64- واستخفَّ واستنزل بدعائك إلى معصية الله من استعطت منهم ، وأفرغ جهدك في جميع أنواع الإغراء ، وشاركهم في كسب الأموال من الحرام وصرفها في الحرام ، وتكفير الأولاد وإغرائهم على الإفساد ، وعِدْهم المواعيد الباطلة كشفاعة آلهتهم ، والكرامة عند الله بأنسابهم ، وما يعد الشيطان أتباعه إلا بالتغرير والتمويه .
ثم أمره الله أن يفعل كل ما يقدر عليه من إضلالهم فقال : { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ } ويدخل في هذا كل داع إلى المعصية .
{ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } ويدخل فيه كل راكب وماش في معصية الله فهو من خيل الشيطان ورجله .
والمقصود أن الله ابتلى العباد بهذا العدو المبين الداعي لهم إلى معصية الله بأقواله وأفعاله .
{ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ } وذلك شامل لكل معصية تعلقت بأموالهم وأولادهم من منع الزكاة والكفارات والحقوق الواجبة ، وعدم تأديب الأولاد وتربيتهم على الخير وترك الشر وأخذ الأموال بغير حقها أو وضعها بغير حقها أو استعمال المكاسب الردية .
بل ذكر كثير من المفسرين أنه يدخل في مشاركة الشيطان في الأموال والأولاد ترك التسمية عند الطعام والشراب والجماع ، وأنه إذا لم يسم الله في ذلك شارك فيه الشيطان كما ورد فيه الحديث .
{ وَعِدْهُمْ } الوعود{[475]} المزخرفة التي لا حقيقة لها ولهذا قال : { وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا } أي : باطلا مضمحلا كأن يزين لهم المعاصي والعقائد الفاسدة ويعدهم عليها الأجر لأنهم يظنون أنهم على الحق ، وقال تعالى : { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا }
وقوله : { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ } قيل : هو الغناء . قال مجاهد : باللهو والغناء ، أي : استخفهم بذلك .
وقال ابن عباس في قوله : { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ } قال : كل داع دعا إلى معصية الله ، عز وجل ، وقال قتادة ، واختاره ابن جرير .
وقوله : { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } يقول : واحمل عليهم بجنودك خَيَّالتهم ورَجْلتَهم{[17645]} ؛ فإن " الرّجْل " جمع " راجل " ، كما أن " الركب " جمع " راكب " و " صحب " جمع " صاحب " .
ومعناه : تسلط عليهم بكل ما تقدرعليه . وهذا أمر قدري ، كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا } [ مريم : 83 ] أي : تزعجهم إلى المعاصي إزعاجًا ، وتسوقهم إليها{[17646]} سوقًا . وقال ابن عباس ، ومجاهد في قوله : { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } قال : كل راكب وماش في معصية الله .
وقال قتادة : إن له خيلا ورجالا من الجن والإنس ، وهم الذين يطيعونه .
وتقول العرب : " أجلب فلان على فلان " : إذا صاح عليه . ومنه : " نهى في المسابقة عن الجَلَب والجَنَب " ومنه اشتقاق " الجلبة " ، وهي ارتفاع الأصوات .
وقوله : { وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ } قال ابن عباس ومجاهد : هو ما أمرهم به من إنفاق الأموال في معاصي الله .
وقال عطاء : هو الربا . وقال الحسن : [ هو ]{[17647]} جمعها من خبيث ، وإنفاقها في حرام . وكذا قال قتادة .
وقال العوفي ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما : أما مشاركته إياهم في أموالهم ، فهو ما حرموه من أنعامهم ، يعني : من البحائر والسوائب ونحوها . وكذا قال الضحاك وقتادة .
[ ثم ]{[17648]} قال ابن جرير : والأولى أن يقال : إن الآية تعم ذلك كله .
وقوله : { وَالأولادِ } قال العوفي عن ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك : يعني أولاد الزنا .
وقال علي ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هو ما كانوا قتلوه من أولادهم سفهًا بغير علم .
وقال قتادة ، عن الحسن البصري : قد والله شاركهم في الأموال والأولاد مَجَّسُوا وهودوا ونَصّروا وصبغوا غير صبغة الإسلام ، وجَزَّؤوا من أموالهم جزءًا للشيطان{[17649]} وكذا قال قتادة سواء .
وقال أبو صالح ، عن ابن عباس : هو تسميتهم أولادهم " عبد الحارث " و " عبد شمس " و " عبد فلان " .
قال ابن جرير : وأولى الأقوال بالصواب أن يقال : كل مولود ولدته أنثى ، عصى الله فيه ، بتسميته ما{[17650]} يكرهه الله ، أو بإدخاله في غير الدين الذي ارتضاه الله ، أو بالزنا بأمه ، أو بقتله ووأده ، وغير ذلك من الأمور التي يعصي{[17651]} الله بفعله به أو فيه ، فقد دخل في مشاركة إبليس فيه من ولد ذلك الولد له أو منه ؛ لأن الله لم يخصص بقوله : { وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ } معنى الشركة فيه بمعنى دون معنى ، فكل ما عصي الله فيه - أو به ، وأطيع فيه الشيطان - أو به ، فهو مشاركة .
وهذا الذي قاله مُتَّجه ، وكل{[17652]} من السلف ، رحمهم الله ، فسر بعض المشاركة ، فقد ثبت في صحيح مسلم ، عن عياض بن حمار{[17653]} ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله عز وجل : إني خلقت عبادي حُنفاء ، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم{[17654]} عن دينهم ، وحَرّمت عليهم ما أحللت لهم " {[17655]} .
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال : بسم الله ، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فإنه إن يُقَدّر بينهما ولد في ذلك ، لم يضره الشيطان أبدًا " {[17656]} .
وقوله : { وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا } كما أخبر تعالى عن إبليس أنه يقول إذا حصحص الحق يوم يقضى بالحق : { إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } الآية [ إبراهيم : 22 ] .
الاستفزاز : طلب الفَزّ ، وهو الخفة والانزعاج وترك التثاقل . والسين والتاء فيه للجَعل الناشىء عن شدة الطلب والحث الذي هو أصل معنى السين والتاء ، أي استخفهم وأزعجهم .
والصوت : يطلق على الكلام كثيراً ، لأن الكلام صوت من الفم . واستعير هنا لإلقاء الوسوسة في نفوس الناس . ويجوز أن يكون مستعملاً هنا تمثيلاً لحالة إبليس بحال قائد الجيش فيكون متصلاً بقوله : { وأجلب عليهم بخيلك } كما سيأتي .
والإجْلاب : جَمْع الجيش وسوقه ، مشتق من الجَلَبة بفتحتين ، وهي الصياح ، لأن قائد الجيش إذا أراد جمع الجيش نادى فيهم للنفير أو للغارة والهجوم .
والخيل : اسم جمع الفَرس . والمراد به عند ذكر ما يدل على الجيش الفرسان . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم « يا خيلَ الله اركبي » وهو تمثيل لحال صرف قوته ومقدرته على الإضلال بحال قائد الجيش يجمع فرسانه ورجالته . .
ولما كان قائد الجيش ينادي في الجيش عند الأمر بالغارة جاز أن يكون قوله : { واستفزز من استطعت منهم بصوتك } من جملة هذا التمثيل .
والرّجْل : اسم جمع الرجال كصحب . وقد كانت جيوش العرب مؤلفة من رجالة يقاتلون بالسيوف ومن كتائب فرسان يقاتلون بنضح النبال ، فإذا التحموا اجتلدوا بالسيوف جميعاً . قال أنيْف بن زَبان النّبْهاني :
وتحت نحور الخيل حرشف رَجْلة *** تتاح لحبات القلوب نبالها
فلما التقينا بيّن السيفُ بيننا *** لسائلةٍ عنا حَفِيّ سؤالُها
والمعنى : أجْمِع لمن اتبعك من ذرية آدم وسائلَ الفتنة والوسوسة لإضلالهم . فجعلت وسائل الوسوسة بتزيين المفاسد وتفظيع المصالح كاختلاف أصناف الجيش ، فهذا تمثيل حال الشيطان وحال متبعيه من ذرية آدم بحال من يغزو قوماً بجيش عظيم من فرسان ورجالة .
وقرأ حفص عن عاصم { ورجلك } بكسر الجيم ، وهو لغة في رَجُل مضموم الجيم ، وهو الواحد من الرجال . والمراد الجنس . والمعنى : بخيلك ورجالك ، أي الفرسان والمشاة .
والباء في { بخيلك } إما لتأكيد لصوق الفعل لمفعوله فهي لمجرد التأكيد . ومجرورها مفعول في المعنى لفعل { أجلب } مثل { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] ؛ وإما لتضمين فعل { أجلب } معنى ( اغزُهم ) فيكون الفعل مضمناً معنى الفعل اللازم وتكون الباء للمصاحبة .
والمشاركة في الأموال : أن يكون للشيطان نصيب في أموالهم وهي أنعامهم وزروعهم إذ سول لهم أن يجعلوا نصيباً في النتاج والحرث للأصنام . وهي من مصارف الشيطان لأن الشيطان هو المسول للناس باتخاذها ، قال تعالى : { وجعلوا لله ما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا } [ الأنعام : 136 ] .
وأما مشاركة الأولاد فهي أن يكون للشيطان نصيب في أحوال أولادهم مثل تسويله لهم أن يئدوا أولادهم وأن يستولدوهم من الزنى ، وأن يُسمّوهم بعبدة الأصنام ، كقولهم : عبد العُزى ، وعبد اللات ، وزيد مناة ، ويكون انتسابه إلى ذلك الصنم .
ومعنى { عِدْهُمْ } أعطهم المواعيد بحصول ما يرغبونه كما يسول لهم بأنهم إن جعلوا أولادهم للأصنام سلِم الآباء من الثكل والأولادُ من الأمراض ، ويسول لهم أن الأصنام تشفع لهم عند الله في الدنيا وتضمن لهم النصر على الأعداء ، كما قال أبو سفيان يوم أحُد « أعْلُ هبل » . ومنه وعدهم بأنهم لا يخشون عذاباً بعد الموت لإنكار البعث ، ووعد العصاة بحصول اللذات المطلوبة من المعاصي مثل الزنى والسرقة والخمر والمقامرة .
وحذف مفعول { وعدهم } للتعميم في الموعود به . والمقام دال على أن المقصود أن يعدهم بما يرغبون لأن العدة هي التزام إعطاء المرغوب . وسماه وعداً لأنه يوهمهم حصوله فيما يستقبل فلا يزالون ينتظرونه كشأن الكذاب أن يحتزر عن الإخبار بالعاجل لقرب افتضاحه فيجعل مواعيده كلها للمستقبل .
ولذلك اعترض بجملة { وما يعدهم الشيطان إلا غروراً } .
والغرور : إظهار الشيء المكروه في صورة المحبوب الحسن . وتقدم عند قوله تعالى : { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد } في سورة [ آل عمران : 196 ] ، وقوله : { زخرف القول غرورا } في سورة [ الأنعام : 112 ] . والمعنى : أن ما سوله لهم الشيطان في حصول المرغوب إما باطل لا يقع ، مثل ما يسوله للناس من العقائد الفاسدة وكونه غروراً لأنه إظهار لما يقع في صورة الواقع فهو تلبيس ؛ وإما حاصل لكنه مكروه غير محمود بالعاقبة ، مثل ما يسوله للناس من قضاء دواعي الغضب والشهوة ومحبة العاجل دون تفكير في الآجل ، وكل ذلك لا يخلو عن مقارنة الأمر المكروه أو كونه آيلاً إليه بالإضرار . وقد بسط هذا الغزالي في كتاب الغرور من كتاب إحياء علوم الدين .
وإظهار اسم الشيطان في قوله : { وما يعدهم الشيطان } دون أن يؤتى بضميره المستتر لأن هذا الاعتراض جملة مستقلة فلو كان فيها ضمير عائد إلى ما في جملةٍ أخرى لكان في النثر شبه عيب التضمين في الشعر ، ولأن هذه الجملة جارية مجرى المثل فلا يحسن اشتمالها على ضمير ليس من أجزائها .