{ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ } أي : المعاصي فيما دون الكفر . { حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } وذلك أن التوبة في هذه الحال توبة اضطرار لا تنفع صاحبها ، إنما تنفع توبة الاختيار . ويحتمل{[196]} أن يكون معنى قوله : { مِنْ قَرِيبٍ } أي : قريب من فعلهم للذنب الموجب للتوبة ، فيكون المعنى : أن من بادر إلى الإقلاع من حين صدور الذنب وأناب إلى الله وندم عليه فإن الله يتوب عليه ، بخلاف من استمر على ذنوبه{[197]} وأصر على عيوبه ، حتى صارت فيه صفاتٍ راسخةً فإنه يعسر عليه إيجاد التوبة التامة .
والغالب أنه لا يوفق للتوبة ولا ييسر لأسبابها ، كالذي يعمل السوء على علم تام{[198]} ويقين وتهاون{[199]} بنظر الله إليه ، فإنه سد{[200]} على نفسه باب الرحمة .
نعم قد يوفق الله عبده المصر على الذنوب عن عمد ويقين لتوبة{[201]} تامة{[202]} [ التي ] يمحو بها ما سلف من سيئاته وما تقدم من جناياته ، ولكن الرحمة والتوفيق للأول أقرب ، ولهذا ختم الآية الأولى بقوله : { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا }
فمِن علمه أنه يعلم صادق التوبة وكاذبها فيجازي كلا منهما بحسب ما يستحق بحكمته ، ومن حكمته أن يوفق من اقتضت حكمته ورحمته توفيقَه للتوبة ، ويخذل من اقتضت حكمته وعدله عدمَ توفيقه . والله أعلم .
وهذا كما قال تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ . فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ]{[6821]} } الآيتين ، [ غافر : 84 ، 85 ] وكما حكم تعالى بعدم توبة أهل الأرض إذا عاينوا الشمس طالعة من مغربها كما قال [ تعالى ]{[6822]} { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا } الآية [ الأنعام : 158 ] .
وقوله : { وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } [ الآية ]{[6823]} يعني : أن الكافر إذا مات على كفره وشركه لا ينفعه ندمه ولا توبته ، ولا يقبل منه فدية ولو بملء الأرض [ ذهبا ]{[6824]} .
قال ابن عباس ، وأبو العالية ، والربيع بن أنس : { وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } قالوا : نزلت في أهل الشرك .
وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود ، حدثنا عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ، قال : حدثني أبي ، عن مكحول : أن عُمَرَ بن نعيم حدثه عن أسامة بن سلمان : أن أبا ذر حدثهم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله يقبل تَوْبَةَ عَبْدِه - أو يغفر لعبده - ما لم يَقَعِ الحِجَاب " . قيل : وما وُقُوع الحجاب ؟ قال : " أن تَخرجَ النَّفْسُ وهي مُشْرِكة " {[6825]} ؛ ولهذا قال [ تعالى ]{[6826]} { أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } أي : موجعا شديدا مقيما .
{ وَلَيْسَتِ التّوْبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السّيّئَاتِ حَتّىَ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنّي تُبْتُ الاَنَ وَلاَ الّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفّارٌ أُوْلََئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : وليست التوبة للذين يعملون السيئات من أهل الإصرار على معاصي الله ، حتى إذا حضر أحدهم الموت ، يقول : إذا حشرج أحدهم بنفسه ، وعاين ملائكة ربه قد أقبلوا إليه لقبض روحه قال : وقد غلب على نفسه ، وحيل بينه وبين فهمه بشغله بكرب حشرجته وغرغرته : إني تبت الاَن ، يقول فليس لهذا عند الله تبارك وتعالى توبة ، لأنه قال ما قال في غير حال توبة . كما :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن يعلى بن نعمان ، قال : أخبرني من سمع ابن عمر يقول : التوبة مبسوطة ما لم يَسُقْ . ثم قرأ ابن عمر : { وَلَيْسَتِ التّوبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلونَ السّيّئاتِ حتى إذَا حَضَرَ أحَدُهمُ المَوْتُ قالَ إنّي تبْتُ الاَنَ } ثم قال : وهل الحضور إلا السّوْق .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَلَيْسَتِ التّوبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلونَ السّيّئاتِ حتى إذَا حَضَرَ أحَدُهمُ المَوْتُ قالَ إنّي تبْتُ الاَنَ } قال : إذا تبين الموت فيه لم يقبل الله له توبة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن أبي النضر ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : { وَلَيْسَتِ التّوبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلونَ السّيّئاتِ حتى إذَا حَضَرَ أحَدُهمُ المَوْتُ قالَ إنّي تبْتُ الاَنَ } فليس لهذا عند الله توبة .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سمعت إبراهيم بن ميمون ، يحدّث عن رجل من بني الحارث ، قال : حدثنا رجل منا ، عن عبد الله بن عمرو ، أنه قال : «مَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِهِ بعَامٍ تِيبَ عَلَيْهِ » ، حتى ذكر شهرا ، حتى ذكر ساعة ، حتى ذكر فُواقا ، قال : فقال رجل : كيف يكون هذا والله تعالى يقول : { وَلَيْسَتِ التّوبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلونَ السّيّئاتِ حتى إذَا حَضَرَ أحَدُهمُ المَوْتُ قالَ إنّي تبْتُ الاَنَ } ؟ فقال عبد الله : أنا أحدثك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن إبراهيم ، قال : كان يقال : التوبة مبسوطة ما لم يؤخذ بكَظَمِه .
واختلف أهل التأويل فيمن عُني بقوله : { وَلَيْسَتِ التّوبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلونَ السّيّئاتِ حتى إذَا حَضَرَ أحَدُهمُ المَوْتُ قالَ إنّي تبْتُ الاَنَ } فقال بعضهم : عُني به أهل النفاق . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } قال : نزلت الأولى في المؤمنين ، ونزلت الوسطى في المنافقين ، يعني : { وَلَيْسَتِ التّوبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلونَ السّيّئاتِ } والأخرى في الكفار ، يعني : { وَلا الّذِينَ يَموتونَ وَهمْ كفّارٌ } .
وقال آخرون : بل عني بذلك أهل الإسلام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، قال : بلغنا في هذه الاَية : { وَلَيْسَتِ التّوبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلونَ السّيّئاتِ حتى إذَا حَضَرَ أحَدُهمُ المَوْتُ قالَ إنّي تبْتُ الاَنَ } قال : هم المسلمون ، ألا ترى أنه قال : { وَلا الّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفّارٌ } ؟
وقال آخرون : بل هذه الاَية كانت نزلت في أهل الإيمان ، غير أنها نسخت . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { وَلَيْسَتِ التّوبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلونَ السّيّئاتِ حتى إذَا حَضَرَ أحَدُهمُ المَوْتُ قالَ إنّي تبْتُ الاَنَ وَلا الّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفّارٌ } فأنزل الله تبارك وتعالى بعد ذلك : { إنّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشاءُ } فحرّم الله تعالى المغفرة على من مات وهو كافر ، وأرجأ أهل التوحيد إلى مشيئته ، فلم يؤيسهم من المغفرة .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب ما ذكره الثوري أنه بلغه أنه في الإسلام ، وذلك أن المنافقين كفار ، فلو كان معنيا به أهل النفاق لم يكن لقوله : { وَلا الّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كفّارٌ } معنى مفهوم ، لأنهم إن كانوا هم والذين قبلهم في معنى واحد من أن جميعهم كفار ، فلا وجه لتفريق أحد منهم في المعنى الذي من أجله بطل أن تكون توبة واحد مقبولة . وفي تفرقة الله جلّ ثناؤه بين أسمائهم وصفاتهم بأن سمى أحد الصنفين كافرا ، ووصف الصنف الاَخر بأنهم أهل سيئات ، ولم يسمهم كفارا ما دلّ على افتراق معانيهم ، وفي صحة كون ذلك كذلك صحة ما قلنا ، وفساد ما خالفه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا الّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كفّارٌ أُولَئِكَ أعْتَدْنا لَهُمْ عَذَابا ألِيما } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : ولا التوبة للذين يموتون وهم كفار فموضع «الذين » خفض ، لأنه معطوف على قوله : { لِلّذِينَ يَعْمَلونَ السّيّئاتِ } . وقوله : { أُولَئِكَ أعْتَدْنا لَهُمْ عَذَابا ألِيما } يقول : هؤلاء الذين يموتون وهم كفار ، أعتدنا لهم عذابا أليما ، لأنهم أبعدهم من التوبة كونهم على الكفر . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن أبي النضر ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : { وَلا الّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كفّارٌ } أولئك أبعد من التوبة .
واختلف أهل العربية في معنى : { أعْتَدْنا لَهُمْ } فقال بعض البصريين : معنى : { أعْتَدْنا } : أفعلنا من العتاد ، قال : ومعناها : أعددنا . وقال بعض الكوفيين : أعددنا وأعتدنا معناهما واحد ، فمعنى قوله : { أعْتَدْنا لَهُمْ } أعددنا لهم { عَذَابا ألِيما } يقول : مؤلما موجعا .
ثم نفى بقوله تعالى : { وليست التوبة } الآية أن يدخل في حكم التائبين من حضره موته وصار في حيز اليأس ، وحضور الموت هو غاية قربه ، كما كان فرعون حين صار في غمرة الماء والغرق ، فلم ينفعه ما أظهر من الإيمان ، وبهذا قال ابن عباس وابن زيد وجماعة المفسرين ، وقاله الربيع : الآية الأولى قوله : { إنما التوبة على الله } هي في المؤمنين ، والآية الثانية قوله : { وليست التوبة } الآية نزلت في المسلمين ثم نسخت بقوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }{[3905]} فحتم أن لا يغفر للكافر وأرجأ المؤمنين إلى مشيئته لم ييئسهم من المغفرة .
قال القاضي أبو محمد : وطعن بعض الناس في هذا القول بأن الآية خبر ، والأخبار لا تنسخ . وهذا غير لازم ، لأن الآية لفظها الخبر ، ومعناه تقرير حكم شرعي ، فهي نحو قوله تعالى : { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله }{[3906]} ونحو قوله تعالى : { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين }{[3907]} وإنما يضعف القول بالنسخ من حيث تنبني الآيتان ولا يحتاج إلى تقرير نسخ ، لأن هذه الآية لم تنف أن يغفر للعاصي الذي لم يتب من قريب ، فنحتاج أن نقول ، إن قوله : { ويغفر ما دون ذلك } [ النساء : 48 ، 116 ] نسخها وإنما نفت هذه الآية أن يكون تائباً من لم يتب إلا مع حضور الموت ، فالعقيدة عندي في هذه الآيات : أن من تاب من قريب فله حكم التائب فيغلب الظن عليه أنه ينعم ولا يعذب ، هذا مذهب أبي المعالي وغيره ، وقال غيرهم : بل هو مغفور له قطعاً ، لإخبار الله تعالى بذلك ، وأبو المعالي يجعل تلك الأخبار ظواهر مشروطة بالمشيئة ، ومن لم يتب حتى حضره الموت فليس في حكم التائبين ، فإن كان كافراً فهو يخلد ، وإن كان مؤمناً فهو عاص في المشيئة ، لكن يغلب الخوف عليه ، ويقوى الظن في تعذيبه ، ويقطع من جهة السمع أن من هذه الصنيفة من يغفر الله له تعالى تفضلاً منه ولا يعذبه وأعلم الله تعالى أيضاً أن { الذين يموتون وهم كفار } فلا مستعتب لهم ولا توبة في الآخرة ، وقوله تعالى : { أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً } إن كانت الإشارة إلى الذين يموتون وهم كفار فقط ، فالعذاب عذاب خلود ، وإن كانت الإشارة إليهم وإلى من ينفذ عليه الوعيد ، ممن لا يتوب إلا مع حضور الموت من العصاة فهو في جهة هؤلاء ، عذاب ولا خلود معه ، و { أعتدنا } معناه : يسرناه وأحضرناه ، وظاهر هذه الآية أن النار مخلوقة بعد .
قوله تعالى : { وليست التوبة للذين يعملون السيّئات } إلى { وهم كفار } قسيم لمضمون قوله : { إنما التوبة على الله } إلخ ، ولا واسطة بين هذين القسمين .
وقد اختلف علماء الكلام في قبول التوبة ؛ هل هو قطعي أو ظني فيها لتفرّع أقوالهم فيها على أقوالهم في مسألة وجوب الصلاح والأصلح لله تعالى ووجوب العدل .
فأمّا المعتزلة فقالوا : التوبة الصادقة مقبولة قطعاً بدليل العقل ، وأحسب أنّ ذلك ينحون به إلى أنّ التائب قد أصلح حاله ، ورغب في اللحاق بأهل الخير ، فلو لم يقبل الله منه ذلك لكان إبقاء له في الضلال والعذاب ، وهو منزّه عنه تعالى على أصولهم ، وهذا إن أرادوه كان سفسطة لأنّ النظر هنا في العفو عن عقاب استحقّه التائب من قبل توبته لا في ما سيأتي به بعد التوبة .
وأمّا علماء السنّة فافترقوا فرقتين : فذهب جماعة إلى أنّ قبول التوبة مقطوع به لأدلّة سمعيّة ، هي وإن كانت ظواهر ، غير أنّ كثرتها أفادت القطع ( كإفادة المتواتر القطعَ مع أنّ كلّ خبر من آحاد المخبرين به لا يفيد إلاّ الظنّ ، فاجتماعها هو الذي فاد القطع ، وفي تشبيه ذلك بالتواتر نظر ) ، وإلى هذا ذهب الأشعري ، والغزالي والرازي ، وابن عطية ووالده أبو بكر ابن عطية ، وذهب جماعة إلى أنّ القبول ظني لا قطعي ، وهو قول أبي بكر الباقلاني ، وإمام الحرمين ، والمازري والتفتزاني ، وشرف الدين الفهري وابن الفرس في أحكام القرآن بناء على أنّ كثرة الظواهر لا تفيد اليقين ، وهذا الذي ينبغي اعتماده نظراً . غير أنّ قبول التوبة ليس من مسائل أصول الدين فلماذا نطلب في إثباته الدليل القطعي .
والذي أراه أنّهم لمّا ذكروا القبول ذكروه على إجماله ، فكان اختلافهم اختلافاً في حالة ، فالقبول يطلق ويراد به معنى رضي الله عن التائب ، وإثباته في زمرة المتّقين الصالحين ، وكأنّ هذا هو الذي نظر إليه المعتزلة لمَّا قالوا بأنّ قبولها قطعّي عقلاً . وفي كونه قطعيّا ، وكونه عقلاً ، نظر واضح ، ويدلّ لذلك أنّهم قالوا : إنّ التوبة لا تصحّ إلاّ بعد الإقلاع عن سائر الذنوب ليتحقّق معنى صلاحه . ويطلق القبول ويراد ما وعد الله به من غفران الذنوب الماضية قبل التوبة ، وهذا أحسبهم لا يختلفون في كونه سمعياً لا عقلياً ، إذ العقل لا يقتضي الصفح عن الذنوب الفارطة عند الإقلاع عن إتيان أمثالها في المستقبل ، وهذا هو المختلف في كونه قطعيّا أو ظنيّا ، ويطلق القبول على معنى قبول التوبة من حيث إنّها في ذاتها عمل مأمور به كلّ مذنب ، أي بمعنى أنّها إبطال الإصرار على الذنوب التي كان مصرّا على إتيانها ، فإنّ إبطال الإصرار مأمور به لأنّه من ذنوب القلب فيجب تطهير القلب منه ، فالتائب من هذه الجهة يعتبر ممتثلاً لأمر شرعي ، فالقبول بهذا المعنى قطعي لأنّه صار بمعنى الإجزاء ، ونحن نقطع بأنّ من أتى عَملا مأموراً به بشروطه الشرعية كان عمله مقبولاً بمعنى ارتفاع آثار النهي عنه ، ولكن بمعنى الظنّ في حصول الثواب على ذلك . ولعلّ هذا المعنى هو الذي نظر إليه الغزالي إذ قال في كتاب التوبة « إنّك إذا فهمت معنى القبول لم تشكّ في أنّ كلّ توبة صحيحة هي مقبولة إذ القلب خُلق سليماً في الأصل ، إذ كلّ مولود يولد على الفطرة وإنّما تفوته السلامة بكدرة ترهقه من غيرة الذنوب ، وأنّ نور الندم يمحو عن القلب تلك الظلمة كما يمحو الماء والصابون عن الثواب الوسخ .
فمن توهّم أنّ التوبة تصحّ ولا تقبل كمن توهّم أنّ الشمس تطلع والظلام لا يزول ، أو أنّ الثوب يغسل والوسخ لا يزول ، نعم قد يقول التائب باللسان تبت ولا يقلع ، فذلك كقول القصّار بلسانه غسلت الثوب وهو لم يغسله فذلك لا ينظّف الثوب » . وهذا الكلام تقريب إقناعي . وفي كلامه نظر بيِّن لأنّا إنّما نبْحث عن طرح عقوبة ثابتة هل حدثان التوبة يَمْحُوها .
والإشارة في المسند إليه في قوله : { فأولئك يتوب الله عليهم } للتنبيه على استحضارهم باعتبار الأوصاف المتقدّمة البالغة غاية الخوف من الله تعالى والمبادرة إلى طلب مرضاته ، ليعرف أنّهم أحرياء بمدلول المسند الوارد بعد الإشارة ، نظير قوله تعالى : { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] والمعنى : هؤلاء هم الذين جعلهم الله مستحقّين قبول التوبة منهم ، وهو تأكيد لقوله : { إنما التوبة على الله } إلى آخره .
وقوله : { وليست التوبة } إلخ تنبيه على نفي القبول عن نوع من التوبة وهي التي تكون عند اليأس من الحياة لأنّ المقصد من العزم ترتُّب آثاره عليه وصلاح الحل في هذه الدار بالاستقامة الشرعية ، فإذا وقع اليأس من الحياة ذهبت فائدة التوبة .
وقوله : { ولا الذين يموتون وهم كفار } عطف الكفّار على العصاة في شرط قبول التوبة منهم لأنّ إيمان الكافر توبة من كفره ، والإيمان أشرف أنواع التوبة ، فبيَّن أنّ الكافر إذا مات كافراً لا تقبل توبته من الكفر .
وللعلماء في تأويله قولان : أحدهما الأخذ بظاهره وهو أن لا يحول بين الكافر وبين قبول توبته من الكفر بالإيمان إلا حصول الموت ، وتأوّلوا معنى { وليست التوبة } له بأنّ المراد بها ندمُهُ يوم القيامة إذا مات كافراً ، ويؤخذ منه أنّه إذا آمن قبل أن يموت قُبل إيمانه ، وهو الظاهر ، فقد ثبت في « الصحيح » : أنّ أبا طالب لمّا حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعندَه أبو جهل ، وعبد الله بن أبي أمية فقال : أي عمّ قل لا إله إلا الله كلمة أحَاجّ لك بها عند الله . فقال أبو جهل وعبد الله : أترغب عن ملّة عبد المطلب . فكان آخر ما قال أبو طالب أنّه على ملّة عبد المطلب ، فقال النبي : لأستغفرنّ لك ما لم أنْهَ عنك . فنزلت { ما كان للنبيء والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبيّن لهم أنّهم أصحاب الجحيم } [ التوبة : 113 ] ويؤذن به عطف { ولا الذين يموتون وهم كفار } بالمغايرة بين قوله : { حتى إذا حضر أحدهم الموت } الآية وقوله : { ولا الذين يموتون وهم كفار } .
وعليه فوجه مخالفة توبته لتوبة المؤمن العاصي أنّ الإيمان عمل قلبي ، ونطق لساني ، وقد حصل من الكافر التائب وهو حي ، فدخل في جماعة المسلمين وتقوّى به جانبهم وفشت بإيمانه سمعة الإسلام بين أهل الكفر .
وثانيهما : أنّ الكافر والعاصي من المؤمنين سواء في عدم قبول التوبة ممّا هما عليه ، إذا حضرهما الموت . وتأوّلوا قوله : { يموتون وهم كفار } بأنّ معناه يُشرفون على الموت على أسلوب قوله { وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا } [ النساء : 9 ] أي لو أشرفوا على أن يتركوا ذرّيّة . والدّاعي إلى التأويل نظم الكلام لأنّ ( لا ) عاطفة على معمول لخبر التوبة المنفية ، فيصير المعنى : وليست التوبة للذين يموتون وهم كفّار فيتوبون ، ولا تعقل توبة بعد الموت فتعيّن تأويل ( يموتون ) بمعنى يشرفون كقوله { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم } [ البقرة : 240 ] ، واحتجّوا بقوله تعالى في حقّ فرعون { حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين } [ يونس : 90 ، 91 ] المفيد أنّ الله لم يقبل إيمانه ساعتئذ . وقد يجاب عن هذا الاستدلال بأنّ ذلك شأن الله في الذين نزل بهم العذاب أنّه لا ينفعهم الإيمان بعد نزول العذاب إلاّ قوم يونس قال تعالى : { فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين } [ يونس : 98 ] فالغرق عذاب عذّب الله به فرعون وجنده .
قال ابن الفرس ، في أحكام القرآن : وإذا صحّت توبة العبد فإن كانت عن الكفر قطعنا بقبولها ، وإن كانت عن سواه من المعاصي ؛ فمن العلماء من يقطع بقبولها ، ومنهم من لم يقطع ويظنّه ظنّا اهـ .