم الحق ، ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله تعالى أن يؤمنوا ، والأكثرون لا يدركون الحق ولا يذعنون له ، لما أصاب قلوبهم من عمياء الجاهلية .
وكذلك تعليقهم الإيمان بإرادتهم ، ومشيئتهم وحدهم ، وعدم الاعتماد على الله من أكبر الغلط ، فإنهم لو جاءتهم الآيات العظيمة ، من تنزيل الملائكة إليهم ، يشهدون للرسول بالرسالة ، وتكليم الموتى وبعثهم بعد موتهم ، وحشر كل شيء إليهم حتى يكلمهم{[301]} { قُبُلًا } ومشاهدة ، ومباشرة ، بصدق ما جاء به الرسول ما حصل منهم الإيمان ، إذا لم يشأ الله إيمانهم ، ولكن أكثرهم يجهلون . فلذلك رتبوا إيمانهم ، على مجرد إتيان الآيات ، وإنما العقل والعلم ، أن يكون العبد مقصوده اتباع الحق ، ويطلبه بالطرق التي بينها الله ، ويعمل بذلك ، ويستعين ربه في اتباعه ، ولا يتكل على نفسه وحوله وقوته ، ولا يطلب من الآيات الاقتراحية ما لا فائدة فيه .
{ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا } كما اقترحوا فقالوا : لولا أنزل علينا الملائكة فأتوا بآياتنا { أو تأتي بالله والملائكة قبيلا } وقبلا جمع قبيل بمعنى كفيل أي : كفلاء بما بشروا به ، وأنذروا به ، أو جمع قبيل الذي هو جمع قبيلة بمعنى جماعات ، أو مصدر بمعنى مقابلة كقبلا وهو قراءة نافع وابن عامر ، وهو على الوجوه حال من كل وإنما جاز ذلك لعمومه . { ما كانوا ليؤمنوا } لما سبق عليهم القضاء بالكفر . { إلا أن يشاء الله } استثناء من أعم الأحوال أي : لا يؤمنون في حال من الأحوال إلا حال مشيئة الله تعالى إيمانهم ، وقيل منقطع وهو حجة واضحة على المعتزلة . { ولكن أكثرهم يجهلون } أنهم لو أوتوا بكل آية لم يؤمنوا فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يشعرون ، ولذلك أسند الجهل إلى أكثرهم مع أن مطلق الجهل يعمهم ، أو ولكن أكثر المسلمين يجهلون أنهم لا يؤمنون فيتمنون نزول الآية طمعا في إيمانهم .
أخبر الله عز وجل في هذه الآية أنه لو أتى بجميع ما اقترحوه من إنزال الملائكة وإحياء سلفهم حسبما كان من اقتراح بعضهم أن يحشر قصي وغيره ، فيخبر بصدق محمد أو يجمع عليهم كل شيء يعقل أن يحشر عليهم ، ما آمنوا إلا بالمشيئة واللطف الذي يخلقه ويخترعه في نفس من شاء لا رب غيره ، وهذا يتضمن الرد على المعتزلة في قولهم بالآيات التي تضطر الكفار إلى الإيمان{[5060]} ، وقال ابن جريج : نزلت هذه الآية في المستهزئين .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : لا يثبت إلا بسند ، وقرأ نافع وابن عامر وغيرهما «قِبَلاً » بكسر القاف وفتح الباء ، ومعناه مواجهة ومعاينة قاله ابن عباس ، وغيره نصبه على الحال ، وقال المبرد : المعنى ناحية كما تقول له قبل فلان دين .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : فنصبه على هذا هو على الظرف ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وغيرهم «قُبُلاً » بضم القاف والباء ، وكذلك قرأ ابن كثير وأبو عمرو هنا ، وقرأ { العذاب قبلاً }{[5061]} مكسورة القاف واختلف في معناه فقال عبد الله بن زيد ومجاهد وابن زيد : «قبل » جمع قبيل أي صنفاً صنفاً ونوعاً نوعاً كما يجمع قضيب على قضب وغيره ، وقال الفراء والزجّاج هو جمع قبيل وهو الكفيل ، أي : وحشرنا عليهم كل شيء كفلاء بصدق محمد ، وذكره الفارسي وضعفه ، وقال بعضهم : ُقبل الضم بمعنى قبل بكسر القاف أي مواجهة كما تقول قبل ودبر ، ومنه قوله تعالى : { قدّ من قبل }{[5062]} ومنه قراءة ابن عمر { لقبل عدتهن }{[5063]} أي لاستقبالها ومواجهتها في الزمن وقرأ الحسن وأبو رجاء وأبو حيوة «قُبْلاً » بضم القاف وسكون الباء ، وذلك على جهة التخفيف .
وقرأ طلحة بن مصرف «قَبْلاً » بفتح القاف وإسكان الباء ، وقرأ أبيّ والأعمش «قبيلاً » بفتح القاف وكسر الباء وزيادة ياء ، والنصب في هذا كله على الحال ، وقوله عز وجل : { ولكن أكثرهم يجهلون } الضمير عائد إلى الكفار المتقدم ذكرهم ، والمعنى يجهلون أن الآية تقتضي إيمانهم ولا بد ، فيقتضي اللفظ أن الأقل لا يجهل فكان فيهم من يعتقد أن الآية لو جاءت «لم يؤمن إلا أن يشاء الله » له ذلك .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبر عما علمه فيهم، فقال: {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة}، وأخبروهم أن محمدا رسول كما سألوا، لقولهم في الفرقان: {لولا أنزل علينا الملائكة} (الفرقان: 21)، يعني المستهزئين من قريش، أبا جهل وأصحابه. ثم قال: {وكلمهم الموتى}، لقولهم: ابعث لنا رجلين أو ثلاثة من آبائنا، فنسألهم عما أمامهم مما تحدثنا أنه يكون بعد الموت أحق هو؟ ثم قال: {وحشرنا عليهم كل شيء قبلا}، يعني:عيانا...ومن قرأه:"قِبلا"، أراد قبيلا قبيلا... فعاينوه كله، فلو فعلت هذا كله، فأخبروهم بأن الذي يقول محمد حق، {ما كانوا ليؤمنوا}، يعني ليصدقوا، {إلا أن يشاء الله} لهم الإيمان، {ولكن أكثرهم} أكثر أهل مكة {يجهلون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، آيسْ من فلاح هؤلاء العادلين بربهم الأوثانَ والأصنام، القائلين لك: لئن جئتنا بآية لنؤمننّ لك، فإننا "لو نَزّلْنا إلَيْهِمُ المَلائِكَةَ "حتى يروها عيانا "وكَلّمَهُمُ المَوْتَى" بإحيائنا إياهم، حجة لك ودلالة على نبوّتك، وأخبروهم أنك محقّ فيما تقول، وأن ما جئتهم به حقّ من عند الله، "وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلّ شَيْءٍ" فجعلناهم لك "قُبُلاً" ما آمنوا ولا صدّقوك، ولا اتبعوك "إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ" ذلك لمن شاء منهم.
{وَلَكِنّ أكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} يقول: ولكن أكثر هؤلاء المشركين يجهلون أن ذلك كذلك، يحسبون أن الإيمان إليهم والكفر بأيديهم، متى شاءوا آمنوا ومتى شاءوا كفروا، وليس ذلك كذلك، ذلك بيدي، لا يؤمن منهم إلا من هديته له فوفقته، ولا يكفر إلا من خذلته عن الرشد فأضللته...
وقال آخرون: إنما قيل:"ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا" يراد به أهل الشقاء.
وقيل:"إلاّ أنْ يَشَاءَ الله" فاستثنى ذلك من قوله: {لِيُؤْمِنُوا} يراد به أهل الإيمان والسعادة... عن ابن عباس، قوله: {وَلَوْ أنّنا نَزّلْنا إلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وكَلّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا} وهم أهل الشقاء. ثم قال: {إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ} وهم أهل السعادة الذين سبق لهم في علمه أن يدخلوا في الإيمان.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول ابن عباس، لأن الله جلّ ثناؤه عمّ بقوله: {ما كانُوا لِيُؤْمِنوا} القوم الذين تقدّم ذكرهم في قوله: {وأقْسَمُوا باللّهِ جَهْدَ أيمَانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنّ بِها}.
وقد يجوز أن يكون الذين سألوا الآية كانوا هم المستهزئين... ولكن لا دلالة في ظاهر التنزيل على ذلك ولا خبر تقوم به حجة بأن ذلك كذلك. والخبر من الله خارج مخرج العموم، فالقول بأن ذلك عُني به أهل الشقاء منهم أولى لما وصفنا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: {وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلّ شَيْءٍ قُبُلاً}:
فقرأته قرّاء أهل المدينة: «قِبَلاً» بكسر القاف وفتح الباء، بمعنى معاينة، من قول القائل: لقيته قبَلاً: أي معاينة ومجاهرة.
وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين والبصريين: {وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلّ شَيْءٍ قُبُلاً} بضم القاف والباء.
وإذا قرئ كذلك كان له من التأويل ثلاثة أوجه:
أحدها أن يكون القُبُل: جمع قَبِيل كالرّغُف التي هي جمع رغيف، والقُضُب التي هي جمع قضيب، ويكون القُبُل: الضمناء والكفلاء. وإذا كان ذلك معناه، كان تأويل الكلام: وحشرنا عليهم كلّ شيء كفلاء يكفلون لهم بأن الذي نعدُهم على إيمانهم بالله إن آمنوا أو نوعدهم على كفرهم بالله إن هلكوا على كفرهم، ما آمنوا إلا أن يشاء الله.
والوجه الاَخر: أن يكون «القُبُل» بمعنى المقابلة والمواجهة، من قول القائل: أتيتك قُبُلاً لا دُبُرا، إذا أتاه من قَبِل وجهه.
والوجه الثالث: أن يكون معناه: وحشرنا عليهم كلّ شيء قبيلة قبيلة، صنفا صنفا، وجماعة جماعة. فيكون القُبُل حينئذ جمع قَبيل الذي هو جمع قبيلة، فيكون القُبل جمع الجمع.
وبكلّ ذلك قد قالت جماعة من أهل التأويل...
عن ابن عباس، قوله: {وَلَوْ أنّنا نَزّلْنا إلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وكَلّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلّ شَيْءٍ قُبُلاً} يقول: لو استقبلهم ذلك كله، لَمْ يُؤْمِنُوا إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ...
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندنا، قراءة من قرأ: {وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلّ شَيْءٍ قُبُلاً} بضمّ القاف والباء لما ذكرنا من احتمال ذلك الأوجه التي بينا من المعاني، وأن معنى القِبَلِ داخل فيه، وغير داخل في القِبَلِ معاني القُبُل.
وأما قوله: {وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ} فإن معناه: وجمعنا عليهم، وسقنا إليهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... وفيه دليل على أن الآيات لا تضطر أهلها إلى الإيمان لأنه قال {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا} لأنه لو كانت آية تضطرهم إلى الإيمان لكانت هذه.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقوله "ولكن أكثرهم يجهلون "إنما وصف أكثرهم بالجهل مع أن الجهل يعمهم لأن المعنى: يجهلون أنه لو أوتوا بكل آية ما آمنوا طوعا. وفي الآية دلالة على أنه لو علم الله أنه لو فعل بهم من الآيات ما اقترحوها لآمنوا أنه كان يفعل ذلك بهم، وأنه يجب في حكمته ذلك، لأنه لو لم يجب ذلك لما كان لهذا الاحتجاج معنى. وتعليله بأنه إنما لم يظهر هذه الآيات لعلمه بأنه لو فعلها لم يؤمنوا.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
أخبر الله عز وجل في هذه الآية أنه لو أتى بجميع ما اقترحوه من إنزال الملائكة وإحياء سلفهم حسبما كان من اقتراح بعضهم أن يحشر قصي وغيره، فيخبر بصدق محمد أو يجمع عليهم كل شيء يعقل أن يحشر عليهم، ما آمنوا إلا بالمشيئة واللطف الذي يخلقه ويخترعه في نفس من شاء لا رب غيره.
اعلم أنه تعالى بين في هذه الآية تفصيل ما ذكره على سبيل الإجمال بقوله: {وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون} فبين أنه تعالى لو أعطاهم ما طلبوه من إنزال الملائكة وإحياء الموتى حتى كلموهم بل لو زاد في ذلك ما لا يبلغه اقتراحهم بأن يحشر عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يقول تعالى: ولو أننا أجبنا سؤال هؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} فنزلنا عليهم الملائكة، أي: تخبرهم بالرسالة من الله بتصديق الرسل، كما سألوا فقالوا: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا} [الإسراء: 92] {قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله} [الأنعام: 124]، {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان: 21].
{وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى} أي: فأخبروهم بصدق ما جاءتهم به الرسل، {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا} -قرأ بعضهم:"قِبَلا" بكسر القاف وفتح الباء، من المقابلة، والمعاينة. وقرأ آخرون [وقبلا] بضمهما قيل: معناه من المقابلة والمعاينة أيضا، كما رواه علي بن أبي طلحة، والعوفي، عن ابن عباس. وبه قال قتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال مجاهد: {قُبُلا} أفواجًا، قبيلا قبيلا أي: تعرض عليهم كل أمة بعد أمة فتخبرهم بصدق الرسل فيما جاؤوهم به {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} أي: إن الهداية إليه، لا إليهم. بل يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وهو الفعال لما يريد، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، لعلمه وحكمته، وسلطانه وقهره وغلبته. وهذه الآية كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ} [يونس: 96، 97].
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
قال القاشاني: وفي الحقيقة لا اعتبار بالإيمان المرتب على مشاهدة خوارق العادات، فإنه ربما كان مجرد إذعان لأمر محسوس، وإقرار باللسان، وليس في القلب من معناه شيء، كإيمان أصحاب السامري. والإيمان لا يكون إلا بالجنان، كما قال تعالى: {قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم}.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بين الله سبحانه في الآيتين اللتين قبل هذه الآيات أن مقترحي الآيات الكونية على الرسول صلى الله عليه وسلم أقسموا بالله مجتهدين في أيمانهم مؤكديها قائلين: لئن جاءتنا آية لنؤمن بها وبما تدل عليه من صدق الرسول في دعوى الرسالة وما جاء به عن الله تعالى. وأن المؤمنين كانوا يودون إجابة اقتراحهم ويظنون أنها تفضي إلى إيمانهم، فبين الله تعالى لهم خطأ ظنهم بقوله {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (108- 109 الأنعام) نفى عنهم الشعور بسنته تعالى فيهم وفي أمثالهم من المعاندين وما يكون من شأنهم إذا رأوا آية تدل على خلاف ما يعتقدون وما يهوون وهي أنهم ينظرون إليها ويتفكرون فيها بقصد الجحود والإنكار فيحملونها على خداع السحر وأباطيله ويزعمون أنها لا تدل على المطلوب. وبعد بيان سنته تعالى فيهم عند مجيء الآية المقترحة صرح بما هو أبلغ من ذلك فقال:
{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ} فرأوها المرة بعد المرة بأعينهم وسمعوا شهادتها لك بالرسالة بآذانهم {وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى} منهم بإحيائنا إياهم آية لك وحجة على صدق ما جئت به عن الله تعالى من أن الموت ليس عدما محضا للإنسان {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً} أي وجمعنا كل شيء من الآيات والدلائل غير الملائكة والموتى فسقناه وأرسلناه عليهم مقابلا لهم أو كافلا لصحة دعواك أو قبيلا {مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} أي ما كان من شأنهم ولا مقتضى استعدادهم أن يؤمنوا، ونفي الشأن أبلغ من نفي الفعل، ذلك بأنهم لا ينظرون في شيء من الآيات نظر استدلال وإنما ينظرون إليها نظر من جاءه ولي يريد نصره وإغاثته وإخراجه من ضيق نزل به فظن أنه عدو يهاجمه ليوقع به ويسلبه ما بيده فينبري لقاتله فإذا قال له إنما أنا ولي نصير لا عدو مغير، ظن أنه يخدعه بقوله، وأنه إذا لم يسبق إلى قتله قتله، لا يعقل غير هذا.
وقوله تعالى {قبلا} قرأه عاصم وحمزة والكسائي بضم القاف والباء هنا وفي سورة الكهف وقرأه نافع وابن عامر بكسر القاف وفتح الباء فيهما، وابن كثير وأبو عمرو كالأولين هنا وكالآخرين في الكهف قيل إن معنى القراءتين واحد وهو المقابلة والمواجهة بالشيء ونقله الواحدي عن أبي زيد، والتقدير: وحشرنا عليهم كل شيء من أنواع الدلائل مواجهة ومعاينة وقيل إن الأولى جمع قبيل فهو كقضب ورغف {بضمتين فيهما} جمع قضيب ورغيف والتقدير: وحشرنا عليهم كل شيء من ذلك قبيلا قبيلا وصنفا صنفا، أي كل صنف منه على حدة. ومن استعمال مفرده في مثل هذا المقام قوله تعالى في حكاية اقتراحهم الآيات من سورة الإسراء، {أو تأتي بالله والملائكة قبيلا} (الإسراء 92) وقيل معناه الكفيل أي وحشرنا عليهم كل ما ذكر كفلاء يضمنون لهم صحة ما جئت به. وهو مروي عن أبي عبيدة والفراء والزجاج. وكل ما ذكر من المعاني للقراءتين متفق يؤيد بعضه بعضا.
وأما الاستثناء بقوله تعالى: {إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ} فقيل هو منقطع معناه لكن الله تعالى إن شاء إيمان أحد منهم آمن وقيل هو استثناء متصل من أعم الأحوال أو الأوقات، والمراد عليه أنهم ما داموا على صفاتهم التي هم عليها في زمن اقتراح الآيات لا يؤمنون وإذا شاء الله أن يزيلها فعل. والظاهر أنه مؤيد لذلك الجزم بعدم إيمان هؤلاء الناس الموصوفين بما ذكر من العناد والكبرياء والمكابرة ومعناه: إن سنة الله تعالى في فقدهم الاستعداد للإيمان جارية بحسب مشيئته تعالى ككل ما يجري في هذا العالم ولو شاء غير ذلك لكان ولكنه لا يشاء لأنه تغيير لسننه، وتبديل لطباع هذا النوع من خلقه، {الإنسان} فهو إذا مزيد تأكيد لنفي الإيمان عنهم، والأستاذ الإمام يعد من هذا التأكيد قوله تعالى {سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله} (الأعلى 6- 7} فالمراد أنه لا ينسى البتة، وقد يفسر به ما استشكلوه وذهبوا المذاهب في تأويله من آيتي سورة هود {خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك} (هود107) ولا حجة في الاستثناء بالمشيئة في هذه الآية وأمثالها للجبرية على جبرهم ولا للقائلين بخلق الله تعالى للشر ولا لمنكريه فكل ما يجري في الكون من أعمال البشر الاختيارية خيرها وشرها جار بنظام وسنن حكيمة وكلها بمشيئة الله تعالى وما هو شر من أفعال الناس الاختيارية لقبحه ولما يترتب عليه من ضررهم به وعقابهم عليه لا يستلزم ما قالته تلك الفرق كما بيناه في هذا التفسير وفي مباحث أخرى من المنار.
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} سنن الله تعالى في عباده وانطباقها على الأفراد والجماعات لذلك يتمنى بعض المؤمنين لو يؤتى مقترحو الآيات ما اقترحوه لظنهم أنه يكون سببا لإيمانهم، وليست الآيات بملزمة ولا مغيرة البشر في اختيار ما ترجح عند كل منهم بحسب نظره فيها وفي غيرها، ولو شاء تعالى لجعلها كذلك ولو شاء أيضا لخلق الإيمان في قلوب البشر خلقا لا عمل لهم فيه ولا اختيار. وحينئذ لا يكونون محتاجين إلى رسل بل لا يكونون هم هذا النوع من الخلق الذي سمي الإنسان.
ذهب بعض المفسرين إلى أن هذه الجملة الأخيرة نزلت في المؤمنين فإن أكثرهم يجهلون قطعا هؤلاء المقترحين المعاندين من الذين فقدوا الاستعداد للإيمان والاستعداد للنظر الصحيح في الآيات والدلائل الموصلة إليه. وذهب بعضهم إلى أنها في الكافرين الذين لا يؤمنون كالجمل قبلها ولا شك أن جهلهم عظيم في هذا الأمر وفي غيره، ويرجح الأول إسناد الجهل إلى أكثرهم وهو عام شامل لهم ولاسيما إذا أريد بهم المستهزئون الخمسة خاصة كما تقدم في أول السياق في آخر الجزء السابع، وهم الوليد بن المغيرة المخزومي والعاصي بن وائل السهمي والأسود بن عبد يغوث الزهري والأسود بن المطلب والحارث بن حنظلة فقد كانوا أجهل القوم بهذه الهداية وأشدهم جهلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والحقيقة الأولى: هي أن الإيمان أو الكفر. والهدى أو الضلال... لا تتعلق بالبراهين والأدلة على الحق. فالحق هو برهان ذاته. وله من السلطان على القلب البشري ما يجعله يقبله ويطمئن إليه ويرضخ له.. ولكنها المعوقات الأخرى هي التي تحول بين القلب والحق، وهذه المعوقات يقول الله -سبحانه- للمؤمنين بشأنها:"وما يشعركم أنها إذا جاءت [أي الآيات والخوارق] لا يؤمنون؟ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة، ونذرهم في طغيانهم يعمهون".. فما وقع لهم في أول مرة ومنعهم من الهدى، يمكن أن يتكرر وقوعه كذلك -بعد نزول الآية- فيمنعهم من الهدى كرة أخرى.. إن موحيات الإيمان كامنة في القلب ذاته؛ وفي الحق كذلك بذاته؛ وليست متعلقة بعوامل خارجية.. فيجب أن تتجه المحاولة إذن إلى ذلك القلب لعلاجه من آفاته ومن معوقاته..
والحقيقة الثانية: هي أن مشيئة الله هي المرجع الأخير في أمر الهدى والضلال. فقد اقتضت هذه المشيئة أن تبتلي البشر بقدر من حرية الاختيار والتوجه في الابتداء؛ وجعل هذا القدر موضع ابتلاء للبشر وامتحان. فمن استخدمه في الاتجاه القلبي إلى الهدى والتطلع إليه والرغبة فيه -وإن كان لا يعلم حينئذ أين هو- فقد اقتضت مشيئة الله أن يأخذ بيده ويعينه ويهديه إلى سبيله. ومن استخدمه في الرغبة عن الهدى والصدود عن دلائله وموحياته، فقد اقتضت مشيئة الله أن يضله وأن يبعده عن الطريق وأن يدعه يتخبط في الظلمات.. وإرادة الله وقدره محيطان بالبشر في كل حالة، ومرد الأمر كله إليه في النهاية. وهذه الحقيقة يشير إليها السياق في قوله تعالى: (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم -كما لم يؤمنوا به أول مرة- ونذرهم في طغيانهم يعمهون). وفي قوله: (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى، وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً، ما كانوا ليؤمنوا -إلا أن يشاء الله- ولكن أكثرهم يجهلون)...
والحقيقة الثالثة: هي أن الطائعين والعصاة في قبضة الله سواء، وتحت قهره وسلطانه سواء. فهم لا يملكون جميعاً أن يحدثوا شيئاً إلا بقدر الله وفق مشيئته التي جرت بتلك السنن في تصريف أمر العباد.. ولكن المؤمنين يطابقون -في القدر المتروك لهم للاختيار- بين الخضوع القهري المفروض عليهم لسلطان الله في ذوات أنفسهم وفي حركة خلاياهم وفي طبائع تكوينهم العضوي النفسي؛ وبين الخضوع الاختياري الذي يلتزمونه بأنفسهم بناء على المعرفة والهدى والاختيار. وبذلك يعيشون في سلام مع أنفسهم ذاتها، لأن الجانب القهري فيها والجانب الاختياري يتبعان ناموسا واحدا وسلطانا واحدا وحكومة واحدة! فأما الآخرون فهم مقهورون على اتباع ناموس الله الفطري الذي يقهرهم ولا يملكون أن يخرجوا منه في تكوينهم الجسمي وحاجاتهم الفطرية، بينما في الجانب الذي ترك لهم الاختيار فيه هم ناشزون على سلطان الله الممثل في منهجه وشرعه. أشقياء بهذا الفصام في شخصيتهم! وهم بعد هذا كله في قبضة الله لا يعجزونه في شيء، ولا يحدثون شيئاً إلا بقدره! وهذه الحقيقة الثالثة ذات أهمية خاصة في القضايا التي يعرضها الشطر الباقي من السورة. فهي تتكرر في مواضع متعددة في صور متنوعة، ذلك أن هذا الشطر كله -كما بينا من قبل- يواجه قضية الألوهية وسلطانها في حياة البشر وشريعتهم التي يعيشون بها.. ومن ثم يتكئ السياق على تقرير أن السلطان كله لله. حتى في كيان العصاة الناشزين عن منهج الله وشرعه، وأنهم لا يؤذون أولياء الله إلا بما شاء الله. فهم أعجز من أن يكون لهم في ذواتهم سلطان، فكيف يكون لهم على المؤمنين سلطان! إنما هي مشيئة الله يكون بها ما يشاء في الطائعين والعصاة سواء.