{ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ } أي : سلطها عليهم { سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا } أي : كوامل متتابعات مشائيم .
قال ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والثوري ، وغير واحد : { حسوما } متتابعات .
وعن عكرمة والربيع : مشائيم عليهم ، كقوله : { فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ } [ فصلت : 16 ] قال الربيع : وكان أولها الجمعة . وقال غيره الأربعاء . ويقال : إنها التي تسميها الناس الأعجاز ؛ وكأن الناس أخذوا ذلك من قوله تعالى : { فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } وقيل : لأنها تكون في عجز الشتاء ، ويقال : أيام العجوز ؛ لأن عجوزًا من قوم عاد دخلت سَرَبا فقتلها الريح في اليوم الثامن . حكاه البغوي{[29262]} والله أعلم .
قال ابن عباس : { خاوية } خربة . وقال غيره : بالية ، أي : جعلت الريح تضرب بأحدهم الأرض فيخر ميتًا على أم رأسه ، فينشدخ رأسه وتبقى جثته هامدة كأنها قائمة النخلة إذا خرت بلا أغصان .
وقد ثبت في الصحيحين ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " نُصِرْتُ بالصَّبا ، وأهلكَت عادٌ بالدَّبور " {[29263]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن يحيى بن الضِّريس العبدي ، حدثنا ابن فُضَيل ، عن مسلم ، عن مجاهد ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما فتح الله على عاد من الريح التي أهلكوا فيها إلا مثل موضع الخاتم ، فَمرّت بأهل البادية فحملتهم ومواشيهم وأموالهم ، فجعلتهم بين السماء والأرض . فلما رأى ذلك أهل الحاضرة الريح{[29264]} وما فيها قالوا : هذا عارض ممطرنا . فألقت أهل البادية ومواشيهم على أهل الحاضرة " {[29265]} .
والتسخير : الغصْب على عمل واستعير لتكوين الريح الصرصر تكويناً متجاوزاً المتعارف في قوة جنسها فكأنها مكرهة عليه .
وعلق به عليهم } لأنه ضمن معنى أرسلها .
و ( حسوم ) يجوز أن يكون جمع حاسم مثل قُعود جمع قاعد ، وشهود جمع شاهد ، غُلِّب فيه الأيام على الليالي لأنها أكثر عدداً إذ هي ثمانية أيام وهذا له معان :
أحدها أن يكون المعنى : يتابع بعضها بعضاً ، أي لا فصل بينها كما يقال : صيام شهرين متتابعين ، وقال عبد العزيز بن زرارة الكلابي{[435]} :
ففرَّق بينَ بينِهمُ زمانٌ *** تتابع فيه أعوام حُسُومٌ
قيل : والحسوم مشتق من حسْم الداءِ بالمكواة إذ يكوى ويُتابع الكي أيّاماً ، فيكون إطلاقه استعارة ، ولعلها من مبتكرات القرآن ، وبيت عبد العزيز الكلابي من الشعر الإِسلامي فهو متابع لاستعمال القرآن .
المعنى الثاني : أن يكون من الحَسم وهو القطع ، أي حاسمة مستأصلة . ومنه سمي السيف حُساماً لأنه يقطع ، أي حَسَمَتْهم فلم تُبققِ منهم أحداً ، وعلى هذين المعنيين فهو صفة ل { سبع ليال وثمانية أيّام } أو حال منها .
المعنى الثالث : أن يكون حسوم مصدراً كالشُكور والدخُول فينتصب على المفعول لأجله وعاملُه { سَخَّرها } ، أي سخرها عليهم لاستئصالهم وقطع دابرهم .
وكل هذه المعاني صالح لأن يذكر مع هذه الأيام ، فإيثار هذا اللفظ من تمام بلاغة القرآن وإعجازه .
وقد سمّى أصحاب المِيقات من المسلمين أياماً ثمانية منصَّفة بين أواخر فبراير وأوائل مارس معروفة في عادة نظام الجو بأن تشتد فيها الرياح غالباً ، أيامَ الحُسوم على وجه التشبيه ، وزعموا أنها تقابل أمثالها من العام الذي أصيبت فيه عاد بالرياح ، وهو من الأوهام ، ومن ذا الذي رصد تلك الأيام .
ومن أهل اللغة من زعم أن أيام الحسوم هي الأيام التي يقال لها : أيامُ العَجُوز أو العَجُز ، وهي آخر فصل الشتاء ويُعدها العرب خمسة أو سبعة لها أسماء معروفة مجموعة في أبيات تذكر في كتب اللغة ، وشتان بينها وبين حُسوم عاد في العِدة والمُدة .
وفرع على { سخرها عليهم } أنهم صاروا صَرعى كلهم يراهم الرائي لو كان حاضراً تلك الحالة .
والخطاب في قوله : { فترى } خطاب لغير معين ، أي فيرى الرائي لو كان راءٍ ، وهذا أسلوب في حكاية الأمور العظيمة الغائبة تستحضر فيه تلك الحالة كأنها حاضرة ويُتخيل في المقام سامع حاضر شاهد مُهْلَكهم أو شَاهَدَهم بعدَه ، وكلا المشاهدتين منتف في هذه الآية ، فيعتبر خطاباً فرضياً فليس هو بالتفات ولا هو من خطاب غير المعين ، وقريب منه قوله تعالى : { وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل } [ الشورى : 45 ] ، وقوله : { وإذا رأيتَ ثَمَّ رأيتَ نعيماً وملكاً كبيراً } [ الإنسان : 20 ] ، وعلى دقة هذا الاستعمال أهمل المفسرون التعرض له عدا كلمة للبيضاوي .
والتعريف في { القومَ } للعهد الذِّكري ، والقوم : القبيلة وهذا تصوير لهلاك جميع القبيلة .
وضمير { فيها } عائد إلى الليالي والأيام .
و { صرعى } : جمع صريع وهو الملقى على الأرض ميتاً .
وشُبهوا بأعجاز نخل ، أي أصول النخل ، وعجز النخلة : هو الساق التي تتصل بالأرض من النخلة وهو أغلظ النخلة وأشدها .
ووجه التشبيه بها أن الذين يقطعون النخل إذا قطعوه للانتفاع بأعواده في إقامة البيوت للسُقُف والعضادات انتقوا منه أصوله لأنها أغلظ وأملأ وتركوها على الأرض حتى تيبس وتزول رطوبتها ثم يجعلوها عَمَداً وأساطين .
والخاوي : الخالي مما كان مالئاً له وحالاً فيه .
وقوله : { خاويةٍ } مجرور باتفاق القراء ، فتعين أن يكون صفة { نخل .
ووصفُ نخل } بأنها { خاوية } باعتبار إطلاق اسم « النخل » على مكانه بتأويل الجنة أو الحديقة ، ففيه استخدام . والمعنى : خالية من الناس ، وهذا الوصف لتشويه المشبه به بتشويه مكانه ، ولا أثر له في المشابهة وأحسنه ما كان فيه مناسبة للغرض من التشبيه كما في الآية ، فإن لهذا الوصف وقعاً في التنفير من حالتهم ليناسب الموعظة والتحذير من الوقوع في مثل أسبابها ، ومنه قول كعب بن زهير :
لَذاكَ أهْيَبُ عندي إذْ أُكلمه *** وقيلَ إنَّك مَنسُوبٌ ومَسْؤول
مِن خادرٍ من لُيُوثثِ الأسْدِ مسكَنه *** من بَطْن عَثَّرَ غِيلٌ دونَهُ غِيل
الأبيات الأربعة ، وقول عنترة :
فتركتُه جَزَر السباععِ يَنُشْنَه *** يَقضِمْنَ حُسنَ بنانِه والمعصم
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.