36- ولكن إبليس الحاسد لآدم والحاقد عليه أخذ يحتال عليهما ويغريهما بالأكل من الشجرة حتى زلاّ فأكلا منها ، فأخرجهما الله مما كانا فيه من النعيم والتكريم ، وأمرهما الله تعالى بالنزول إلى الأرض ليعيشا هما وذريتهما فيها ، ويكون بعضهم لبعض عدواً بسبب المنافسة وإغواء الشيطان ، ولكم في الأرض مكان استقرار وتيسير للمعيشة ، وتمتع ينتهي بانتهاء الأجل .
فلم يزل عدوهما يوسوس لهما ويزين لهما تناول ما نهيا عنه ، حتى أزلهما ، أي : حملهما على الزلل بتزيينه . { وَقَاسَمَهُمَا } بالله { إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } فاغترا به وأطاعاه ، فأخرجهما مما كانا فيه من النعيم والرغد ، وأهبطوا إلى دار التعب والنصب والمجاهدة .
{ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } أي : آدم وذريته ، أعداء لإبليس وذريته ، ومن المعلوم أن العدو ، يجد ويجتهد في ضرر عدوه وإيصال الشر إليه بكل طريق ، وحرمانه الخير بكل طريق ، ففي ضمن هذا ، تحذير بني آدم من الشيطان كما قال تعالى { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا }
ثم ذكر منتهى الإهباط إلى الأرض ، فقال : { وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ } أي : مسكن وقرار ، { وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } انقضاء آجالكم ، ثم تنتقلون منها للدار التي خلقتم لها ، وخلقت لكم ، ففيها أن مدة هذه الحياة ، مؤقتة عارضة ، ليست مسكنا حقيقيا ، وإنما هي معبر يتزود منها لتلك الدار ، ولا تعمر للاستقرار .
وقوله تعالى : { فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا } يصح أن يكون الضمير في قوله : { عَنْهَا } عائدا إلى الجنة ، فيكون معنى الكلام كما قال{[1590]} [ حمزة و ]{[1591]} عاصم بن بَهْدلَة ، وهو ابن أبي النَّجُود ، فأزالهما ، أي : فنجَّاهما . ويصح أن يكون عائدا على أقرب المذكورين ، وهو الشجرة ، فيكون معنى الكلام كما قال الحسن وقتادةُ { فأزلهما } أي : من قبيل{[1592]} الزلل ، فعلى هذا يكون تقدير الكلام { فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا } أي : بسببها ، كما قال تعالى : { يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } [ الذاريات : 9 ] أي : يصرف بسببه من هو مأفوك ؛ ولهذا قال تعالى : { فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } أي : من اللباس والمنزل الرحب والرزق الهنيء والراحة .
{ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } أي : قرار وأرزاق وآجال { إِلَى حِينٍ } أي : إلى وقت مؤقت ومقدار معين ، ثم تقوم القيامة .
وقد ذكر المفسرون من السلف كالسُّدِّي بأسانيده ، وأبي العالية ، ووهب بن مُنَبِّه وغيرهم ، هاهنا أخبارا إسرائيلية عن قصة الحَيَّة ، وإبليس ، وكيف جرى من دخول إبليس إلى الجنة ووسوسته ، وسنبسط ذلك إن شاء الله ، في سورة الأعراف ، فهناك القصة أبسط منها هاهنا ، والله الموفق .
وقد قال ابن أبي حاتم هاهنا : حدثنا علي بن الحسن بن إشكاب ، حدثنا علي بن عاصم ، عن سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله خلق آدم رجلا طُوَالا كثير شعر الرأس ، كأنه نخلة سَحُوق ، فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه ، فأول ما بدا منه عورته ، فلما نظر إلى عورته جعل يَشْتَد{[1593]} في الجنة ، فأخذت شَعْرَه شجرةٌ ، فنازعها ، فناداه الرحمن : يا آدم ، مني تَفِرُّ ! فلما سمع كلام الرحمن قال : يا رب ، لا ولكن استحياء " {[1594]} .
قال : وحدثني جعفر بن أحمد بن الحكم القومشي{[1595]} سنة أربع وخمسين ومائتين ، حدثنا سليم{[1596]} بن منصور بن عمار ، حدثنا علي بن عاصم ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أبي بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما ذاق آدم من الشجرة فَرَّ هاربا ؛ فتعلقت شجرة بشعره ، فنودي : يا آدم ، أفِرارًا مني ؟ قال : بل حَيَاء منك ، قال : يا آدم اخرج من جواري ؛ فبعزتي لا يساكنني فيها من عصاني ، ولو خلقت مِثْلَك ملء الأرض خَلْقًا ثم عصوني لأسكنتهم دار العاصين " {[1597]} .
هذا حديث غريب ، وفيه انقطاع ، بل إعضال بين قتادة وأبي بن كعب ، رضي الله عنهما{[1598]} .
وقال الحاكم : حدثنا أبو بكر بن بَالُويه{[1599]} ، عن محمد بن أحمد بن النضر ، عن معاوية بن عمرو ، عن زائدة ، عن عَمَّار بن معاوية البَجَلي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : ما أسكن آدم الجنة إلا ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس . ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه .
وقال عبد بن حميد في تفسيره : حدثنا رَوح ، عن هشام ، عن الحسن ، قال : لبث آدم في الجنة ساعة من نهار ، تلك الساعة ثلاثون ومائة سنة من أيام الدنيا .
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، قال : خرج آدم من الجنة للساعة التاسعة أو العاشرة ، فأخرج آدم معه غصنًا من شجر الجنة ، على رأسه تاج من شجر الجنة وهو الإكليل من ورق الجنة .
وقال السدي : قال الله تعالى : { اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا } فهبطوا فنزل آدم بالهند ، ونزل معه الحجر الأسود ، وقبضة{[1600]} من ورق الجنة فبثه بالهند ، فنبتت شجرة الطيب ، فإنما أصل ما يجاء به من الهند من الطيب من قبضة الورق التي هبط بها آدم ، وإنما قبضها آدم أسفا على الجنة حين أخرج منها{[1601]} .
وقال عمران بن عيينة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : أهبط آدم من الجنة بِدَحْنا ، أرض الهند .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن سعيد عن ابن عباس قال : أهبط آدم ، عليه السلام ، إلى أرض يقال لها : دَحْنا ، بين مكة والطائف .
وعن الحسن البصري قال : أهبط آدم بالهند ، وحواء بجدة ، وإبليس بدَسْتُمِيسان{[1602]} من البصرة على أميال ، وأهبطت الحية بأصبهان . رواه ابن أبي حاتم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار بن الحارث ، حدثنا محمد بن سعيد بن سابق ، حدثنا عمرو بن أبي قيس ، عن ابن عدي{[1603]} ، عن ابن عمر ، قال : أهبط آدم بالصفا ، وحواء بالمروة
وقال رجاء بن سلمة : أهبط آدم ، عليه السلام ، يداه على ركبتيه مطأطئًا رأسه ، وأهبط إبليس مشبكا بين صابعه رافعا رأسه إلى السماء .
وقال عبد الرزاق : قال مَعْمَر : أخبرني عَوْف عن قَسَامة بن زهير ، عن أبي موسى ، قال : إن الله حين أهبط آدم من الجنة إلى الأرض ، عَلَّمه صنعة كل شيء ، وزوده من ثمار الجنة ، فثماركم هذه من ثمار الجنة ، غير أن هذه تتغير وتلك لا تتغير{[1604]} .
وقال الزهري عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ، فيه خلق آدم ، وفيه أدخل الجنة ، وفيه أخرج منها » رواه مسلم والنسائي{[1605]} .
وقال فخر الدين : اعلم أن في هذه الآيات تهديدًا عظيما عن كل المعاصي من وجوه : الأول : أن من تصور ما جرى على آدم بسبب إقدامه على هذه الزلة الصغيرة كان على وجل شديد من المعاصي ، قال الشاعر :
يا ناظرا يرنو بعيني راقد *** ومشاهدا للأمر غير مشاهد
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي *** درج الجنان ونيل فوز العابد .
أنسيت ربك حين أخرج آدما *** منها إلى الدنيا بذنب واحد
قال فخر الدين عن فتح الموصلي أنه قال : كنا قوما من أهل الجنة فسبانا إبليس إلى الدنيا ، فليس لنا إلا الهم والحزن حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا منها . فإن قيل : فإذا كانت جنة آدم التي أسكنها في السماء كما يقوله الجمهور من العلماء ، فكيف يمكن إبليس من دخول الجنة ، وقد طرد من هنالك طردًا قدريًّا ، والقدري لا يخالف ولا يمانع ؟ فالجواب : أن هذا بعينه استدل به من يقول : إن الجنة التي كان فيها آدم في الأرض لا في السماء ، وقد بسطنا هذا في أول كتابنا البداية والنهاية ، وأجاب الجمهور بأجوبة ، أحدها : أنه منع من دخول الجنة مكرما ، فأما على وجه الردع والإهانة ، فلا يمتنع ؛ ولهذا قال بعضهم : كما جاء في التوراة أنه دخل في فم الحية إلى الجنة ، وقد قال بعضهم : يحتمل أنه وسوس لهما وهو خارج باب الجنة ، وقال بعضهم : يحتمل أنه وسوس لهما وهو في الأرض ، وهما في السماء ، ذكرها الزمخشري وغيره . وقد أورد القرطبي هاهنا أحاديث في الحيات وقتلهن وبيان حكم ذلك ، فأجاد وأفاد{[1606]} .
الفاء عاطفة على قوله : { ولا تقربا } [ البقرة : 35 ] وحَقها إفادة التعقيب فيكون التعقيب عرفياً لأن وقوع الإزلال كان بعدَ مضي مدة هي بالنسبة للمدة المرادة من سكنى الجنة كالأَمد القليل . والأحسن جعل الفاء للتفريع مجردة عن التعقيب .
والإزلال جعل الغير زَالاًّ أي قائماً به الزلل وهو كالزَلَق أن تسير الرجلان على الأرض بدون اختيار لارتخاء الأرض بطين ونحوه ، أي ذاهبة رجلاه بدون إرادة ، وهو مجاز مشهور في صدور الخطيئة والغلط المضر ومنه سمي العصيان ونحوه الزلل .
والضمير في قوله : { عنها } يجوز أن يعود إلى الشجرة لأنها أقرب وليتبين سبب الزلة وسبب الخروج من الجنة إذ لو لم يجعل الضمير عائداً إلى الشجرة لخلت القصة عن ذكر سبب الخروج . و { عن } في أصل معناها أي أزلهما إزلالاً ناشئاً عن الشجرة أي عن الأكل منها ، وتقدير المضاف دل عليه قوله : { ولا تقربا هذه الشجرة } ، وليست { عن } للسببية ومن ذكر السببية أراد حاصل المعنى كما قال أبو عبيدة في قوله تعالى : { وما ينطق عن الهوى } [ النجم : 3 ] أن معناه وما ينطق بالهوى فقال الرضي : الأوْلى أن { عن } بمعناها وأن الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف أي نطقاً صادراً عن الهوى . ويجوز كون الضمير للجنة وتكون { عن } على ظاهرها والإزلال مجازاً في الإخراج بكره والمراد منه الهبوط من الجنة مكرهين كمن يزل عن موقفه فيسقط كقوله : « وكم منزل لولايَ طِحْتَ » .
وقولُه : { فأخرجهما مما كانا فيه } تفريع عن الإزلال بناء على أن الضمير للشجرة ، والمراد من الموصول وصلته التعظيم ، كقولهم قد كان ما كان ، فإن جعلت الضمير في قوله : { عنها } عائداً إلى الجنة كان هذا التفريع تفريع المفصَّل عن المجمل وكانت الفاء للترتيب الذكْري المجرَّد كما في قوله تعالى : { وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتاً أوْ هُم قائلون } [ الأعراف : 4 ] وقوله : { كذَّبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدُجِر } [ القمر : 9 ] . أما دلالة الموصول عن التعظيم فهي هي .
وقرأ حمزة « فأزالهما » بألف بعد الزاي وهو من الإزالة بمعنى الإبعاد ، وعلى هذه القراءة يتعين أن يكون ضمير { عنها } عائداً إلى الجنة لا إلى الشجرة . وقد نُبه عليه بخصوصه مع العلم بأن من خَرج من الجنة فقد خرج مما كان فيه إحضاراً لهذه الخسارة العظيمة في ذهن السامعين حتى لا تكون استفادتها بدلالة الالتزام خاصة فإنها دلالة قد تخفى فكانت إعادته في هذه الصلة بمرادفه كإعادته بلفظه في قوله تعالى : { فغَشِيَهم من اليَمِّ ما غَشِيَهُم } [ طه : 78 ] .
وتفيد الآية إثارة الحسرة في نفوس بني آدم على ما أصاب آدم من جراء عدم امتثاله لوصاية الله تعالى وموعظة تُنبِّهُ بوجوب الوقوف عند الأمر والنهي والترغيب في السعي إلى ما يعيدهم إلى هذه الجنة التي كانت لأبيهم وتربيةِ العداوة بينهم وبين الشيطان وجنده إذ كان سبباً في جر هذه المصيبة لأبيهم حتى يكونوا أبداً ثأراً لأبيهم مُعادين للشيطان ووسوسته مسيئين الظنون بإغرائه كما أشار إليه قوله تعالى : { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة } [ الأعراف : 27 ] وقوله هنا : { بعضكم لبعض عدو } . وهذا أصل عظيم في تربية العامة ولأجله كان قادة الأمم يذكرون لهم سوابق عداوات منافسيهم ومَن غلبهم في الحروب ليكون ذلك باعثاً على أخذ الثأر .
وعطفُ { وقلنا اهبطوا } بالواو دون الفاء لأنه ليس بمتُفرِّع عن الإخراج بل هو متقدم عليه ولكن ذكر الإخراج قبل هذا لمناسبةِ سياقِ ما فعله الشيطان وغروره بآدم فلذلك قدم قوله : { فأخرجهما } إثر قوله : { فأزلهما الشيطان } . ووجه جمع الضمير في { اهبطوا } قيل لأن هبوط آدم وحواءَ اقتضى أن لا يوجد نسلهما في الجنة فكان إهباطهما إهباطاً لنسلهما ، وقيل الخطاب لهما ولإبليس وهو وإن أُهبط عند إبايته السجود كما أفاده قوله تعالى في سورة الأعراف { قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين } [ الأعراف : 12 ، 13 ] إلى قوله { قال اخرجْ منها مذءوماً مدحوراً } [ الأعراف : 18 ] إلى قوله { ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة } [ الأعراف : 19 ] فهذا إهباط ثان فيه تحجير دخول الجنة عليه والإهباطُ الأول كان إهباطَ مَنع من الكرامة مع تمكينه من الدخول للوسوسة وكلا الوجهين بعيد ، فالذي أراه أن جمع الضمير مراد به التثنية لكراهية توالي المثنيات بالإظهار والإضمار من قوله : { وكُلا منها رغداً } [ البقرة : 35 ] والعرب يستثقلون ذلك قال امرؤ القيس :
وقوفاً بها صحبي عليَّ مطيَّهم *** يقُولون لا تهلك أسىً وتجمل
وإنما له صاحبان لقوله : « قفا نبك » إلخ وقال تعالى : { فقد صَغَت قلوبكما } وسيأتي في سورة التحريم ( 4 ) .
وقوله : { بعضكم لبعض عدو } يحتمل أن يراد بالبعض بعض الأنواع وهو عداوة الإنس والجن . إن كان الضمير في { اهبطوا } لآدم وزوجه وإبليس ، ويحتمل أن يراد عداوة بعض أفراد نوع البشر ، إن كان ضمير { اهبطوا } لآدم وحواء فيكون ذلك إعلاماً لهما بأثر من آثار عملهما يورث في بنيهما ، ولذلك مبدأ ظهور آثار الاختلاف في تكوين خلقتهما بأن كان عصيانهما يورث في بنيهما ، ولذلك مبدأ ظهور آثار الاختلال في تكوين خلقتهما بأن كان عصيانهما يورث في أنفسهما وأنفس ذريتهما داعية التغرير والحيلة على حد قوله تعالى : { إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم } فإن الأخلاق تورث وكيف لا وهي مما يعدى بكثرة الملابسة والمصاحبة وقد قال أبو تمام :
* لأعْديتني بالحلم إن العلا تعدي *
ووجه المناسبة بين هذا الأثر وبين منشئه الذي هو الأكل من الشجرة أن الأكل من الشجرة كان مخالفة لأمر الله تعالى ورفضاً له وسوء الظن بالفائدة منه دعا لمخالفته الطمع والحرص على جلب نفع لأنفسهما ، وهو الخلود في الجنة والاستئثار بخيراتها مع سوء الظن بالذي نهاهما عن الأكل منها وإعلامه لهما بأنهما إن أكلا منها ظلما أنفسهما لقول إبليس لهما : { ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين } [ الأعراف : 20 ] فكذلك كانت عداوة أفراد البشر مع ما جبلوا عليه من الألفة والأنس والاتحاد منشؤها رفض تلك الألفة والاتحاد لأجل جلب النفع للنفس وإهمال منفعة الغير ، فلا جرم كان بين ذلك الخاطر الذي بعثهما على الأكل من الشجرة وبين أثره الذي بقي في نفوسهما والذي سيورثونه نسلهما فيخلق النسل مركبة عقولهم على التخلق بذلك الخلق الذي طرأ على عقل أبويهما ، ولا شك أن ذلك الخلق الراجع لإيثار النفس بالخير وسوء الظن بالغير هو منبع العداوات كلها لأن الواحد لا يعادي الآخر إلا لاعتقاد مزاحمة في منفعة أو لسوء ظن به في مضرة . وفي هذا إشارة إلى مسألة أخلاقية وهي أن أصل الأخلاق حسنها وقبيحها هو الخواطر الخيرة والشريرة ثم ينقلب الخاطر إذا ترتب عليه فعل فيصير خلقاً وإذا قاومه صاحبه ولم يفعل صارت تلك المقاومة سبباً في اضمحلال ذلك الخاطر ، ولذلك حذرت الشريعة من الهم بالمعاصي وكان جزاء ترك فعل ما يهم به منها حسنة وأمرت بخواطِر الخير فكان جزاء مجردِ الهمِّ بالحسنة حسنةً ولو لم يعملها وكان العمل بذلك الهَم عشرَ حسنات كما ورد في الحديث الصحيح : " مَن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة " ثم قال " ومَنْ همَّ بسيئة فعملها كُتبت له سيئةٌ واحدة " وجعل العفو عن حديث النفس مِنَّة من الله تعالى ومغفرة في حديث " إن الله تجاوز عن أمتي فيما حدثت به نفوسها "
إن الله تعالى خلق الإنسان خَيِّراً سالماً من الشرور والخواطر الشريرة على صفة مَلَكية وهو معنى { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } [ التين : 4 ] ثم جعله أطواراً فأولها طور تعليمِه النطقَ ووضعِ الأسماء للمسميات لأن ذلك مبدأُ المعرفة وبه يكون التعليم أي يعلم بعض أفراده بعضاً ما علِمَه وجَهِلَهُ الآخر فكان إلهامُه اللغة مبدأَ حركة الفكر الإنساني وهو مبدأ صالح للخير ومعين عليه لأن به علَّم الناسُ بعضهم بعضاً ولذلك ترى الصبي يرى الشيءَ فيسرعُ إلى قرنائه يُناديهم ليَرَوْهُ معه حرصاً على إفادتهم فكان الإنسان معلِّماً بالطبع وكان ذلك معيناً على خيريته إلا أنه صالح أيضاً لاستعمال النطق في التمويه والكذب ؛ ثم إن الله تعالى لما نهاه عن أمر كلَّفه بما في استطاعته أن يمتثله وأن يخالفه فتلك الاستطاعة مبدأ حركة نفسه في الحرص والاستئثار فكان خَلْق الله تعالى إياه على تلك الاستطاعة مبدأ طَور جديد هو المشار إليه بقوله : { ثم رَدَدْناه أَسفل سافلين } [ التين : 5 ] ، ثم هداه بواسطة الشرائع فصار باتباعها يبلغ إلى مراتب الملائكة ويرجع إلى تقويمه الأول وذلك معنى قوله : { إلا الذين آمنُوا وعملوا الصالحات } [ التين : 6 ] وقد أشير إلى هذا الطور الأخير بقوله فيما يأتي : { فإما يأتينكم مني هُدى فَمَنْ تَبِعَ هُداي } [ البقرة : 38 ] الآية .
وجملة { بعضكم لبعض عدو } إما مستأنفة استئنافاً ابتدائياً وإما جملة حال من ضير { اهبطوا } وهي اسمية خلت من الواو ، وفي اعتبار الجملة الاسمية الخالية من الواو حالا خلاف بين أئمة العربية ، منع ذلك الفراء والزمخشري وأجازه ابن مالك وجماعة . والحق عندي أن الجملة الحالية تستغني بالضمير عن الواو وبالواو عن الضمير فإذا كانت في معنى الصفة لصاحبها اشتملت على ضميره أو ضمير سببيِّه فاستغنت عن الواو نحو الآية ونحوجاء زيد يَدُه على رأسه أو أَبُوه يرافقه ، وإلا وجبت الواو إذ لا رابط حينئذ غيرُها نحو جاء زيد والشمسُ طالعة وقولِ تأبط شراً :
فخالط سَهْلَ الأرضِ لَمْ يَكْدَح الصَّفَا *** به كَدْحَةً والموتُ خَزيان يَنْظُر
وقوله : { ولكم في الأرض مستقر } ضميره راجع إلى ما رجع إليه ضمير { اهبطوا } على التقادير كلها . والحين الوقت والمراد به وقت انقراض النوع الإنساني والشيطاني بانقراض العالم ، ويحتمل أن يكون المراد من ضمير { لكم } التوزيعَ أي ولكل واحد منكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين . وإنما كان ذلك متاعاً لأن الحياة أمر مرغوب لسائر البشر على أن الحياة لا تخلو من لذات وتمتع بما وَهَبَنا الله من الملائمات . هذا إن أريد بالخبر المجموع أي لجميعكم وإن أريد به التوزيع فالحين هو وقت موت كل فرد على حدِّ قولك للجيش : هذه الأفْراس لكم أي لكل واحد منكم فرس .