غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيۡطَٰنُ عَنۡهَا فَأَخۡرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِۖ وَقُلۡنَا ٱهۡبِطُواْ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوّٞۖ وَلَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُسۡتَقَرّٞ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٖ} (36)

34

قوله { فأزلهما الشيطان } الآية . تحقيقه فأصدر الشيطان زلتهما عنهما ولفظة { عن } في هذه الآية ك { هي } في قوله { وما فعلته عن أمري } [ الكهف : 482 ] فالضمير للشجرة . وقيل : أذهبهما وأبعدهما كما تقول : زل عن مرتبته وزلت قدمه . فالضمير للجنة ، ومن قرأ { أزالهما } فهو من الزوال عن المكارم مما كانا فيه أي من النعيم والكرامة ، أو من المكان الذي هو الجنة إن كان الضمير في { عنها } الشجرة .

واعلم أن الناس اختلفوا في عصمة الأنبياء عليهم السلام ، والنزاع إما في باب الاعتقاد ، أو في باب التبليغ ، أو في باب الأحكام والفتيا ، أو في أفعالهم وسيرتهم . أما اعتقادهم الكفر والضلال فغير جائز عند أكثر الأئمة . وقالت الفضيلية : إنه قد وقع منهم ذنوب والذنب عندهم كفر وشرك ، فلا جرم قالوا بوقوع الكفر منهم . وأجازت الإمامية عليهم إظهار الكفر على سبيل التقية ، وأما ما يتعلق بالتبليغ فاجتمعت الأمة على عصمتهم عن الكذب والتحريف في ذلك لا عمداً ولا سهواً وإلا ارتفع الوثوق .

ومنهم من جوز ذلك سهواً لأن الاحتراز غير ممكن ، وأما المتعلق بالفتيا فأجمعوا على أنه لا يجوز الخطأ فيه عمداً ، وأما السهو فجوزه بعضهم وأباه آخرون . وأما المتعلق بأفعالهم فالحشوية جوّزوا الكبائر عنهم عمداً ، وأكثر المعتزلة جوّزوا الصغائر عنهم عمداً إلا ما ينفر كالكذب والتطفيف ، والجبائي لا يجوّز صغيرة ولا كبيرة على جهة العمد بل على التأويل . وقيل : لا يقع منهم الذنب إلا على جهة السهو والخطأ ، ولكنهم يؤاخذون به وإن كان ذلك موضوعاً عن أمتهم ، لأن معرفتهم أقوى وهم على التحفظ أقدر . والشيعة لم يجوّزوا صغيرة ولا كبيرة منهم لا عمداً ولا سهواً ولا على سبيل التأويل والخطأ . وفي وقت عصمتهم ثلاثة أقوال : فمذهب الشيعة أنهم معصومون من وقت مولدهم ، والمعتزلة من وقت بلوغهم ولم يجوزوا الكفر والكبيرة منهم قبل النبوة ، وبعضهم وأكثر أصحابنا على تجويز ذلك قبل النبوة ، والمختار أنهم لم يصدر عنهم الذنب حال النبوة لا الكبيرة ولا الصغيرة لوجوه :

الأول : لو صدر الذنب عنهم لكانوا أقل درجة من عصاة الأمة مصداقه قوله عز وجل من قائل { يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين } [ الأحزاب : 30 ] .

وصغائر الرجل الكبير كبائر *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ولا يجوز أن يكون النبي أقل حالاً من الأمة بالإجماع .

والثاني : وبتقدير إقدامه على الفسق لا يكون مقبول الشهادة لقوله { إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } [ الحجرات : 6 ] لكنه شاهد عدل من الله بأنه شرع الدين وكذا يوم القيامة

{ ويكون الرسول عليكم شهيداً } [ البقرة : 143 ] .

الثالث : وبتقدير إقدامه على الكبيرة . يجب زجره وإيذاؤه ، لكنه محرّم { إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة } [ الأحزاب : 57 ] .

الرابع : أنه صلى الله عليه وسلم لو أتى بمعصية لوجب علينا الاقتداء به لقوله { فاتبعوه } [ الأنعام : 153 ] والجمع بين الوجوب والحرمة محال .

الخامس : نعلم بالبديهة أنه قبيح لا شيء أقبح من نبي رفع الله درجته وجعله خليفة في عباده وبلاده ، ثم إنه يقدم على ما نهاه عنه ترجيحا لهواه حتى يستحق اللعن والعذاب .

السادس : { أتأمرون الناس بالبرّ وتنسون أنفسكم } [ البقرة : 44 ] يكون حينئذ منزلاً في شأنه ، { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } [ هود : 88 ] .

السابع : { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات } [ الأنبياء : 90 ] واللفظ للعموم فيشمل فعل ما ينبغي وترك ما لا ينبغي .

الثامن : { وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار } [ ص : 47 ] { الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس } [ الحج : 75 ] والوصف بالاصطفاء ينافي الذنب .

التاسع : أنه تعالى حكى عن إبليس { لأغوينهم أجمعين . إلا عبادك منهم المخلصين }

[ ص : 82 ، 83 ] والأنبياء من المخلصين لقوله تعالى في حق يوسف { إنه من عبادنا المخلصين } [ يوسف : 24 ] وفي حق موسى { إنه كان مخلصاً } [ مريم : 51 ] فكذا غيرهما .

العاشر : { ولقد صدّق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين } [ سبأ : 20 ] ولا يخفى وجوب كون الأنبياء منهم وإلا كان غير النبي أفضل من النبي .

الحادي عشر : الخلق قسمان : حزب الله { ألا إن حزب الله هم المفلحون } [ المجادلة : 22 ] وحزب الشيطان { ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون } [ المجادلة : 19 ] والعصاة حزب الشيطان ، فلا يجوز أن يكون النبي عاصياً .

الثاني عشر : النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الملك كما مر والملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ، فالنبي أولى .

الثالث عشر : { إني جاعلك للناس إماماً } [ البقرة : 124 ] والإمام من يؤتم به والمذنب لا يجوز الاقتداء به في ذنبه .

الرابع عشر : { لا ينال عهدي الظالمين } [ البقرة : 124 ] فإن كان عهد النبوة ثبت المطلوب ، وإن كان عهد الإمامة فالنبي أولى به ، " روي أن خزيمة بن ثابت شهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم على وفق دعواه فقال صلى الله عليه وسلم : كيف شهدت لي فقال : يا رسول الله إني أصدقك على الوحي النازل عليك من فوق سبع سماوات ، أفلا أصدقك في هذا القدر ؟ فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وسماه بذي الشهادتين ، ولو كانت المعصية جائزة على الأنبياء لما جازت تلك الشهادة .

المخالف تمسك في باب الاعتقاد بقوله { هو الذي خلقكم من نفس واحدة } إلى قوله

{ جعلا له شركاء } [ الأعراف : 190 ] وهذا يقتضي صدور الشرك عنهما . والجواب ما سيجيء في الأعراف إن شاء الله تعالى ، من أن الخطاب لقريش والمعنى : خلقكم من نفس قضى وجعل من جنسها زوجة عربية ليسكن إليها ، فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف وعبد العزى وعبد الدار وعبد قصي . قالوا : إن إبراهيم لم يكن عالماً بالله ولا باليوم الآخر لقوله { هذا ربي } [ الأنعام : 77 ]

{ ولكن ليطمئن قلبي } [ البقرة : 260 ] والجواب : هذا ربي استفهام منه بطريق الإنكار وقوله { ليطمئن قلبي } أراد به أن يؤكد علم اليقين بعين اليقين فليس الخبر كالمعاينة . قالوا : { فإن كنت في شك } [ يونس : 94 ] { فلا تكونن من الممترين } [ البقرة : 147 ] يدل على أنه كان شاكاً في الوحي قلنا : الخطاب له والمراد الأمة مثل { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } [ الطلاق : 1 ] . قالوا في باب التبليغ { سنقرئك فلا تنسى . إلاّ ما شاء الله }

[ الأعلى : 6 ، 7 ] هذا الاستثناء يدل على النسيان . والجواب عنه أن هذا النسيان نوع من النسخ كما يجيء في تفسير قوله تعالى { ما ننسخ من آية أو ننسها } [ البقرة : 106 ] . قالوا { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } [ الحج : 52 ] والجواب سوف يجيء في سورة الحج إن شاء الله تعالى : قالوا : { عالم الغيب فلا يظهر } إلى قوله { ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم } [ الجن : 26-28 ] ولولا الخوف من وقوع التخبيط في الوحي لم يستظهر بالرصد ، قلنا هذا عليكم لا لكم لدلالته على كونهم محفوظين عن التخبط . قالوا في باب الفتيا { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث } [ الأنبياء : 78 ] { وما كان لنبي أن يكون له أسرى } [ الأنفال : 67 ]

{ عفا الله عنك لم أذنت لهم } [ التوبة : 43 ] قلنا : الجميع محمول على ترك الأولى ، وسوف يجيء قصة كل في موضعها على أنا نقول شعراً :

يا سائلي عن رسول الله كيف سها *** والسهو من كل قلب غافل لاهي

قد غاب عن كل شيء سره فسها *** عما سوى الله فالتعظيم لله .

فشغل الأدبي عن الأرفع هو المذموم ، وأما الشغل بالأرفع عن الأدنى فمحمود . قالوا في الأفعال { وعصى آدم ربه فغوى } [ طه : 121 ] والعصيان يوجب الوعيد { ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم } [ الجن : 23 ] والغي ضد الرشد { قد تبين الرشد من الغي } [ البقرة : 256 ] ، ثم إنه تاب والتوبة دليل الذنب ، وإنه ظالم لقوله { فتكونا من الظالمين } والظالم ملعون { ألا لعنة الله على الظالمين } [ هود : 18 ] وأنه أخرج من الجنة ، وكل هذه دليل ارتكاب الكبيرة . والجواب ، المنع من أن هذه الأمور كانت بعد النبوة . ثم لنفرض أنه صدر ذلك الفعل عن آدم بعد النبوة ، فإقدامه عليه إما أن يكون في حال كونه ناسياً ، أو في حال كونه ذاكراً ، الذاهبون إلى الأول وهم طائفة من المتكلمين احتجوا بقوله { فنسي ولم نجد له عزماً } [ طه : 115 ] ومثلوه بالصائم يغفل عن صومه فيأكل في أثناء ذلك السهو عن قصد . قيل عليه إن قوله { ما نهاكما وبكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين } [ الأعراف : 20 ] وقوله { وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين } [ الأعراف : 21 ] يدل على أنه ما نسي وروي عن ابن عباس أنهما لما أكلا منها وبدت لهما سوآتهما ، خرج آدم فتعلقت به شجرة من شجر الجنة فحبسته فناداه الله تعالى : أفراراً مني ؟ فقال : بل حياء منك . فقال له : أما كان فيما منحتك من الجنة مندوحة مما حرمت عليك ؟ قال : بلى يا رب ، ولكن وعزتك ما كنت أرى أحداً يحلف بك كاذباً ، فقال : وعزتي لأهبطنك منها ثم لا تنال العيش إلا نكداً . وأيضاً لو كان ناسياً لما عوتب عليه لأنه قادر على تركه ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها ، رفع القلم عن ثلاث . وأجيب بالمنع من أن إقدامه على ذلك الفعل إنما وقع عقيب قول إبليس ، لأنه كان عالماً بتمرد إبليس عن سجوده وكونه عدواً له ولزوجه ، ولأنهما لو صدقاه لكانت المعصية في تصديقه أعظم من أكل الشجرة ، لأنه ألقى إليهما سوء الظن بالله وأنه ناصح والرب غاش . وما روي عن ابن عباس فهو من باب الآحاد ولا يلزم من رفع النسيان عن هذه الأمة رفعه عن غيرهم ، بل لا يلزم من رفعه عن الأمة رفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم " أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل " " إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم " وقيل : إن حواء سقته الخمر فسكر ثم أقدم على ذلك الفعل ، وهذا إنما يصح إذا حملت الشجرة على غير الكرمة حتى يكون مأذوناً في تناول غيرها ، إلا أنه يرد عليه أن خمر الجنة لا تسكر

{ لا فيها غول } [ الصافات : 47 ] .

الذاهبون إلى أنه فعله عامداً أربع فرق : منهم من قال : النهي نهي تنزيه لا تحريم وقد سبق . ومنهم من قال : كان عمداً من آدم وكان كبيرة مع أن آدم في ذلك الوقت كان نبياً ، وقد عرفت فساده . ومنهم من قال : فعله عمداً لكن كان معه من أعمال القلب من الإخلاص والوجل والإشفاق ما صيره صغيرة ، وزيف بأن المقدم على ترك الواجب أو فعل المنهي عمداً لا يعذر بدعوى الخوف ، فلا يصح وصف الأنبياء بذلك . ومنهم - وهو اختيار أكثر المعتزلة - من قال : إنه أقدم على الأكل بسبب اجتهاد أخطأ فيه ، وذلك لا يقتضي كون الذنب كبيرة ، بيان الاجتهاد أنه لما قيل له { ولا تقربا هذه الشجرة } فلفظ { هذه } قد يشار بها إلى الشخص ، وقد يشار بها إلى النوع كما روي أنه صلى الله عليه وسلم أخذ حريراً وذهباً بيده وقال " هذان حرامان على ذكور أمتي " وتوضأ ثم قال " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به " وأراد نوع الحرير والذهب ، ونوع الوضوء . فمراد الله تعالى من كلمة { هذا } ذلك النوع لا الشخص . وكان آدم ظن أن النهي قد ورد على الشجرة المعينة فتركها ، وتناول من شجرة أخرى من ذلك النوع . واعترض بأن هذا في أصل اللغة للإشارة الشخصية ، وإذا حمل آدم اللفظ على موضوعه فكيف يعد مخطئاً ؟ وأيضاً هب أن لفظ { هذا } متردد بين الشخص والنوع ، فإن كان مع قرينة الإشارة النوعية وقد قصر في معرفتها فيكون مذنباً ، وإن عرفها ومع ذلك أقدم على التناول فكذلك ، وإن لم يكن فيه قرينة فلا يعد مخطئاً . وأيضاً الأنبياء لا يجوز لهم الاجتهاد لأنهم قادرون على تحصيل اليقين بالوحي ، فالإقدام على الاجتهاد عين المعصية . وأيضاً هذه المسألة إن كانت قطعية فالخطأ فيها كبيرة ، وإن كانت من الظنيات فإن قلنا : كل مجتهد مصيب . فلا خطأ ، وإن قلنا المصيب واحد فالمخطئ فيها معذور بالاتفاق . وأجيب بأن لفظ { هذا } يستعمل في الإشارة النوعية أيضاً كما مر ، وبأن آدم لعله قصر في معرفة القرينة أو عرفها ثم نسي لطول المدة ، فلهذا عوتب . وبأن المسألة القطعية لما نسيها صار النسيان عذراً حتى لا يصير الذنب كبيراً ، وقد تكون ظنية وترتب التشديدات على الخطأ فيها لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد يؤاخذ بما لا يؤاخذ به الأمة .

قيل : وقد يحمل الخطأ في الاجتهاد من جهة أن آدم ظن أن المنهي في قوله { لا تقربا } تناولهما معاً ، فيجوز لكل واحد على الانفراد أكله .

فإن قيل : كيف تمكن إبليس من وسوسة آدم مع أن إبليس كان خارج الجنة وآدم فيها ؟ قلت : إما لأنه دخل فم الحية خافياً عن الخزنة ولهذا سقطت قوائم الحية عقوبة لها على ما يروى - وإن كان بعيداً - عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال : " ما سالمناهم منذ حاربناهم ، ومن ترك منهم شيئاً خيفة فليس منا " . يعني الحيات . وإما لأنه دخل الجنة في صورة دابة ، وإما لأنهما كانا يخرجان إلى باب الجنة وإبليس كان يقرب من الباب ويوسوس ، وإما لأنه كان يدنو من السماء فيكلمهما . وقيل وسوس لهما على لسان بعض أتباعه لأنهما كانا يعرفان ما عنده من الحسد والبغضاء فيستحيل أن يقبلا قوله عادة . وإسناد الإذلال والإخراج إلى الشيطان لأنه حصل بسبب منه ، وعن بعض العرفاء أن زلة آدم هب أنها كانت وسوسة إبليس ، فمعصية إبليس بوسوسة من ؟ ولابد من الانتهاء إلى الذي لا يسأل عما يفعل . فإن قيل : كيف كانت الوسوسة ؟ قلنا : هي التي حكاها الله تعالى { ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين } [ الأعراف : 20 ] فلما لم يفد عدل إلى اليمين { وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين } [ الأعراف : 21 ] ولكم من شياطين الإنس تراهم يوسوسون إليك على هذا الترتيب أعاذنا الله منهم . ثم بعد ذلك يحتمل أنهما لم يصدقاه فعدل إلى شغلهما باللذات المباحة حتى استغرقا فيها ونسيا النهي فوقعا فيما وقعا والله أعلم بحقائق الأمور .

{ اهبطوا } خطاب لآدم وحواء وإبليس إما في وقت واحد بناء على أن إبليس قد عاد إلى الجنة لأجل الوسوسة ، وإما لآدم وحواء في وقت وله في آخر قبل ذلك ، وقيل : خطاب لهما وللحية . وقيل : الصحيح أن الخطاب لهما وذريتهما مرادة أيضاً لأنهما لما كانا أصل الإنس جعلا كأنهما الناس كلهم ، والدليل عليه ما جاء في طه { اهبطا منها } [ طه : 123 ] وقوله { فإما يأتينكم } [ طه : 123 ] وما هو إلا حكم يعم الناس كلهم . و{ اهبطوا } أمر أو إباحة . والأشبه الأول لأن مفارقة ما كانا فيه من النعيم إلى دار الهوان أشق التكاليف . وإنما قيل : إنه تكليف لا عقوبة لما ترتب عليه من الثواب العظيم . ويمكن أن يقال : نفس الإهباط عقوبة ولا ثواب عليه ، وإنما الثواب على حسب العمل بعد ذلك . ومعنى { بعضكم لبعض عدو } [ طه : 123 ] ما عليه الناس من التعادي والتباغي وتضليل بعضهم لبعض . وليست هذه هي العداوة المأمور بها في قوله { إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا } [ فاطر : 6 ] فلا يدخل تحت الأمر ، بل المراد اهبطوا وسيكون حالكم كذا ، لأن عالم التضاد والتنافي ليس كعالم الأنوار الذي لا تعاند فيه ولا تمانع { مستقر } استقرار أو موضع استقرار حالتي الحياة والموت .

{ ومتاع } تمتع بالعيش { إلى حين } هو يوم القيامة ، أو حين انقضاء آجالكم . والحين المدة طويلة أو قصيرة ، ولهذا لو قال : أنت طالق إلى حين . فمضت لحظة طلقت . وفي قصة آدم وما جرى عليه بسبب الزلة معتبر عجيب وموعظة بليغة بينة كافية في اجتناب الخطايا واتقاء المآثم ، ولله در القائل :

يا ناظراً يرنو بعيني راقد *** ومشاهداً للأمر غير مشاهد

تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي *** درك الجنان ودرك فوز العابد

أنسيت أن الله أخرج آدماً *** منها إلى الدنيا بذنب واحد ؟

وعن فتح الموصلي : كنا قوماً من أهل الجنة فساقنا إبليس إلى الدنيا ، فليس لنا إلا الهم والحزن حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا منها .

تطلب الراحة في دار العنا *** خاب من يطلب شيئاً لا يكون

/خ39