{ 82 - 86 } { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ }
يقول تعالى في بيان أقرب الطائفتين إلى المسلمين ، وإلى ولايتهم ومحبتهم ، وأبعدهم من ذلك : { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا } فهؤلاء الطائفتان على الإطلاق أعظم الناس معاداة للإسلام والمسلمين ، وأكثرهم سعيا في إيصال الضرر إليهم ، وذلك لشدة بغضهم لهم ، بغيا وحسدا وعنادا وكفرا .
{ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى } وذكر تعالى لذلك عدة أسباب :
منها : أن { مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا } أي : علماء متزهدين ، وعُبَّادًا في الصوامع متعبدين . والعلم مع الزهد وكذلك العبادة مما يلطف القلب ويرققه ، ويزيل عنه ما فيه من الجفاء والغلظة ، فلذلك لا يوجد فيهم غلظة اليهود ، وشدة المشركين .
ومنها : { أنهم لَا يَسْتَكْبِرُونَ } أي : ليس فيهم تكبر ولا عتو عن الانقياد للحق ، وذلك موجب لقربهم من المسلمين ومن محبتهم ، فإن المتواضع أقرب إلى الخير من المستكبر .
{ لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا } لشدة شكيمتهم وتضاعف كفرهم وانهماكهم في اتباع الهوى ، وركونهم إلى التقليد وبعدهم عن التحقيق ، وتمرنهم على تكذيب الأنبياء ومعاداتهم . { ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى } للين جانبهم ورقة قلوبهم وقلة حرصهم على الدنيا وكثرة اهتمامهم بالعلم والعمل وإليه أشار بقوله : { ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون } عن قبول الحق إذا فهموه ، أو يتواضعون ولا يتكبرون كاليهود . وفيه دليل على أن التواضع والإقبال على العلم والعمل والإعراض عن الشهوات محمود وإن كانت من كافر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
(لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا): كان اليهود يعاونون مُشركِي العرب على قتال النبي صلى الله عليه وسلم، ويأمرونهم بالمسير إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
(والذين أشركوا)، يعني مشركي العرب أيضا، كانوا شديدي العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، رضي الله عنهم.
(ولتجدن أقربهم مودة)، وليس يعني في الحب، ولكن يعني في سرعة الإجابة للإيمان، (للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى)... (ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا)، يعني مُتعبِّدين أصحاب الصَّوامع، (وأنهم لا يستكبرون): لا يتكبَّرون عن الإيمان... وذلك أنهم حين سمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: ما أشبه هذا بالذي كنا نتحدث به عن عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، فبكوا وصدقوا بالله عز وجل ورسله، فنزلت فيهم: (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول)
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"لَتَجِدَنّ" يا محمد أشَدّ النّاسِ عَدَاوَةٍ للذين صدّقوك واتبعوك وصدّقوا بما جئتهم به من أهل الإسلام، "اليَهُودَ والّذِينَ أشْرَكُوا "يعني عبدة الأوثان الذين اتخذوا الأوثان آلهة يعبدونها من دون الله. "وَلَتَجِدَنّ أقْرَبَهُمْ مَوَدّةٍ للّذِينَ آمَنُوا" يقول: ولتجدنّ أقرب الناس مودّة ومحبة. والمودّة: المفعلة، من قول الرجل: وَدِدْتُ كذا: إذا أحببته. "للذين آمنوا"، يقول: للذين صدّقوا الله ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم. "الّذِينَ قالوا إنّا نَصَارَى ذَلكَ بأنّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبانا وأنّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ" عن قبول الحقّ واتباعه والإذعان به. وقيل: إن هذه الآية والتي بعدها نزلت في نفر قِدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصارى الحبشة، فلما سمعوا القرآن أسلموا واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: إنها نزلت في النجاشي ملك الحبشة وأصحاب له أسلموا معه... فرجعوا إلى النجاشي فأخبروه، فأسلم النجاشيّ، فلم يزل مسلما حتى مات. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ أخاكُمُ النّجاشِي قَدْ ماتَ، فَصلّوا عَلَيْهِ» فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة والنجاشيّ بالحبشة.
وقال آخرون: بل هذه صفة قوم كانوا على شريعة عيسى من أهل الإيمان فلما بعث الله تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم آمنوا به. والصواب في ذلك من القول عندي أن الله تعالى وصف صفة قوم قالوا: إنا نصارى، أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يجدهم أقرب الناس ودادا لأهل الإيمان بالله ورسوله، ولم يسمّ لنا أسماءهم. وقد يجوز أن يكون أريد بذلك أصحاب النجاشيّ، ويجوز أن يكون أريد به قوم كانوا على شريعة عيسى فأدركهم الإسلام فأسلموا لما سمعوا القرآن وعرفوا أنه الحقّ، ولم يستكبروا عنه.
"ذَلِكَ بأنّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبانا" يقول: قربت مودّة هؤلاء الذين وصف الله صفتهم للمؤمنين من أجل أن منهم قسيسين ورهبانا. والقسيسون: عُبّادهم.
وأما الرّهبان، فإنه يكون واحدا وجمعا فأما إذا كان جمعا، فإن واحدهم يكون راهبا، ويكون الراهب حينئذ فاعلاً من قول القائل: رَهب الله فلان، بمعنى: خافه.
واختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله: "ذَلِكَ بأنّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبانا"؛
فقال بعضهم: عني بذلك قوم كانوا استجابوا لعيسى ابن مريم حين دعاهم، واتبعوه على شريعته.
وقال آخرون: بل عنى بذلك القوم الذين كان النجاشيّ بعثهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والصواب في ذلك من القول عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن النفر الذين أثنى عليهم من النصارى بقرب مودتهم لأهل الإيمان بالله ورسوله، أن ذلك إنما كان منهم لأن منهم أهل اجتهاد في العبادة وترهيب في الديارات والصوامع، وأن منهم علماء بكتبهم وأهل تلاوة لها، فهم لا يبعدون من المؤمنين لتواضعهم للحقّ إذا عرفوه، ولا يستكبرون عن قبوله إذا تبينوه، لأنهم أهل دين واجتهاد فيه ونصيحة لأنفسهم في ذات الله، وليسوا كاليهود الذين قد دَرِبُوا بقتل الأنبياء والرسل ومعاندة الله في أمره ونهيه وتحريف تنزيله الذي أنزله في كتبه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{لتجدن أشد الناس عداوة للذين ءامنوا اليهود والذين أشركوا}
تحتمل الآية وجوها: تحتمل أن يكون ما ذكر من شدة العداوة للذين آمنوا قوما مخصوصين منهم، وتحتمل اليهود الذين كانوا بقرب رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وأصحابه، هم أشد عداوة لهم، ويحتمل اليهود جملة.
فهو، والله أعلم، على ما كان منهم من قتل الأنبياء وتكذيبهم إياهم ونصب القتال والحرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وما كان منهم من القول الوحش في الله سبحانه ما لم يستقم أحد بمثل ما وصفوا الله عز وجل بالبخل والفقر، وهو قوله تعالى: {وقالت اليهود يد الله مغلولة} [الآية: 64] [وقوله تعالى]: {إن الله فقير ونحن أغنياء} [آل عمران: 181] وغير ذلك من القول؛ وذلك لشدة بغضهم وعداوتهم وقساوة قلوبهم. فعلى ذلك كل من دعاهم إلى دين الله تعالى؛ فهم له أشد عداوة وأقسى قلبا.
وأما النصارى فلم يكن منهم واحد ممن كان من اليهود من قتل الأنبياء ونصب الحروب والقتال معهم. ولم يروا في مذهبهم القتال ولا الحرب، ولا كان منهم من القول الوحش ما كان من اليهود. بل كان منهم اللين والرفق حتى حملهم ذلك على القول في عيسى ما قالوا. وذلك منهم له تعظيم فوق القدر الذي جعل الله له حتى رفعوه من قدر العبودية إلى قدر الربوبية. لذلك كفروا. وإلا كانوا يؤمنون بالكتب والأنبياء عليهم السلام من قبل.
ألا ترى أنه قال: {ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا} أخبر عز وجل أن {منهم قسيسين ورهبانا} والرهبان هو العباد؟ وقيل: القسيسون هم الصديقون. ولم يكن من اليهود رهبان ولا قسيسون. لذلك كان النصارى أقرب مودة وألين قلبا من اليهود، و الله أعلم.
فإن كان ذلك في قوم مخصوصين مشار إليهم، فهو ما ذكر في القصة أن بني قريظة والنضير كانوا يعاونون ويظاهرون مشركي العرب على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمرونهم. وبذلك ظاهروا، وأعانوا لمن لم يؤمن بنبي ولا كتاب قط على من قد آمن بالأنبياء والكتب جميعا؛ وذلك لسفههم وشدة تعنتهم حتى قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجلاهم من بلادهم إلى أٍرض الشام. إن [كان ذلك في] قوم بقرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مؤمنين فهو ما كان من يهود المدينة حين بايعوا أهل مكة على قتال رسول لله صلى الله عليه وسلم وكانوا عيونا لهم عليهم وطلائع. ولم يذكر في قصة من القصص أنه كان من النصارى [شيء من ذلك [لذلك كانوا]] أقرب مودة للمؤمنين، والله أعلم.
ومن الجهال من يظنّ أن في هذه الآية مَدْحاً للنصارى وإخباراً بأنهم خيرٌ من اليهود، وليس كذلك؛ وذلك لأن ما في الآية من ذلك إنما هو صفة قوم قد آمنوا بالله وبالرسول يدلّ عليه ما ذُكر في نسق التلاوة من إخبارهم عن أنفسهم بالإيمان بالله وبالرسول، ومعلوم عند كل ذي فطنة صحيحة أمْعَنَ النظر في مقالتَيْ هاتين الطائفتين أن مقالة النصارى أقبح وأشدّ استحالة وأظهر فساداً من مقالة اليهود؛ لأن اليهود تقرّ بالتوحيد في الجملة وإن كان فيها مُشَبِّهَةٌ تنقص ما أعطته في الجملة من التوحيد بالتشبيه.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ} مشركي العرب {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى} لم يرد به جميع النصارى مع ما فيهم من عداوة المسلمين، وتخريب بلادهم، وهدم مساجدهم وقتلهم وأسرهم وإحراق مصاحفهم لا ولا كرامة لهم، وإنما نزلت هذه الآية في النجاشي وأصحابه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وصف الله شدّة شكيمة اليهود وصعوبة إجابتهم إلى الحق ولين عريكة النصارى وسهولة ارعوائهم وميلهم إلى الإسلام، وجعل اليهود قرناء المشركين في شدّة العداوة للمؤمنين، بل نبه على تقدّم قدمهم فيها بتقديمهم على الذين أشركوا...
. فإن قلت: بم تعلقت اللام في قوله: {لِلَّذِينَ ءامَنُواْ}؟ قلت: بعداوة ومودّة، على أنّ عداوة اليهود التي اختصت المؤمنين أشدّ العداوات وأظهرها، وأن مودّة النصارى التي اختصت المؤمنين أقرب المودّات، وأدناها وجوداً، وأسهلها حصولاً. ووصف اليهود بالعداوة والنصارى بالمودّة مما يؤذن بالتفاوت، ثم وصف العداوة والمودّة بالأشدّ والأقرب. وعلل سهولة مأخذ النصارى وقرب مودّتهم للمؤمنين {بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبَاناً} أي علماء وعباداً {وَأنَّهُمْ} قوم فيهم تواضع واستكانة ولا كبر فيهم، واليهود على خلاف ذلك. وفيه دليل بين على أنّ التعلم أنفع شيء وأهداه إلى الخير وأدله على الفوز حتى علم القسيسين، وكذلك غم الآخرة والتحدّث بالعاقبة وإن كان في راهب، والبراءة من الكبر وإن كانت في نصراني. ووصفهم الله برقة القلوب وأنهم يبكون عند استماع القرآن،
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
اللام في قوله {لتجدن} لام الابتداء، وقال الزجّاج هي لام قسم، ودخلت هذه النون الثقيلة لتفصل بين الحال والاستقبال. وهذا خبر مطلق منسحب على الزمن كله، وهكذا هو الأمر حتى الآن، وذلك أن اليهود َمَرنوا على تكذيب الأنبياء وقتلهم، وَدِربوا العتو والمعاصي وَمَردوا على استشعار اللعنة وضرب الذلة والمسكنة، فهم قد لحجت عداواتهم وكثر حسدهم، فهم أشد الناس عداوة للمؤمنين وكذلك المشركون عبدة الأوثان من العرب والنيران من المجوس لأن الإيمان إياهم كَّفر وعروشهم ثَّل، وبين أنهم ليسوا على شيء من أول أمرهم فلم يبق لهم بقية فعداوتهم شديدة. والنصارى أهل الكتاب يقضي لهم شرعنا بأن أول أمرهم صحيح لولا أنهم ضلوا، فهم يعتقدون أنهم لم يضلوا وأن هذه الآية لم تنسخ شرعهم، ويعظمون من أهل الإسلام من استشعروا منه صحة دين، ويستهينون من فهموا منه الفسق، فهم إذا حاربوا فإنما حربهم أنفة وكسب لا أن شرعهم يأخذهم بذلك، وإذا سالموا فسلمهم صاف، ويعين على هذا أنهم أمة شريفة الخلق، لهم الوفاء والخلال الأربع التي ذكر عمرو بن العاصي في صحيح مسلم، وتأمل أن النبي صلى الله عليه وسلم سر حين غلبت الروم فارس، وذلك لكونهم أهل كتاب، ولم يرد عليه السلام أن يستمر ظهور الروم وإنما ُسَّر بغلبة أهل كتاب لأهل عبادة النار، وانضاف إلى ذلك أن غلب العدو الأصغر وانكسرت شوكة العدو الأكبر المخوف على الإسلام، واليهود لعنهم الله ليسوا على شيء من هذه الخلق بل شأنهم الخبث والليّ بالألسنة...
ولم يصف الله تعالى النصارى بأنهم أهل ود وإنما وصفهم بأنهم أقرب من اليهود والمشركين، فهو قرب مودة بالنسبة إلى متباعدين، وفي قوله تعالى: {الذين قالوا إنا نصارى} إشارة إلى أن المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم من النصارى ليسوا على حقيقة النصرانية بل كونهم نصارى قول منهم وزعم، وقوله تعالى: {ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً} معناه ذلك بأن منهم بأن منهم أهل خشية وانقطاع إلى الله وعبادة وإن لم يكونوا على هدى، فهم يميلون إلى أهل العبادة والخشية وليس عند اليهود ولا كان قط أهل ديارات وصوامع وانقطاع عن الدنيا، بل هم معظمون لها متطاولون في البنيان وأمور الدنيا حتى كأنهم لا يؤمنون بالآخرة، فلذلك لا يرى فيهم زاهد...
.وصف الله تعالى النصارى بأنهم لا يستكبرون، وهذا بين موجود فيهم حتى الآن، واليهودي متى وجد غروراً طغى وتكبر، وإنما أذلهم الله وأضرعتهم الحمى وداسهم كلكل الشريعة ودين الإسلام أعلاه الله.
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
فإن قيل: كيف مدحهم بأن منهم قسيسين ورهبانا، وليس ذلك من أمر شريعتنا؟ فالجواب: أنه مدحهم بالتمسك بدين عيسى حين استعملوا في أمر محمد ما أخذ عليهم في كتابهم، وقد كانت الرهبانية مستحسنة في دينهم. والمعنى: بأن فيهم علماء بما أوصى به عيسى من أمر محمد صلى الله عليه وسلم.
اعلم أنه تعالى لما ذكر من أحوال أهل الكتاب من اليهود والنصارى ما ذكره، ذكر في هذه الآية أن اليهود في غاية العداوة مع المسلمين، ولذلك جعلهم قرناء للمشركين في شدة العداوة، بل نبه على أنهم أشد في العداوة من المشركين من جهة أنه قدم ذكرهم على ذكر المشركين. ولعمري أنهم كذلك. وفي الآية مسألتان: الأولى: علة هذا التفاوت أن اليهود مخصوصون بالحرص الشديد على الدنيا والدليل عليه قوله تعالى: {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا} فقرنهم في الحرص بالمشركين المنكرين للمعاد، والحرص معدن الأخلاق الذميمة لأن من كان حريصا على الدنيا طرح دينه في طلب الدنيا وأقدم على كل محظور ومنكر بطلب الدنيا، فلا جرم تشتد عداوته مع كل من نال مالا أو جاها، وأما النصارى فإنهم في أكثر الأمر معرضون عن الدنيا مقبلون على العبادة وترك طلب الرياسة والتكبر والترفع، وكل من كان كذلك فإنه لا يحسد الناس ولا يؤذيهم ولا يخاصمهم بل يكون لين العريكة في طلب الحق سهل الانقياد له، فهذا هو الفرق بين هذين الفريقين في هذا الباب، وهو المراد بقوله تعالى: {ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون}. وهاهنا دقيقة نافعة: في طلب الدين وهو أن كفر النصارى أغلظ من كفر اليهود لأن النصارى ينازعون في الإلهيات وفي النبوات، واليهود لا ينازعون إلا في النبوات، ولا شك في أن الأول أغلظ، ثم إن النصارى مع غلظ كفرهم لما لم يشتد حرصهم على طلب الدنيا بل كان في قلبهم شيء من الميل إلى الآخرة شرفهم الله بقوله {ولتجدن أقربهم مودة للذين ءامنوا الذين قالوا إنا نصارى} وأما اليهود مع أن كفرهم أخف في جنب كفر النصارى طردهم وخصهم الله بمزيد اللعن وما ذاك إلا بسبب حرصهم على الدنيا... فإن قيل: كيف مدحهم الله تعالى بذلك مع قوله {ورهبانية ابتدعوها} وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا رهبانية في الإسلام». قلنا: إن ذلك صار ممدوحا في مقابلة طريقة اليهود في القساوة والغلظة، ولا يلزم من هذا القدر كونه ممدوحا على الإطلاق.
جهود القرافي في التفسير 684 هـ :
مدح النصارى بأنهم أقرب مودة وأنهم متواضعون مسلَّم، لكن هذا لا يمنع أن يكونوا كفرة مخلدين في النار وغضب الجبار لأن السجايا الجليلة والآداب الكسبية تجتمع مع الكفر والإيمان كالشجاعة والظُّرف واللطف وجودة العقل، فليس فيه دليل على صحة دينهم. وأما نفي الشرك عنهم، فالمراد: الشرك بعبادة الأصنام لا الشرك بعبادة الولد واعتقاد التثليث. وسببه أنهم مع التثليث يقولون:"الثلاثة واحد"، فأشاروا إلى التوحيد بزعمهم بوجه من الوجوه. ويقولون: نحن لا نعبد إلا الله تعالى، لكن الله تعالى هو المسيح، ونعبد المسيح، والمسيح هو الله. تعالى الله عن قولهم... فلا يفيدهم كون الله تعالى خصص كل طائفة من الكفار باسم هو أولى بها في اللغة مدحا، وليس ذلك تصويبا لما هم عليه. (الأجوبة الفاخرة: 126-127)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون} عن قبول الحق إذا فهموه، أو يتواضعون ولا يتكبرون كاليهود. وفيه دليل على أن التواضع والإقبال على العلم والعمل والإعراض عن الشهوات محمود وإن كانت من كافر.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما دل كالشمس ميلهُم إلى المشركين دون المؤمنين على أنهم في غاية العداوة لهم، صرح تعالى بذلك على طريق الاستنتاج، فقال دالاً على رسوخهم في الفسق}: لتجدن أشد الناس {أي كلهم {عداوة للذين آمنوا} أي أظهروا الإقرار بالإيمان فكيف بالراسخين فيه {اليهود} قدمهم لأنهم أشد الفريقين لأنه لا أقبح من ضال على علم {والذين أشركوا} لما جمعهم من الاستهانة بالأنبياء هؤلاء جهلاً وأولئك عناداً وبغياً، فعرف أن من صدق في إيمانه لا يواليهم بقلبه ولا بلسانه، وأنهم ما اجتمعوا على الموالاة إلا لاجتماعهم في أشدّية العداوة لمن آمن، فهذه الآية تعليل لما قبلها، كأنه قيل: هب أنهم لا يؤمنون بالله والنبي، وذلك لا يقتضي موادة المشركين فلِمَ والوهم حينئذ؟ فقيل: لأن الفريقين اجتمعوا في أشدية العداوة للذين آمنوا.
ولما أخبر تعالى بأبعد الناس مودة لهم، أخبر بضدهم فقال: {ولتجدن أقربهم} أي الناس {مودة للذين آمنوا} أي أوجدوا الإيمان بالقلب واللسان {الذين قالوا} و في التوريك على قولهم إشارة إلى أنهم ما كانوا على حقيقة النصرانية {إنا نصارى} أي لقلة اهتمامهم بالدنيا بمجرد قولهم ذلك ولو لم يكونوا عريقين في الدين وإقبالهم على علم الباطن، ولذلك علله بقوله: {ذلك بأن منهم قسيسين} أي مقبلين على العلم، من القس، وهو ملامة الشيء وتتبعه {ورهباناً} أي في غاية التخلي من الدنيا؛ ولما كان التخلي منها موجباً للبعد من الحسد، وهو سبب لمجانبة التكبر قال: {وأنهم لا يستكبرون} أي لا يطلبون الرفعة على غيرهم ولا يوجدونها.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
... ختم الله هذا السياق في محاجة أهل الكتاب وبيان شأنهم، بهذه الآيات التي بين فيها حالتهم النفسية في عداوة المؤمنين ومودتهم، ودرجة قربهم منهم وبعدهم عنهم، وكذا حالة المشركين-
العداوة بغضاء يظهر أثرها في القول والعمل، والمودة محبة يظهر أثرها في القول والعمل، خلافا للجمهور الذين فسروها بالمحبة مطلقا. وفي كلمة (لتجدن) تأكيدان- لام القسم في أول الكلمة ونون التوكيد في آخرها...
وجملة القول أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به رأوا في عصره من مودة النصارى وقربهم من الإسلام بقدر ما رأوا من عداوة اليهود والمشركين. وقد يظن بعض الناس أن سبب ذلك بعد النصارى عنهم، وقرب اليهود منهم في المدينة والمشركين في مكة والمدينة معا،ومن بلغته الدعوة إلى ترك دينه إلى دين آخر من بعيد لا يعني بعداوة أهلها وبمقاومتها كما يعني القريب الذي توجه إليه الدعوة مواجهة ومشافهة. ولذلك كان اليهود في الشام والأندلس يعطفون على المسلمين عند الفتح ويرغبون في نصرهم على نصارى الروم والقوط. ثم صار بين المسلمين والنصارى من العداوة على الملك والحروب لأجله ما هو أشد مما كان من عداوة اليهود والمشركين لسلفهم في أول الإسلام. والقاعدة لهذا الرأي أن العداوة والمودة كانت ولم تزل أثر التنازع على المنافع والسيادة باسم الدين أو الدنيا. ولا دخل لطبيعة الدين فيها. وقد يؤيد هذا بما يثيره دعاة النصرانية في نفوس المسلمين في هذا الزمان، وبما بين الدول الإسلامية والنصرانية من البغي والعدوان، على أنه ليس بين اليهود والمسلمين من ذلك شيء، ولكن قد يوجد مثله بين مسلمي الهند ومشركيها، لتعارض مصالحهم ومنافعهم فيها، فعلة العداوة والمودة خارجية لا دينية ولا جنسية. هذا كلام صحيح في جملته لا تفصيله، وينطبق على المختلفين في الدين والمتفقين فيه- فقد حارب نصارى البلقان بعضهم بعضا كما حاربوا العثمانيين، بل أهل المذهب الواحد من النصارى يحارب الآن بعضهم بعضا كالإنجليز والألمان، وليس هو المراد بالآية، وإنما القرآن يبين هنا معنى أعلى منه وأعم، لا خاصا بالتنازع. وهو أن العلة الصحيحة لعداوة المعادين ومودة الموادين هي الحالة الروحية التي هي أثر تقاليدهم الدينية والعادية وتربيتهم الأدبية والاجتماعية، وقد نبه القرآن إلى ذلك في بيان سبب مودة النصارى من هذه الآية. وترك سبب شدة عداوة اليهود والمشركين لأن حالتهم الروحية مبينة في القرآن أتم البيان في عدة سور، ومن أوسعها بيانا لأحوال اليهود هذه السورة وما قبلها من السور الطوال المدنية، وأوسعها بيانا لأحوال المشركين سورة الأنعام التي تليها وهي من السور المكية. كان اليهود والمشركون مشتركين في بعض الصفات والأخلاق التي اقتضت شدة العداوة للمؤمنين. فمنها الكبر والعتو، والبغي وحب العلو، ومنها العصبية الجنسية، والحمية القومية، ومنها غلبة الحياة المادية، ومنها الأثرة والقسوة، وضعف عاطفة الحنان والرحمة، وكان مشركو العرب على جاهليتهم أرق من اليهود قلوبا، وأكثر سخاء وإيثارا، وأشد حرية في الفكر والاستقلال. وما قدم الله ذكر اليهود في الآية إلا لإفادة أصالتهم وتمكنهم فيما وصفوا به، وتبريزهم على مشركي العرب فيه، وناهيك بما سبق لهم من قتل بعض الأنبياء وإيذاء بعض، واستحلال أكل أموال غيرهم بالباطل. وأما ما كان من ضلعهم مع المسلمين في البلاد المقدسة والشام والأندلس فإنما كان لأجل تفيؤ ظل عدلهم، والاستراحة من اضطهاد نصارى تلك البلاد لهم، فهم لم يعدوا في ذلك عادتهم، ولم يتركوا ما عرف من شنشنتهم، وهي أنهم لا يعملون شيئا إلا لمصلحتهم. ويمكن أن يستنبط ما تركه الله هنا من بيان سبب شدة هؤلاء وأولئك مما بينه من سبب قرب مودة النصارى بقوله عز وجل {ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون (82)} أي ذلك- الذي ذكر من كون النصارى أقرب مودة للذين آمنوا-بسبب أن منهم قسيسين يتولون تعليمهم وتربيتهم الدينية، ورهبانا يمثلون فيهم الزهد وترك نعيم الدنيا والخوف من الله عز وجل والانقطاع لعبادته. وإنهم لا يستكبرون عن الإذعان للحق إذا ظهر لهم أنه الحق، لأن أشهر آداب دينهم التواضع والتذلل، وقبول كل سلطة، والخضوع لكل حاكم، بل من المشهور فيها الأمر بمحبة الأعداء، وإدارة الخد الأيسر لمن ضرب الخد الأيمن، فتداول هذه الوصايا، ووجود أولئك القسيسين والرهبان، لابد أن يؤثر في نفوس جمهور الأمة وسوادها، فيضعف صفة الاستكبار عن قبول الحق فيها. وقد عهد من النصارى قبول سلطة المخالف لهم طوعا واختيارا، والرضاء بها سرا وجهارا، وأما اليهود فإذا أظهروا الرضا بذلك اضطرارا، أسروا الكيد أسرارا، ومكروا مكرا كبارا. فتلك كانت صفات الفريقين الغالبة. لا أخلاق أفراد الأمتين كافة، ففي كل قوم خبيثون وطيبون، {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} [الأعراف: 109] ولكن شريعة اليهود نفسها تربي في نفوسهم الأثرة الجنسية لأنها خاصة بشعب إسرائيل، وكل أحكامها ونصوصها مبنية على ذلك. وحكمة ذلك أن المراد منها تربية أمة موحدة بين أمم الوثنية الكثيرة بعد إنقاذها من استعباد أشد أولئك الوثنيين بطشا وأضراهم بالاستبداد-وهي أمة الفراعنة- ولو أذن الله لنبي إسرائيل بعد إنجائهم من مصر إلى الأرض المقدسة أن يخالطوا الأمم التي كانت فيها، وجعل شريعتهم عامة مبنية على قواعد المساواة بين الإسرائيليين وغيرهم –كالشريعة الإسلامية- لغلبت تعاليم أولئك الوثنيين وشرورهم على الإسرائيليين لقرب عهدهم بالتوحيد، مع استعدادهم الوراثي لقبول تقاليد غيرهم والخضوع لهم، ولذلك أمروا بأن لا يبقوا في الأرض المقدسة نسمة ما ممن كان فيها قبلهم. وكان موسى عليه السلام يحذرهم أشد التحذير من مفاسد الوثنيين بعده. فإن قلت: إن هذا الإصلاح بتربية أمة واحدة على هذه الطريقة، بمثل هذه الشريعة، يترتب عليه مفاسد أخرى في أخلاق هذه الأمة، ولو لم يكن من مفاسده إلا ما هو معروف من أخلاق اليهود إلى الآن، التي كانت سبب اضطهاد الأمم لهم في كل مكان، من حرصهم على الانتفاع من غيرهم، وعدم نفع أحد بشيء منهم، إلا إذا كان وسيلة لمنفعة لهم أكبر منه أو دفع ضرر، وتجرد السواد الأعظم منهم عن إيثار أحد غريب عنهم بشيء-لكفى، وكان شبهة عظيمة على كون دينهم ليس من عند الله تعالى: {والله لا يحب الفساد} [البقرة: 205]. والجواب عن هذه الشبهة سهل على المسلمين، وبيانه: إن تلك الشريعة كانت مؤقتة لا دائمة، فكانت في العصر الأول هي الوسيلة إلى تكوين أمة موحدة بين أمم الوثنية، وكان المصلحون من الأنبياء صلوات الله عليهم يتعاهدون أهلها زمنا بعد زمن بالإصلاح المعنوي، كإلهيات زبور داود وأدبيات حكم سليمان عليهما السلام، حتى لا تغلب على القوم المادية وتفسدهم الأثرة، ثم جاء مصلح إسرائيل الأعظم عيسى المسيح صلوات الله وسلامه عليه بنقض ما كانوا عليه من ذلك بدعوتهم إلى نقيض ما كانوا عليه، فقابل مبالغتهم في المادية بالمبالغة في الروحانية، ومبالغتهم في الآثرة بالمبالغة في الإيثار (الذي تعبر عنه النصارى بإنكار الذات) ومبالغتهم في الجمود على ظواهر الشريعة بالمبالغة في النظر إلى مقاصدها. فكره إليهم السيادة والغنى، وذم التمتع بنعيم الدنيا، وأمر بمحبة الأعداء، وعدم الجزاء على الإيذاء-وكان ذلك كله تمهيدا لإكمال الله تعالى دينه بإرسال خاتم النبيين والمرسلين. محمد المبعوث رحمة للعالمين، البارقليط روح الحق. الذي يعلمهم ويعلم غيرهم كل شيء، فيجمع للبشر بين مصالح الروح والجسد، ويأمر بالعدل والإحسان لا بالإحسان فقط. فمن لم يؤثر فيهم إصلاح المسيح من اليهود ظلوا على جمودهم وأثرتهم وعصبيتهم، وكانوا أشد عداوة لهذا النبي ومن آمن به ممن أثر فيهم ذلك الإصلاح، وكان فيهم بقية من القسيسين والرهبان، سواء كان أصلهم من اليهود أو غيرهم من الأقوام، فكانوا أقرب مودة لهم، وكانوا أسرع إلى الإيمان من غيرهم، فصدق عليهم قوله تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} [الأعراف: 157] وما كان ذلك الإصر والأغلال إلا شدة أحكام التوراة في الطعام والشراب والأحكام المدنية والجنائية، وشدة أحكام الإنجيل في الزهد وإذلال النفس وحرمانها ...
ومما يدل على كون النصارى أقرب من اليهود إلى الإسلام بطبيعة دين كل منهما، وفاقا لتعليل الآية الكريمة، كثرة من يسلم من النصارى في كل زمان وقلة من يسلم من اليهود، ولولا ضعف المسلمين في هذا الزمان، وإعراضهم عن هداية القرآن وإهمالهم الدعوة إلى الإسلام، وإبرازه بصورته الصحيحة للأنام- على فساد حكوماتهم وعجز رجالها في السياسة، وتخلفهم عن مجاراة الأمم في العلم والحضارة – ولولا بلوغ دول الإفرنج النصرانية فيه أوج العزة والقوة، وسبق أممهم في حلبة المدنية والثورة، واستمالتهم لنصارى الشرق وجذبهم إليهم. واعتزاز هؤلاء بهم، وتلقيهم أساليب التربية الدينية والمدنية عنهم، وجعل الدين فيها من المقومات الجنسية للأقوام والشعوب تربى على أن تحافظ عليها كما تحافظ على لغتها، فلا تستبدل بها غيرها وإن كانت خيرا منها- إلى غير ذلك من قوانين هذه التربية وأساليبها-ولولا ما أشرنا إليه من التنازع السياسي الدنيوي بين دولنا ودولهم، لكانت المودة بين الفريقين أتم، وانتشار الإسلام فيهم أعم، لأن الإسلام إصلاح في النصرانية، كما إن النصرانية إصلاح في اليهودية، فاليهود الذين عادوا النصرانية، كانوا أجدر ممن صلحوا بها بعداوة الإسلامية. ودين الله على ألسنة موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم واحد، ولكنه جرى مع البشر على سنة الارتقاء، إلى أن بلغ سن الكمال. فإن قيل: إذا كنت تزعم إن سبب ما ذكره الله تعالى من كون النصارى أقرب الناس مودة للمؤمنين هو تعاليم دينهم وتقاليده، وأنه لذلك يجب أن يكون عاما فيهم، وإن نزل في طائفة منهم، إذا انتفت الموانع-فبماذا تجيب عن الحرب الصليبية التي أوقد النصارى نارها باسم الدين، ولم يلق المسلمون مثلها من اليهود ولا المشركين. ويقرب من ذلك سائر الحروب بين المسلمين والنصارى؟- فإن عندي جوابين عن هذا السؤال أو جوابا من وجهين: أحدهما: إن ما كان عليه المسلمون من الدين القريب من النصرانية بل الذي هو إصلاح فيها وإكمال لها كما قررنا، لم يكن معروفا عند أولئك الصليبيين، بل كان للمسلمين صورة في مخيلاتهم غير صورتهم الصحيحة التي طبعها في نفوسهم الإسلام-صورة وثنية وحشية مشوهة أقبح التشويه، منعكسة عن الكتب والرسائل والخطب التي كان ينشئها بطرس الراهب وأمثاله. ولو وصف للمسلمين يومئذ قوم بما وصفهم به مثيرو الحرب الصليبية ودعوا إلى قتالهم لنفروا خفافا وثقالا. ثانيهما: إن ما في الإنجيل من روح السلام والمحبة والتواضع والإيثار، والخضوع لكل سلطان، لم ينتصر في أوربة على روح الحرب والأثرة والكبرياء وحب السيادة في الأرض- تلك الصفات التي كانت قد بلغت في عهد السلطة الرومانية أشدها، وكانت سبب إبادة الوثنيين من أوربة كلها، ثم سبب الحرب الصليبية، ومحاولة إبادة المسلمين من البلاد المقدسة أو الشرق كله، بل كانت ولا تزال سبب الحروب القاسية بين النصارى أنفسهم بسبب اختلاف المذاهب، أو التنازع على الممالك، وكل هذا من تعاليم روح الشيطان، لا من تأثير تعاليم روح الله عليه السلام... فعلم من هذا إن ما كان بين المسلمين والنصارى من عداء فإنما سببه بعد أحد الفريقين أو كل منهما عن هداية دينه، أو جهالة وسوء فهم وقع بينهما، وأمر المتأخر من دولهما ظاهر، لا ينسبه إلى طبيعة دينهما إلا جاهل أو مكابر...
فإن قيل: إن اليهودية أقرب إلى الإسلام من النصرانية لأنها ديانة توحيد، والنصرانية ديانة تثليث، والتوحيد هو أساس دين الله على ألسنة جميع رسله، وهو منتهى الكمال في العقائد. ولذلك يجوز أن يغفر الله كل ذنب إلا الشرك. فالجواب عن هذا إن عقيدة التثليث الدخيلة في المسيحية لما كانت لا تفهم ولا تعقل لم يكن لها تأثير في أنفس أهلها يبعدهم عن الإسلام. بل ربما كانت من أسباب قبول دعوة الإسلام، وإنما التأثير الأعظم في تقريب الناس بعضهم من بعض أو ضده: الأخلاق والآداب، وإننا نرى في كل عصر من الموادة بين المسلمين والنصارى ما لا نرى مثله بين غيرهما من المختلفين في الدين، وما ضعفت هذه المودة في بلد إلا بفتن السياسة، وعصبيات أهل الرياسة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
"يتألف هذا الجزء من بقية سورة المائدة -التي وردت أوائلها وسبق الحديث عنها في الجزء السادس- ومن أوائل سورة الأنعام إلى قوله تعالى: ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة... وسنرجئ الحديث عن هذا الشطر الثاني من هذا الجزء إلى موضعه -حين نستعرض سورة الأنعام، ونمضي هنا في الحديث عن الشطر الأول المكون من بقية سورة المائدة. لقد جاءت في التعريف بهذه السورة- في الجزء السادس -هذه العبارات: ""نزل هذا القرآن الكريم على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم لينشئ به أمة؛ وليقيم به دولة، ولينظم به مجتمعا؛ وليربي به ضمائر وأخلاقا وعقولا؛ وليجدد به روابط ذلك المجتمع فيما بينه، وروابط تلك الدولة مع سائر الدول، وعلاقات تلك الأمة بشتى الأمم.. وليربط ذلك كله برباط قوي واحد، يجمع متفرقه؛ ويؤلف أجزاءه؛ ويشدها كلها إلى مصدر واحد، وإلى سلطان واحد، وإلى جهة واحدة.. وذلك هو ""الدين ""كما هو في حقيقته عند الله؛ وكما عرفه المسلمون.. أيام أن كانوا"" مسلمين""! ""ومن ثم نجد في هذه السورة- كما وجدنا في السور الثلاث الطوال قبلها -موضوعات شتى؛ الرابط بينها هو هذا الهدف الأصيل الذي جاء القرآن كله لتحقيقه:إنشاء أمة، وإقامة دولة، وتنظيم مجتمع، على أساس من عقيدة خاصة، وتصور معين، وبناء جديد، الأصل فيه إفراد الله- سبحانه -بالألوهية والربوبية والقوامة والسلطان، وتلقي منهج الحياة وشريعتها ونظامها وموازينها وقيمها منه وحده بلا شريك."" وكذلك نجد بناء التصور الاعتقادي وتوضيحه وتخليصه من أساطير الوثنية وانحرافات أهل الكتاب وتحريفاتهم إلى جانب تعريف الجماعة المسلمة بحقيقة ذاتها، وحقيقة دورها، وطبيعة طريقها، وما في هذا الطريق من مزالق وأشواك وشباك يرصدها لها أعداؤها وأعداء هذا الدين.. إلى جانب أحكام الشعائر التعبدية التي تطهر روح الفرد المسلم، وروح الجماعة المسلمة وتربطها بربها.. إلى جانب التشريعات الاجتماعية التي تنظم روابط مجتمعها؛ والتشريعات الدولية التي تنظم علاقاتها بغيرها.. إلى جانب التشريعات التي تحلل وتحرم ألوانا من المآكل والمشارب والمناكح، وألوانا من الأعمال والمسالك.. كل ذلك حزمة واحدة في السورة الواحدة، تمثل معنى ""الدين"" كما أراده الله، وكما فهمه المسلمون.. أيام أن كانوا ""مسلمين "". وعلى ضوء هذا التصوير العام لطبيعة السورة ومحتوياتها، نستطيع أن نمضي مع بقيتها في هذا الجزء. فنجدها تضم بقية من موضوعات السورة التي أشرنا إليها، والتي سبق بعضها في الجزء السادس. نجد بقية عن المعسكرات المتعددة التي تواجه الأمة المسلمة في المدينة- ومن عجب أنها هي التي تواجه حركات البعث الإسلامي دائما -والعداء الذي تنطوي عليه صدورها؛ مع التفاوت في مواقف بعض هذه المعسكرات؛ وميل فئات منها للهدى كبعض فئات النصارى التي استجابت لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ولانت قلوبها لما سمعت من الهدى، وفازت بثواب الله وجنات تجري من تحتها الأنهار. ونجد بقية من الحديث عن حق التشريع بالحل والحرمة؛ والنهي عن الاعتداء بالتحريم والتحليل بغير سلطان من الله؛ وتذكير الذين آمنوا بتقوى الله في هذا الأمر الذي يتعلق به الإيمان والكفر بعد ما أعلنوا الإيمان. يتلو ذلك بقية من الأحكام التشريعية في الأيمان، والخمر والميسر والأنصاب والأزلام، والصيد في حالة الإحرام، وحرمة الكعبة والأشهر الحرم والهدي والقلائد.. مع التنبيه المتكرر إلى وجوب الالتزام والطاعة لما يشرعه الله- سبحانه -وما يأمر به نبيه صلى الله عليه وسلم والنهي والتحذير من المخالفة، والتهديد بالعذاب الأليم، والانتقام من الله، والتذكير بالله الذي إليه يحشرون. ثم بقية في تربية الجماعة المسلمة. بتقرير القيم التي تتعامل بها، فلا تعجبها كثرة الخبيث ولكن يعجبها الطيب الزكي. وفي أدبها الواجب مع ربها ومع رسولها. فلا تسأله عما لم يبده ولا تطلب تفصيل ما أجمله. ثم إبطال ما تبقى من تقاليد الجاهلية وشرائعها المتخلفة من شركها ووثنيتها، في بعض أنواع الأنعام والذبائح:كالبحيرة، والسائبة، والوصيلة والحامي.. مع تقرير المصدر الوحيد الصحيح للتشريع في أمور الحياة كلها؛ ورد الأمر في هذا إلى الله وحده، لا إلى عرف البشر واصطلاحهم. ذلك مع تنبيه الأمة المسلمة إلى تميزها بذاتها، وتضامنها فيما بينها، وانفصالها عن سواها؛ وتبعتها الخاصة، وبراءتها من تبعات أهل الضلال؛ ورد أمر جزائها وجزاء غيرها إلى الله وحده في دار الجزاء. وينتهي الحديث عن قضية التشريع كلها بحكم الإشهاد على الوصية في حالة السفر والبعد عن الحاضرة؛ وتنطيم الإسلام لمثل هذه الأقضية في مجتمع يجاهد في سبيل الله، ويضرب في الأرض كذلك للتجارة ابتغاء فضل الله. مع ربط التشريع بمخافة الله في الدنيا والآخرة. أما بقية السورة فتتضمن بقية في تصحيح عقيدة النصارى- من اهل الكتاب -ومن أجل هذا يعاد عرض طرف من قصة مريم وعيسى؛ والمعجزات التي أجراها الله على يديه؛ ومسألة المائدة التي طلبها الحواريون.. ثم تعرض قضية ألوهية عيسى وأمه ودعاوى النصارى فيها؛ حيث يكذب عيسى- عليه السلام -أن يكون هو قد ادعاها، ويبرى ء نفسه من هذه الفرية أمام ربه في مشهد مرهوب من مشاهد القيامة؛ ويدع أمر قومه لله ربه وربهم على ملأ من البشرية بأجمعها، والرسل- صلوات الله وسلامه عليهم -كلهم شهود.. وتختم السورة بتقرير ملكية الله للسماوات والأرض وما فيهن، وقدرته التي لا حدود لها ولا قيود: لله ملك السماوات والأرض وما فيهن، والله على كل شيء قدير.. ومن هذا الاستعراض السريع لبقية محتويات السورة، يتجلى التماسك في بنائها- حسب منهجها في تناول هذه المحتويات وهو المنهج الذي أشرنا إليه في مطالع السورة ونقلنا فقرات منه في مطلع هذا البيان الوجيز. فنمضي الآن بالتفصيل مع السورة في مواجهة النصوص:
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ولقد كان القرآن الكريم منصفا للحقيقة كشأنه دائما، عندما فرق بين النصارى من جانب واليهود والمشركين من جانب.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وفي ضوء هذا العرض البسيط الَّذي يجعلنا نعيش في الأجواء التاريخيّة لنزول هذه الآيات، نستطيع أن نعرف عقدة اليهود الّتي يحملونها ضدّ الإسلام والمسلمين في ما أثاروه ويُثيرونه من مشاكل وخلافات وهموم وتحديات للواقع الإسلامي على مدى التاريخ، لأنَّهم لا ينطلقون من قيمٍ فكريّةٍ وروحيّةٍ معيّنة في ما يخططون ويكيدون له في تصرفاتهم وأعمالهم وعلاقاتهم، بل ينطلقون من شعورٍ مريضٍ بالزهو والخيلاء والكبرياء والتفوّق على بقيّة الشعوب.