فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيۡطَٰنُ عَنۡهَا فَأَخۡرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِۖ وَقُلۡنَا ٱهۡبِطُواْ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوّٞۖ وَلَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُسۡتَقَرّٞ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٖ} (36)

{ فأزلهما } استزلهما وأوقعهما في الزلة { اهبطوا } انزلوا من فوق إلى الأسفل

{ مستقر } موضع استقرار في حياتكم أو بعد موتكم تكون فيها قبوركم

{ متاع } ما تمتعون به { حين } وقت أجل

{ فأزلهما الشيطان عنها } طوى هنا ما بعد بينته آيات محكمات أخر ، منها قول الحق تقدست أسماؤه : { فوسوس لهما الشيطان }{[222]} { فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما . . . ){[223]} وأزل تكون بمعنى : نحى وعلى هذا يكون الضمير في { عنها } عائد إلى الجنة أي : فلما نسي ما عهد إليهما به من توقي تلبيس إبليس { فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فَتَشْقَى }{[224]} فوقعا في تزيينه وإغوائه فكان ذلك سبب تنحيتهما عن الجنة ويمكن أن تكون أزل بمعنى أوقعهما في الزلل والخطأ ويكون الضمير عائد إلى الشجرة فيصبح تقدير الكلام : فوسوس إليهما فأوقعهما في الزلل بسبب الشجرة والأكل منها و[ عن ] تأتي للسببية كما في قوله تعالى : { يؤفك عنه من أفك }{[225]} أي : يصرف بسببه من هو مأفوك .

{ فأخرجهما مما كانا فيه } فبتنحية آدم وحواء من الجنة إذ دلاهما الشيطان ففوت عليهما سكنى الجنان وهنئ الطعام وبهي الكساء ؛ { فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة . . . }{[226]} وقد أعذر الله تعالى إليهما : { فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك أَلَّا تجوع فيها ولا تعرى . وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى }{[227]} .

{ وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو } طرد إبليس من ملأ السماء ثم أهبط آدم وزوجه من الجنة فحسدهما الشيطان على ما آتاهما الله تعالى من فضله وإذ طرد اللعين صاغرا ذليلا { قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون }{[228]} طلب الإهمال إلى يوم البعث وإذا قام الخلق للحساب فلا موت بعد ذلك لكن الحكيم سبحانه أمهله إلى حين يهلك من في السموات ومن في الأرض إلا من يشاء الله { قال فإنك من المنظرين . إلى يوم الوقت المعلوم }{[229]} ؛ { قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم }{[230]} { قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين . إلا عبادك منهم المخلصين }{[231]} وهكذا بدأت حياة الجنس البشري على هذا الكوكب ، والأبالسة لإغوائه بالمرصاد { بعضهم لبعض عدو } فهل يحذر الناس من تولى أعدائهم ؟ { إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا . . . }{[232]} { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إِنّا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون }{[233]} { . . . أَفَتَتَّخِذُونَه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا }{[234]} .

{ ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين } جعل الله تعالى الأرض مستقرا للثقلين الجن والإنس موضع استقرار لهم وتمتع وانتفاع إلى أجل قضاه الله الحكيم العليم فإذا انقضى قبروا على أن يجيء وعد الله الحق فيخرجون من أجداثهم ومن طيات الأرض التي نبتوا منها ودرجوا عليها ثم أعيدوا إليها وبعثوا منها ؛ ثم تبدل الأرض غير الأرض .


[222]:نقل عن بعضهم أن الوسوسة حملت حواء على إسكار آدم- عليه السلام- ليأكلا من الشجرة، ورد ابن العربي فقال: وهذا فاسد نقلا وعقلا وأما النقل فلم يصح بحال.. وأما العقل فلأن الأنبياء بعد النبوة معصومون عما يؤدي إلى الإخلال بالفرائض واقتحام الجرائم ثم أضاف القرطبي بعد هذه النقول: قد استنبط بعض العلماء نبوة آدم عليه السلام قبل إسكانه الجنة من قوله تعالى{فلما أنبأهم بأسمائهم} فأمره الله تعالى أن ينبئ الملائكة بما ليس عندهم من علم الله عز وجل:...ومن الممكن أنه نسي الوعيد قلت: وهو الصحيح لإخبار الله عز وجل في كتابه بذلك حتما وجزما، فقال: {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما} ولما كان الأنبياء عليهم السلام يلزمهم من التحفظ والتيقظ لكثرة معارفهم وعلو منازلهم ما لا يلزم غيرهم كان تشاغله عن تذكر النهي تضييعا صار به عاصيا أي مخالفا. {فوسوس لهما الشيطان..} سورة الأعراف. من الآية20- والذي سقته أورده صاحب الجامع لأحكام القرآن في الجزء الأول ص 306.
[223]:سورة طه من الآية121
[224]:سورة طه من الآية117؛ ولعل الشقاء هنا بمعنى العناء والمكابدة والكدح بعد راحة الجنة ورغد عيشها نقل عن القاضي أبو بكر البقالي وعن الأستاذ أبو إسحق الاسفراييني الإجماع على أن الأنبياء – صلوات الله عليهم- معصومون من الكبائر ومن كل رذيلة فيها شين ونقص ونقل عن الطربي وبعض الفقهاء المحدثين: تقع الصغائر منهم، وجمهور من أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي على أنهم- سلام ربنا عليهم- معصومون من الصغائر كلها كعصمتهم من الكبائر أجمعها لأنا أمرنا باتباعهم في أفعالهم وآثارهم وسيرهم أمرا مطلقا من غير التزام قرينة، فلو جوزنا عليهم الصغائر لم يمكن الاقتداء بهم، إذ ليس كل فعل من أفعالهم يتميز مقصده من القربة والإباحة أو الحظر أو المعصية ولا يصح أن يؤمر المرء بامتثال أمر لعله معصية وقال بعض المتأخرين: الله تعالى أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم في مواضيع كثيرة لا يقبل التأويل جملتها وإن قبل ذلك أحدها وكل ذلك مما لا يزرى بمناصبهم وإنما تلك الأمور التي وقعت منهم على جهة الندور وعلى جهة الخطأ والنسيان أوالتأويل دعا إلى ذلك، فهي بالنسبة إلى غيرهم حسنات وفي حقهم سيئات.
[225]:سورة الذاريات الآية 9.
[226]:سورة الأعراف من الآية 22.
[227]:سورة طه الآيات: من 117-119.
[228]:سورة ص الآية79.
[229]:سورة ص الآيتان 80-81.
[230]:سورة الأعراف الآية 16.
[231]:سورة ص الآيتان 82-83.
[232]:سورة فاطر من الآية 6.
[233]:سورة الأعراف الآية 27.
[234]:سورة الكهف من الآية 50