الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيۡطَٰنُ عَنۡهَا فَأَخۡرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِۖ وَقُلۡنَا ٱهۡبِطُواْ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوّٞۖ وَلَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُسۡتَقَرّٞ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٖ} (36)

{ فأَزَلَّهُمَا }[ البقرة :36 ] مأخوذ من الزَّلَلِ ، وهو في الآية مجازٌ ، لأنه في الرأْي والنَّظر ، وإنما حقيقة الزَّلَلِ في القَدَمِ . وقرأ حمزة : «فأَزَالَهُمَا » مأخوذ من الزوالِ ، ولا خلاف بين العلماء أن إبليس اللعينَ هو متولِّي إغواء آدم عليه السلام ، واختلف في الكيفيَّة .

فقال ابن عباس ، وابن مسعود ، وجمهور العلماء : أغواهما مشافهةً ، بدليل قوله تعالى : { وَقَاسَمَهُمَا } [ الأعراف : 21 ] ، والمقاسمة ظاهرها المشافهةُ .

وقالت طائفةٌ : إن إبليس لم يدخُلِ الجنةَ بعد أن أخرج منها ، وإنما أغوى آدم بشيطانِهِ ، وسُلْطَانه ، ووَسَاوِسِهِ ، التي أعطاه اللَّه تعالى ، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : ( إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِن ابن آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ ) .

( ت ) وإلى هذا القوْلِ نَحَا المَازِرِيُّ في بعض أجوبته ، ومن ابتلي بشيء من وسوسة هذا اللعينِ ، فأعظم الأدوية له الثقَةُ باللَّه ، والتعوُّذ به ، والإعراض عن هذا اللعين ، وعدمُ الالتفاتِ إليه ما أمكن . قال ابن عطاءِ اللَّه في «لَطَائِفِ المِنَنِ » : كان بي وسواسٌ في الوضوءِ ، فقال لي الشيخُ أبو العبَّاس المُرْسِيُّ : إن كنت لا تترك هذه الوسوسةَ لا تَعْدُ تَأْتِينَا ، فَشَقَّ ذلك علَيَّ ، وقطع اللَّه الوسواسَ عني ، وكان الشيخ أبو العباس يُلَقِّنُ للوسواسِ : سُبْحَانَ المَلِكِ الخَلاَّقِ ، { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ }[ إبراهيم :19 ] { وَمَا ذلك عَلَى الله بِعَزِيزٍ } [ فاطر : 17 ] انتهى .

قال عِيَاضٌ في «الشِّفا » : وأما قصة آدم عليه السلام ، وقوله تعالى : { فَأَكَلاَ مِنْهَا } [ طه : 121 ] بعد قوله : { وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة فَتَكُونَا مِنَ الظالمين }[ البقرة :35 ] ، وقوله تعالى : { أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة } [ الأعراف : 22 ] وتصريحه تعالى عليه بالمعصية بقوله : { وعصى ءادَمُ رَبَّهُ فغوى } [ طه : 121 ] أي : جهل ، وقيل : أخطأ ، فإن اللَّه تعالى قد أخبر بعذره بقوله : { وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلى ءَادَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [ طه : 115 ] قال ابن عبَّاس : نسي عداوة إِبليس ، وما عهد اللَّه إِليه من ذلك ، بقوله :

{ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ . . . } [ طه : 117 ] الآيَة ، وقيل : نسي ذلك بما أظهر لهما ، وقال ابن عباس : إنما سمي الإنسان إنساناً لأنه عهد إِليه فنسي ، وقيل : لم يقصد المخالفة ، استحلالا لها ، ولكنهما اغترا بِحَلِفِ إِبليس لهما : { إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين } [ الأعراف : 21 ] وتوهَّما أن أحداً لا يحلف باللَّه حانِثاً ، وقد روي عذر آدم مثل هذا في بعض الآثار ، وقال ابن جُبَيْر : حلف باللَّه لهما حتى غَرَّهُمَا ، والمؤمن يخدع ، وقد قيل : نسي ، ولم ينو المخالفَةَ ، فلذلك قال تعالى : { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [ طه : 115 ] أَيْ : قَصْداً للمخالفةِ ، وأكثر المفسرين على أن العزمَ هنا الحزمُ ، والصبرُ ، وقال ابن فُورَكَ وغيره : إِنه يمكن أن يكون ذلك قبل النبوءة ، ودليل ذلك قوله تعالى : { وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهدى } [ طه : 121 ، 122 ] فذكر أن الاجتباء والهداية كانا بعد العصيان ، وقيل : بل أكلها ، وهو متأوِّل ، وهو لا يعلم أنَّها الشجرة التي نهي عنها ، لأنه تأول نهي اللَّه تعالى عن شجرة مخصوصةٍ ، لا على الجنْسِ ، ولهذا قيل : إنما كانت التوبةُ من ترك التحفُّظ ، لا من المخالفة ، وقيل : تأول أن اللَّه تعالى لم ينهه عنها نَهْيَ تحريمٍ ، انتهى بلفظه فجزاه اللَّه خيرًا ، ولقد جعل اللَّه في شِفَاهُ شِفَاءً .

والضمير في { عَنْهَا }[ البقرة :36 ] يعود على الجنة ، وهنا محذوفٌ يدلُّ عليه الظاهر ، تقديره : فَأَكَلاَ مِنَ الشَّجَرَةِ .

وقوله تعالى : { فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ }[ البقرة :36 ]

قيل معناه : مِنْ نعمة الجنَّةِ إلى شقاء الدنيا ، وقيل : من رفعة المنزلةِ إلى سُفْل مكانة الذنب .

( ت ) وفي هذا القول ما فيه ، بل الصوابُ ما أشار إليه صاحب «التَّنْوِيرِ » ، بأن إخراج آدَم لم يكن إهانة له ، بل لما سبق في علمه سبحانه من إكرام آدم ، وجعله في الأرض خليفةً ، هو وأخيارَ ذرّيته ، قائمين فيها بما يجبُ للَّه من عبادتِهِ ، والهبوطُ النزولُ من عُلْو إلى سُفْل ، واختلف من المخاطَبُ بالهبوط .

فقال السُّدِّيُّ وغيره : آدم وحَوَّاء ، وإِبليس ، والحَيَّة التي أدخلت إبليس في فَمِها ، وقال الحسن : آدمُ وحواءُ والوَسْوَسَة .

و{ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ }[ البقرة :36 ] جملةٌ في موضع الحال ، { وَلَكُمْ في الأرض مُسْتَقَرٌّ }[ البقرة :36 ] ، أيْ : موضع استقرار ، وقيل : المراد الاستقرار في القبور ، والمتاع : ما يستمتع به من أكل ولُبْس ، وحَدِيثٍ ، وأنس ، وغيرِ ذلك .

واختلف في «الحِينِ » هنا فقالت فرقةٌ : إلى المَوْتِ ، وهذا قولُ من يقول : المستقرُّ هو المُقام في الدنيا ، وقالت فرقة : { إلى حِينٍ } : إلى يومِ القيامةِ ، وهذا هو قول من يقول : المستَقَرُّ هو في القبور ، والحِينُ المدَّة الطويلة من الدهر ، أقصرها في الأيمان ، والالتزامات سَنَةٌ قال اللَّه تعالى : { تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ } [ إبراهيم : 25 ] وقيل : أقصرها ستَّةُ أشهر ، لأن من النخل ما يطعم في كلِّ ستة أشهر .

وفي قوله تعالى : { إلى حِينٍ }[ البقرة :36 ] فائدةٌ لآدم عليه السلام ، ليعلم أنه غير باق فيها ، ومنتقلٌ إِلى الجنة التي وعد بالرجوع إِليها ، وهي لغير آدم دالَّة على المعاد ، وروي أن آدم نزل على جبل من جبال سَرَنْدِيبَ ، وأن حواء نزلَتْ بِجدَّةَ ، وأن الحية نزلَتْ بِأصْبَهَانَ ، وقيل : بِمَيْسَانَ ، وأن إبليسَ نزل عند الأبلَّةِ .