المفعول في قوله : " فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطََانُ " واجب التقديم ، لأنه ضمير متّصل ، والفاعل ظاهر ، وكل ما كان كذا فهذا حكمه .
وقرأ " حمزة " {[1158]} : " فأَزَالَهُما " والقراءتان يحتمل أن تكونا بمعنى واحد ، وذلك أن قراءة الجماعة " أزلهما " يجوز أن تكون من " زَلَّ عَنِ المَكَانِ " : إذا تنحى عنه ، فتكون من الزوال كقراءة " حمزة " ، ويدل عليه قول امرئ القيس : [ الطويل ]
كُمَيْتٍ يَزِلُّ اللِّبْدُ عَنْ حَالِ مَتْنِهِ *** كَمَا زَلَّتِ الصَّفْوَاءُ بِالمُتَنَزَّلِ{[1159]}
يَزِلُّ الغُلاَمُ الخِفُّ عَنْ صَهَوَاتِهِ *** وَيُلْوِي بِأَثْوَابِ العَنِيفِ المُثَقَّلِ{[1160]}
فرددنا قراءة الجماعة إلى قراءة " حمزة " ، أو نرد قراءة " حمزة " إلى قراءة الجماعة بأن نقول : معنى أزالهما : أي صرفهما عن طاعة الله ، فأوقعهما في الزَّلَّة ؛ لأن إغواءه وإيقاعه لهما في الزَّلَّة سبب للزوال ، ويحتمل أن تفيد كل قراءة معنى مستقلاًّ ، فقراءة الجماعة تؤذن بإيقاعهما في الزَّلَّة ، فيكون " زلّ " بمعنى : استزلّ ، وقراءة " حمزة " تؤذن بتنحيتهما عن مكانهما ، ولا بُدَّ من المجاز في كِلْتَا القراءتين ، لأن الزَّلَلَ أصله من زلّة القدم ، فاستعمل هنا في زلّة الرأي والتنحية لا يقدر عليها الشَّيطان ، وإنما يقدر على الوسوسة التي هي سبب التنحية .
و " عنها " متعلّق بالفعل قبله ، ومعنى " عن " هنا السَّببية إن أعدنا الضمير على " الشجرة " أي : أوقعهما في الزَّلَّة بسبب الشجرة .
قال " الزَّمخشري " لفظة " عن " في هذه الآية كما في قوله : { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } [ الكهف : 82 ] .
ويجوز أن تكون على بابها من المُجاوزة إن عاد الضمير على " الجنّة " ، وهو الأظهر ، لتقدّم ذكرها ، وتجيء عليه قراءة " حمزة " واضحة ، ولا تظهر قراءته كلّ الظُهور على كون الضمير ل " الشجرة " .
قال " ابن عطيّة " {[1161]} فأما من قرأ " أزالهما " فإنه يعود على " الجنة " فقط .
وقيل : الضَّمير للطاعة ، أو للحالة ، أو للسماء ، وإن لم يجر لهما ذكر لدلالة السياق عليهما . وهذا بعيد جدًّا .
فإن قيل : إن الله - تعالى - قد أضاف الإزْلاَل إلى " إبليس " فلم عاتبهما على ذلك الفعل ؟
والجواب : أن قوله : " فأزلهما " أنهما عند وَسْوَسَتِهِ أتيا بذلك الفعل ، وأضيف ذلك إلى " إبليس " كما في قوله تعالى : { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلاَّ فِرَاراً } [ نوح : 6 ] قال تعالى حاكياً عن إبليس : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي } [ إبراهيم : 22 ] ، هذا قول المعتزلة ، والتحقيق في هذه الإضافة ما ذكرناه ، وهو أن القادر على الفعل والترك مع التَّسَاوي يستحيل أن يكون موجداً لأحد هذين الأمرين إلا عند انضمام الدَّاعي إليه ، والدَّاعي في حَقّ العبد عبارة عن علم أو ظن ، أو اعتقاد بكون الفعل مشتملاً على مصلحةٍ ، فإذا حصل ذلك العلم أو الظن بسبب منبّه نبه عليه كان الفعل مضافاً إلى ذلك المنبّه ؛ لأنه هو الفاعل لما لأجله صار الفَاعِلُ بالقوة فاعلاً بالفعل ، فهكذا المَعْنَى انضاف - ها هنا - إلى الوسوسة .
فإن قيل : كيف كانت الوَسْوَسَةُ ؟
فالجواب : هي التي حكى الله عنها في قوله : { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ } [ الأعراف : 20 ] فلم يقبلا ذلك منه ، فلما أيس عدل إلى اليمين على ما قال تعالى : { وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } [ الأعراف : 21 ] فلم يصدقاه .
والظاهر أنه بعد ذلك عَدَلَ إلى شيء آخر ، وهو أنه شغلهما باستيفاء اللَّذَّت المُبَاحة حتى صارا مستغرقين فيها ، فَحَصَلَ بسبب استغراقهما فيها نِسْيَان النهي ، فعند ذلك حصل ما حصل ، والله أعلم .
فصل في بيان كيف وسوس إبليس لآدم
اختلفوا في أنه كيف تمكّن إبليس من وَسْوَسَةِ آدم عليه الصلاة والسلام مع أن إبليس كان خارج الجنّة ، وآدم عليه الصَّلاة والسَّلام داخل الجنّة ؟ وذكروا فيه وجوهاً :
أحدها : ما روي عن وهب بن منبّه والسدي عن ابن عباس وغيره : أن إبليس أراد دخول الجنة ، فمنعته الخزنة ، فأتى الحية بعد ما عرض نفسه على سائر الحيوانات فما قبله واحد من الحيوانات ، فابتلعته الحية وأدخلته الجَنَّة خفية من الخَزَنَةِ ، فلما دخلت الحَيّة الجنة خرج إبليس من فيها واشتغل بالوَسْوَسَةِ ، فلا جرم لعنت الحَيّة ، وسقطت قوائمها ، وصارت تمشي على بطنها ، وجعل رزقها في التراب ، وصارت عدواً لبني آدم ، وأمرنا بقتلها في الحِلّ والحَرَمِ{[1162]} .
قال ابن الخطيب{[1163]} : وهذا وأمثاله يجب ألا يلتفت إليه ؛ لأن إبليس لو قدر على الدخول في فَمِ الحيّة فلم لم يقدر على أن يجعل نفسه حَيّة ثم يدخل الجَنّة ؟ ولأن الحية لو فعلت ذلك ، فلم عوقبت مع أنها ليست بعاقلة ولا مكلفة ؟ وأيضاً فلما خرج من بطنها صارت في الجنة كانت الملائكة والخزنة يرونه .
وثانيها : أن " إبليس " دخل الجَنَّة في صورة دَابّة ، وهذا القول أقلّ فساداً من الأول .
وثالثها : قال بعض أَهْل الأصول : لعلّ آدم وحَوّاء - عليهما السلام - كانا يخرجان إلى باب الجنة ، وإبليس كان بقرب الماء يُوَسْوِسُ لهما .
ورابعها : قال الحسن : كان إبليس في الأرض ، وأوصل الوَسْوسَةَ إليهما في الجنّة .
قال بعضهم : هذا بعيد ؛ لأن الوسوسة كلام خفيّ ، والكلام الخفيّ لا يمكن إيصاله من الأرض إلى السَّماء .
واختلفوا في أن " إبليس " باشر خطابهما ، أو أوصل الوسوسة إليهما على لسان بعض أتباعه .
حجّة الأول : قوله تعالى : { وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } [ الأعراف : 21 ] وذلك يقتضي المُشَافهة ، وكذا قوله : { فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ } [ الأعراف : 22 ] .
وحجّة الثاني : أن آدَمَ وحواء - عليهما الصَّلاة والسَّلام - كان يعرفانه ، ويعرفان ما عنده من العداوة والحَسَد ، فيستحيل في العادة أن يقبلا قوله ، فلا بد وأن يكون المباشر للوسوسة بعض أتباع إبليس .
وقد يُجَاب عن هذا بأن إبليس لما خالف أمر ربّه ولعن لعلّه انتقل من تلك الصورة التي يُعْرَفُ بها إلى صورة أخرى ، ولعلّ إبليس تشكّل لهما في صورة لا يعرفانها ، فإن له قدرة التشكل ، والله أعلم .
فصل في بيان أن آدم عصى ربه ناسياً
اختلفوا في صدور ذلك الفعل عن آدم - عليه الصلاة والسّلام - بعد النبوة ، هل فعله ناسياً أو ذاكراً ؟
قال طائفة من المتكلّمين : فعله ناسباً ، واحتجوا بقوله تعالى : { فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [ طه : 115 ] ومثلوه بالصَّائم إذا أكل ناسياً ، وهذا باطل من وجهين :
الأول : قوله تعالى : { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ } [ الأعراف : 20 ] .
وقوله : { وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } يدلّ على أنه ما نسي النهي حال الإقدام .
الثاني : أنه لو كان ناسياً لما عوتب على ذلك الفعل .
أما من حيث العقل فلأن الناسي غير قادر على الفعل فلا يكون مكلفاً به لقوله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] .
وأما من حيث النقل فلقوله عليه الصلاة والسلام : " رُفعَ عَنْ أمّتِي الخَطَأُ والنِّسْيَانُ " .
وقد يجاب عن الأول بأنا لا نسلّم أن آدم وحواء - عليهما الصلاة والسلام - قَبِلاَ من إبليس ذلك الكلام وصَدّقاه ؛ لأنهما لو صدقاه لكانت معصيتهما في ذلك التصديق أعظم من أكل الشَّجرة ؛ لأن إبليس لما قال لهما : { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ } الآية فقد ألقى إليهما سوء الظَّن بالله - تعالى - ودعاهما إلى ترك التَّسْليم لأمره ، والرضا بحكمه ، وأن يعتقدا فيه كون إبليس ناصحاً لهما ، وأن الرب - تَعَالَى - قد غشهما ولا شك أن هذه الأشياء أعظم من أكل الشجرة ، فوجب أن تكون المُعَاتبة في ذلك أشد ، وأيضاً آدم - عليه الصلاة والسلام - كان عالماً بتمرد " إبليس " ، وكونه مبغضاً له وحاسداً له ، فكيف يجوز من العاقل أن يقبل قول عدوّه مع هذه القرائن ، وليس في الآية أنهما أقدما على ذلك الفعل عند ذلك الكلام .
وأما الجواب الثاني : فهو أن العتاب إنما حصل على قلّة التحفُّظ من أسباب النسيان ، وهذا الضرب من السَّهو موضوع عن المسلمين ، وقد كان يجوز أن يؤاخذوا به ، وليس بموضوع عن الأنبياء لعظم خَطَرِهِمْ ومثّلوه بقوله : { يا نسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ } [ الأحزاب : 32 ] ، ثم قال : { مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَف لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } [ الأحزاب : 30 ] .
وقال عليه الصلاة والسلام : " أَشَدُّ النَّاسِ بَلاَءً الأنبياءُ ثم الأوْلِيَاءُ ثم الأَمْثَلُ فالأَمْثَلُ " {[1164]} ، ولقد كان على النبي صلى الله عليه وسلم من التَّشْديدات في التَّكليف ما لم يَكُن على غيره .
وذكر بعض المفسّرين أن حوّاء سقته الخَمْرَ ، فسكر وفي أثناء السّكر فعل ذلك قالوا وهذا ليس ببعيد ؛ لأنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان مأذوناً له في تناول كل الأشياء سوى تلك الشجرة ، فكان مأذوناً له في تناول الخمر ، ولقائل أن يقول : إن خمر الجَنَّة لا يسكر لقوله تعالى في صفة خمر الجنة : { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } [ الصافات : 47 ] .
القول الثاني : أن آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام - فعله عامداً ؛ فها هنا قولان :
أحدهما : أن ذلك النهي نهي تَنْزِيِهٍ ، لا نهي تحريم ، وقد تقدم .
الثاني : أنه تعمّد وأقدم على الأكل بسبب اجتهاد أخطأ فيه ، وذلك لا يقتضي كون الذَّنْبِ كبيرة ، وهذا اختيار أكثر المعتزلة .
وبيان خطأ الاجتهاد أنه لما قيل له : { وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ }
[ الأعراف : 19 ] فلفظ " هذه " يشار به إلى الشَّخص ، وقد يشار به إلى النوع ، كما روي أنه - عليه الصلاة والسلام - أخذ حريراً وذهباً بيده وقال : " هَذَانِ حَلاَلٌ لإنَاثِ أمّتِي حَرَامٌ على ذُكُورِهَا " وأراد به نوعهما ، وتوضأ مرة وقال : " هذا وُضُوءٌ لا يقبل الله الصَّلاَةَ إلاَّ به " وأراد نوعه ، فلما سمع آدم - عليه الصلاة والسلام - قوله : { ولا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ } ظنّ أن النهي إنما يتناول تلك الشجرة المعينة ، فتركها وتناول من شجرة أخرى من ذلك النوع ، فكان مخطئاً في ذلك الاجتهاد ؛ لأن مراد الله - تعالى - النهي عن النوع لا عن الشخص .
والاجتهاد في الفروع إذا كان خطأً لا يوجب استحقاق العقاب لاحتمال كونه صغيرةً مغفورة كما في شرعنا .
فإن قيل : الكلام على هذا القول من وجوه :
أحدها : أن كلمة " هذا " في أصل اللغة للإشارة إلى الشَّيء الحاضر ، وهو لا يكون إلا شيئاً معيناً ، فإن أشير بها إلى النوع ، فذاك على خلاف الأصل ، وأيضاً فلأنه - تعالى - لا تجوز الإشارة عليه ، فوجب أن يكون أمر بعض الملائكة بالإشَارَةِ إلى ذلك الشَّخص ، فكان ما عداه خارجاً عن النهي لا مَحَالة ، وإذا ثبت هذا فالمجتهد مكلف يحمل اللفظ على حقيقته ، فآدم - عليه الصلاة والسلام - لما حمل لفظ " هذه " على المُعَيّن كان قد فعل الواجب ، ولا يجوز له حمله على النوع ، وهذا متأيد بأمرين :
أحدهما : أن قوله : { وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا } أفاد الإذْنَ في تناول كل ما في الجنّة إلا ما خصه الدليل .
والثاني : أن العقل يقتضي حلّ الانتفاع بجميع المَنَافِع إلاَّ ما خصّه الدليل ، والدليل المخصص لم يدلّ على ذلك المعيّن ، وإذا ثبت هذا امتنع أن يستحقّ بسبب تناول غيره وإن كان من ذلك النوع المنهي عنه عتاباً ، فوجب على هذا أن يكون مصيباً لا مخطئاً .
الاعتراض الثاني : هب أن لفظة " هذه " مترددة بين الشخص والنوع ، ولكن هل قرن الله بهذا اللَّفْظ ما يدلّ على أن المراد منه النوع دون الشخص أو لا ؟
فإن قرن به ، فإما أن يقال : إن آدم - عليه الصلاة والسلام - قصر في معرفة ذلك البيان ، فحينئذ يكون قد أتى بالذَّنب وإن لم يقصر بل عرفه ، فحينئذ يكون إِقْدَامه على التَّناول من شَجَرة من ذلك النوع إقداماً على الذنب قصداً .
الاعتراض الثالث : أن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - لا يجوز لهم الاجْتِهَادُ ؛ لأن الاجتهاد إقدام على العمل بالظنّ وذلك إنما يجوز في حَقّ من لا يتمكن من تحصيل العلم ، أمّا الأنبياء فإنهم قادرون على تَحْصِيلِ اليقين ، فوجب ألا يجوز لهم الاجتهاد ؛ لأن الاكتفاء بالظن مع القدرة على تحصيل اليقين غير جائز عقلاً وشرعاً ، وذا ثبت ذلك ثبت أن الإقدام على الاجتهاد معصية .
الاعتراض الرابع : هذه المسألة إما أن تكون من المَسَائل القَطْعية أو الظنية ، فإن كانت من القطعيات كان الخطأ فيها كبيراً ، وحينئذ يعود الإشكال ، وإن كانت من الظَّنيات فإن قلنا : إن كل مجتهد مصيب فلا يتحقّق الخطأ فيها أصلاً .
وإن قلنا : المصيب فيها واحد ، والمخطئ فيها معذور بالاتفاق ، فكيف صار هذا القدر من الخطأ سبباً لإخراج آدم - عليه الصلاة والسلام - من الجنة ؟
والجواب عن الأول : أن لفظة " هذا " وإن كان في الأصل إشارة إلى الشَّخص ، لكنه قد يستعمل في الإشارة إلى النوع كما تقدم بيانه .
والجواب عن الثاني : أن الله - سبحانه وتعالى - كان قد قرن به ما دَلّ على أنّ المراد هو النوع ، لكن لعلّ آدم - عليه الصلاة والسلام - قصر في معرفة ذلك الدَّليل ؛ لأنه ظنّ أنه لا يلزمه ذلك في الحال .
أو يقال : إنه عرف ذلك الدليل في وقت ما نهاه الله - تعالى - عن عين الشَّجرة ، فلما طالت المدة غفل عنه ، لأن في الخبر أن آدم - عليه الصلاة والسلام - بقي في الجَنّة الدهر الطويل ، ثم أخرج .
والجواب عن الثالث : أنه لا حاجة هاهنا إلى إثبات أن الأنبياء تمسَّكوا بالاجتهاد ، فإنّا بَيَّنَّا أنّ آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام - قصّر في معرفة تلك الدّلالة ، وإن كان قد عرفها ، لكنه قد نسيها ، وهو المراد من قوله تعالى : { فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [ طه : 115 ] .
والجواب عن الرَّابع : يمكن أن يقال [ كانت ]{[1165]} الدلالة قطيعة [ إلا أنه ]{[1166]} - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما نسيها صار النِّسْيَان عذراً في ألاّ يصير الذنب كبيراً ، أو يقال : كانت ظنيةً إلاَّ أنه ترتّب عليه من التَّشديدات ما لم يترتّب على خطأ سائر المجتهدين ؛ لأن ذلك يجوز أن يختلف باختلاف الأشخاص ، وكما أن الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - مخصوص بأمور كثيرة في باب التَّشديدات بما لا يثبت في حق الأمة فكذا هاهنا .
واعلم أنه يمكن أن يقال في المسألة وجه آخر ، وهو أنه - تعالى - لما قال : { وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ } [ الأعراف : 19 ] فهم آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام - من هذا النهي أنهما إنما نُهِيَا حال اجتماعهما ؛ لأن قوله : " وَلاَ تَقْرَبَا " نهي لهما عن الجمع ، ولا يلزم من حصول النهي حال الاجتماع حصوله حال الاجتماع حال الانفراد ، فلعل الخطأ في الاجتهاد إنما وقع من هذا الوجه .
قوله : { فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } .
" الفاء " - هنا{[1167]} - فاء السببية .
وقال المَهْدَويّ : إذا جعل " فأزلهما " بمعنى زَلّ عن المَكَان كان قوله : { فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } توكيداً ، إذ قد يمكن أن يزولا عن مكان كانا فيه إلى مكان آخر ، وهذا الذي قاله المَهْدَوِيّ أشبه شيء بالتأسيس لا التأكيد ، لإفادته معنى جديداً .
قال " ابن عطية " : وهنا محذوف يدلّ عليه الظاهر تقديره : فأكلا من الشَّجرة ، يعني بذلك أن المحذوف [ يقدر ]{[1168]} قبل قوله : " فَأَزَلَّهُمَا " .
و " مَمَّا كَانَا " متعلّق ب " أخرج " ، و " ما " يجوز أن تكون موصولة اسمية ، وأن تكون نكرة موصوفة ، أي : من المكان أو النعيم الَّذِي كانا فيه ، أو من مكان ، أو نعيم كانا فيه ، فالجملة من " كان " واسمها وخبرها لا مَحَلّ لها على الأوّل ومحلّها الجَرّ على الثاني ، و " من " لابتداء الغابة .
روي عن ابن عَبّاس ، وقتادة قال الله تعالى لآدم : أَلَم يك فيما أبحتك الجَنّة مَنْدُوحَة عن الشَّجرة ، قال : بلى يا رَبّ وعزّتك ، ولكن ما ظننت أن أحداً يحلف بك كاذباً قال : فبعزّتي لأهبطنّك إلى الأرض ، ثم لا تَنَالُ العيش إلا كدًّا ، فأهبطا من الجنة ، فكانا يأكلان فيها رغداً فعلم [ صنعة ]{[1169]} الحديد ، وأمر بالحَرْثِ فحرث وزرع وسقى ، حتى إذا بلغ حصد ، ثم دَاسَهُ ، ثم ذَرَاه ، ثم طحنه ، ثم خبزه ، ثم أكله ، فلم يبلغه حتى بلغ منه ما شاء الله تعالى{[1170]} . ويروى أن " إبليس " أخذ من الشجرة التي نهى آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام - عنها فجاء بها إلى حَوّاء فقال : انظري إلى هذه الشَّجرة ما أطيب ريحها ، وأطيب طعمها ، وأحسن لَوْنها ، فلم يزل يغويها حتى أخذتها فأكلتها وقالت لآدم : كُلْ فإني قد أكلت فلم تضرني ، فأكل منها فبدت لهما سَوْآتهما ، [ وبقيا ] عرايا ، فطلبا ما يستتران به ، فتباعدت الأشجار عنهما ، وبكّتوه بالمعصية ، فرحمته{[1171]} شجرة التين ، فأخذ من وَرقها ، فاسْتَتَرُوا به فَبُلِيَ بالعُرْيِ دون الشجر{[1172]} .
وقيل لحواء : كما أدميت الشجرة ، فذلك يصيبك الدّم كلّ شهر ، وتََحْمِلين وتَضَعِيِن كرهاً ، وتُشْرفين [ به ]{[1173]} على المَوْتِ ، وزاد{[1174]} الطبري والنَّقّاش{[1175]} ، وتكونين سفيهةً وقد كنت حليمةً [ ولعنت ]{[1176]} الحية وردّت قوائمها في جَوْفِهَا ، وجعلت العداوة بينها وبين بني آدم ، ولذلك أمرنا بِقَتْلِهَا{[1177]} .
قوله : { اهْبِطُواْ } جملة أمرية في محلّ نصب بالقول قبلها ، وحذفت الألف من " اهْبِطُوا " في اللفظ ؛ لأنها ألف وصل ، وحذفت الألف من " قلنا " في اللفظ ؛ لسكونها وسكون الهاء بعدها .
وقرئ{[1178]} : " اهْبُطُوا " بضم الباء ، وهو كثير في غير المتعدّي .
وأما الماضي ف " هَبَطَ " بالفتح فقط ، وجاء في مضارعه اللّغتان ، والمصدر " الهبوط " بالضم ، وهو النزول .
وقال المفضل{[1179]} : الهبوط : الخروج من البلد ، وهو - أيضاً - الدخول .
وفيه نظر : لأن " إبليس " حين أَبَى عن السُّجود أخرج من الجنة لقوله تعالى : { فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا } [ الأعراف : 13 ] وقوله : { فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ } [ الحجر : 34 ] وزلة آدم وحَوّاء إنما وقعت بعد ذلك بمدّة طويلة ، فكيف يكون متناولاً له فيها وهو من الأضداد ؟
والضمير في " اهبطوا " الظاهر أنه لجماعة ، فقيل : لآدم وحواء والحيّة وإبليس{[1180]} .
وقيل : لهما وللحيّة . وفيه بعد ؛ لأنّ المكلفين بالإجماع هم المَلاَئكة والجنّ والإنس .
وقيل : لهما وللوسوسة . وفيه بعد .
وقيل : لبني آدم وبني إبْلِيِسَ{[1181]} ، وهذا وإن كان نقل عن " مُجَاهد والحَسَن " لا ينبغي أن يقال ؛ لأنهما لم يولد لهما في الجنة بالاتفاق . وقال الزَّمَخْشَرِيّ : إنه يعود لآدم وحواء ، والمراد هما وذرّيتهما ؛ لأنهما لما كانا أصل الإنس ومتشعّبهم جعلا كأنهما الإنس كلهم ، ويدلّ عليه : { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً } [ طه : 123 ] . وهذا ضعيف ؛ لأن الذّرية ما كانوا موجودين في ذلك الوَقْتِ ، فكيف يتناولهم الخطاب ؟ أما من زعم أن أقل الجمع اثنان ، فلا يرد عليه شيء من هذا .
قوله : { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } هذه جملة من مبتدأ وخبر ، وفيها قولان :
أصحهما : أنها في محل نصب على الحال ، أي اهبطوا متعادين .
والثاني : أنها لا محل لها ؛ لأنها استئناف إخبار بالعداوة .
وأفرد لفظ " عدو " وإن كان المراد به جمعاً لأحد وجهين :
إما اعتباراً بلفظة " بعض " فإنه مفرد ، وإمّا لأن " عدوًّا " أشبه بالمَصَادر في الوزن ك " القَبُول " ونحوه .
وقد صرح " أبو البقاء " {[1182]} بأن بعضهم جعل " عدوًّا " مصدراً ، قال : وقيل : " عدو " مصدر ك " القبول والولوع " ، فلذلك لم يجمع .
وعبارة " مكي " {[1183]} قريبة من هذا . فإنه قال : وإنما وحد وقبله جمع ؛ لأنه بمعنى المصدر ، تقديره : " ذوي عداوة " ونحوه : { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي } [ الشعراء : 77 ] و{ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ }[ المنافقون : 4 ] .
واشتقاق العدو من " عدا " - " يعدو " : إذا ظلم .
وقيل : من " عَدَا " - " يَعْدُو " : إذا جاوز الحق ، وهما متقاربان .
وقيل : من عَدْوَتَي الجبل ، وهما طَرَفَاه ، فاعتبروا بعد ما بينهما .
ويقال : عدْوَة ، وقد يجمع على " أعداء " .
فأما حصول العداوة بين آدم وإبليس فلقوله تعالى : { يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ } [ طه : 117 ] ، وقوله : { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا } [ فاطر : 6 ] .
وأما عداوة الحَيّة فلما نقله أهل التفسير من إدخاله إبليس في فِيِهَا ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " اقتلوا الحَيَّات صَغِيرَهَا وكَبِيرَهَا وأَبْيَضَهَا وأَسْوَدَهَا ، فإن من قتلها كانت له فِدَاءً من النار ومن قَتَلَتْهُ كان شهيداً " {[1184]} .
وما كان من الحيات في البيوت فلا يُقْتَل حتى يؤذن ثلاثة أيام ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : " إن بالمَدِينَةِ جِنًّا قد أسلموا ، فإذا رَأَيْتُمْ منهم شيئاً فآذنوه ثلاثة أيام ، فإن بَدَا لكم بعد ذلك فَاقْتُلُوه فإنما هو شَيْطَان " {[1185]} .
وفي رواية : " إنَّ لهذه البيوت عَوَامِرَ فإذا رَأَيْتُمْ شيئاً منها فَحَرِّجُوا عليها ثلاثاً ، فإن ذهب وإلا فَاقْتُلُوهُ فإنه كافر " {[1186]} .
وصفة الإنذار أن يقول : أنذرتكم بالعَهْدِ الذي أخذه عليكم نُوحٌ - عليه الصَّلاة والسَّلام - وأنشدكم بالعَهْد الذي أخذه عليكم سليمان - عليه الصَّلاة والسَّلام - أن تخرجوا .
وأما كون الجنّ حيات فلقوله عليه الصَّلاة والسَّلام : " الجنّ على ثَلاَثَةِ أثْلاثٍ فثُلثٌ لَهُمْ أَجْنِحَةٌ يَطِيرُونَ في الهَوَاءِ ، وثُلث حَيَّات وكِلاَب ، وثُلُث يَحلُّونَ وَيَظْعَنُون " {[1187]} .
واللاَّم في " لِبَعْضٍ " متعلقة ب " عدو " ، فلما قدم عليه انتصب حالاً ، فتتعلّق اللام حينئذ بمحذوف ، وهذه الجملة الحالية لا حاجة إلى ادعاء حذف " واو " الحال منها ؛ لأن الرَّبْطَ حصل بالضمير ، وإن كان الأكثر في الجمل الاسمية الواقعة حالاً أن تقترن بالواو .
و " البعض " في الأصل مصدر بَعضَ الشيء يَبْعَضُهُ ، إذا قطعه فأطلق على القطعة من النَّاس ؛ لأنها قطعة منه ، وهو مقابل " كلاًّ " ، وحكمه حكمه في لزوم الإضَافَةِ معنى ، وأنه معرفة بنيّة الإضافة فلا تدخل عليه " أل " وينتصب عنه الحال ؛ تقول : " مررت ببعض جالساً " وله لفظ ومعنى ، وقد تقدم تقرير ذلك .
من قال : إن جنّة آدم كانت في السماء فسّر الهبوط بالنزول من العُلُو إلى أسفل ، ومن قال : إنها كانت في الأرض فسره بالتحوّل من مكان إلى آخر كقوله : { اهْبِطُواْ مِصْراً } [ البقرة : 61 ] .
قوله : { وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } .
هذه الجملة يجوز فيها الوجهان المتقدّمان في الجملة قبلها من الحالية ، والاستئناف كأنه قيل : اهبطوا مُتعَادين ، ومستحقين الاستقرار .
و " لكم " خبر مقدم . و " في الأرض " متعلّق بما تعلّق به الخبر من الاستقرار .
والثاني : أنه غير حال ، بل كسائر الظروف ، ويجوز أن يكون " في الأرض " هو الخبر ، و " لكم " متعلّق بما يتعلّق به هو من الاستقرار ، لكن على أنه غير حال ؛ لئلا يلزم تقديم الحال على عاملها المعنوي ، على أن بعض النحويين أجاز ذلك إذا كانت الحال نفسها ظرفاً ، أو حرف جر كهذه الآية ، فيكون في " لكم " أيضاً الوجهان ، قال بعضهم : ولا يجوز أن يكون " في الأَرْضِ " متعلّقاً ب " مستقر " ، سواء جعل مكاناً أو مصدراً ؛ أما كونه مكاناً فلأن أسماء الأمكنة لا تعمل ، وأما كونه مصدراً فلأن المَصْدَرَ الموصول لا يجوز تقديم معمول عليه .
ولقائل أن يقول : هو متعلّق به على أنه مصدر ، لكنه غير مؤول بحرف مَصْدَرِيّ ، بل بمنزلة المصدر في قولهم : " لَهُ ذَكَاءٌ ذَكَاءَ الحُكَمَاءِ " وقد اعتذر صاحب هذا القَوْلِ بهذا العذر نفسه في موضع آخر مثل هذا . و " إلَى حِيْنٍ " الظَّاهر أنه متعلّق ب " متاع " ، وأن المسألة من باب الإعمال ؛ لأن كلّ واحد من قوله : " مستقر ومَتَاع " يطلب قوله : " إلى حِينٍ " من جهة المعنى . وجاء الإعمال هُنَا على مختار البَصْريين ، وهو إعمال الثَّاني وإهمال الأول ، فلذلك حذف منه ، والتقدير : ولكم في الأرض مستقرّ إليه ، ومتاع إلى حين ، ولو جاء على إعمال الأول لأضمر في الثاني .
فإن قيل : من شرط الإعمال أن يصحّ تسلّط كل من العاملين على المعمول ، و " مستقر " لا يصحّ تسلّطه عليه لئلاّ يلزم الفصل بين المَصْدر ومعموله ، والمصدر بتقدير الموصول .
فالجواب : أن المحذور في المصدر الذي يُرَاد به الحدث ، وهذا لم يرد به حَدَث ، فلا يؤول بموصول ، وأيضاً فإنّ الظرف وشبهه فيه رَوَائح الفعل حتى الأعلام ؛ كقوله : [ الرجز ]
أَنَا ابْنُ مَاوِيَّةَ إذْ جَدَّ النَّقُرْ{[1188]} *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
و " مستقر " يجوز أن يكون اسم مكان ، وأن يكون اسم مصدر ، " مستفعل " من القَرَار ، وهو اللَّبْثُ ؛ ولذلك سميت الأرض قراراً ؛ قال : [ الكامل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** فَتَرَكْنَ كُلَّ قَرَارَةِ كَالدِّرْهَمِ{[1189]}
ويقال : استقر وَقَرَّ بمعنى واحد .
قال قوم : " المُسْتَقَرّ " : حالتا الحياة والموت ، وروى السّدي عن ابن عباس أن المُسْتَقَرّ هو القبر ، والأول أولى ؛ لأنه - تعالى - قرن به المَتَاع من الأكل والشرب وغيره ، وذلك لا يليق إلا بِحَالِ الحَيَاةِ ؛ ولأنه خاطبهم بذلك عند الإهباط ، وذلك يقتضي الحياة والمَتَاع .
واختار أبو البَقَاءِ{[1190]} أن يكون " إلى حَينٍ " في مَحَلّ رفع صفة ل " متاع " .
و " المتاع " : البُلْغَة مأخوذة من متع النهار ، أي : ارتفع .
وقال أبو العباس المقرئ : و " المتاع " على ثلاثة أوجه :
الأول : بمعنى " العيش " كهذه الآية .
الثاني : بمعنى : " المَنْفَعَة " قال تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ } [ المائدة : 96 ] أي : منفعة لكم ولأنعامكم .
الثالث : بمعنى " قليل " قال تعالى : { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ } [ الرعد : 26 ] أي : قليل .
و " الحين " : القطعة من الزمان طويلةً كانت أو قصيرةً ، وهذا هو المشهور .
وقيل : الوقت البعيد ويقال : عاملته مُحَايَنَةً ، من الحِينِ ، وَأَحْيَنْتُ بِالمَكَانِ : إِذا أقمت بهِ حِيناً . وحان حين كذا ، أي : قرب ؛ قالت بُثَيْنَة : [ الطويل ]
وَإِنَّ سُلوِّي عَنْ جَمِيلٍ لسَاعَةٌ *** مِنَ الدَّهْرِ مَا حَانَتْ وَلاَ حَانَ حِينُها{[1191]}
وقال بعضهم : تزاد عليه التّاء فيقال : " تَحِينَ قُمْتَ " ، وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى ، وأنشد على زيادة التاء قوله : [ الكامل ]
أَلعَاطِفُونَ تَحِينَ مَا مِنْ عَاطِفٍ *** والمُطْعِمُونَ زَمَانَ أَيْنَ المُطْعِمُ{[1192]}
واختلفوا في " الحِيْنِ " على أقوال فقالت فرقة : إلى الموت .
وقيل : إلى قيام السَّاعة ، فالأوّل قول من يقول : المستقرّ هو البَقَاء في الدُّنيا .
والثَّاني قول من يقول : المستقر هو في القبور .
وقيل : الحين : الأَجَل ، والحين ، المدّة ، قال تعالى : { هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ } [ الإنسان : 1 ] .
والحين : الساعة ، قال تعالى : { أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ } [ الزمر : 58 ] والحِينُ ستة أشهر ، قال تعالى : { تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ } [ إبراهيم : 25 ] .
وقيل كل سنة ، والحين : الغدوة والعشية ، قال تعالى : { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } [ الروم :17 ] .
وقيل : الحين : اسم كالوقت يصح لجميع الأزمان كلّها طالت أم قصرت .
يروي أن آدم أهبط ب " سرنديب في الهند " بجبل يقال له " نود " ، ومعه ريح الجنة فعلق بشجرها ، وأوديتها ، فامتلأ ما هنالك طيباً ، فمن ثم يؤتى بالطّيب من ريح آدم عليه الصلاة والسلام .
وكان السَّحَاب يمسح رَأْسَهُ فأصلع ، فأورث ولده الصّلع{[1193]} .
روى البُخَاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خَلَقَ اللهُ آدَمَ وطوله سِتُّون ذِراعاً " {[1194]} .
وأهبطت حواء ب " جدّة " وإبليس ب " الأبلّة " و " الأبلة " موضع من " البصرة " على أميال ، والحية ب " بيسان " .
وقيل : ب " سجستان " ، وقيل : ب " أصفهان " {[1195]} ، ولولا أن العِرْبِدَّ يأكلها ويغنى كثيراً منها لخلت{[1196]} " سجستان " من أجل الحيات . [ ذكره أبو الحسن المسعودي ]{[1197]} .