32- ولا يتطلع الرجال إلى ما مَيَّز الله به النساء ، ولا النساء إلى ما ميز الله به الرجال ، فإن لكل فريق حظاً ملائماً لما طبع عليه من العمل وما أضيف إليه من الحقوق ، فليتجه كل إلى رجاء الاستزادة من فضل الله بتنمية مواهبه والاستعانة على ما نيط به . إن الله كان عالماً أتم العلم بكل شيء ، وقد أعطى كل نوع ما يصلح له .
{ وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا }
ينهى تعالى المؤمنين عن أن يتمنى بعضهم ما فضل الله به غيره من الأمور الممكنة وغير الممكنة . فلا تتمنى النساء خصائص الرجال التي بها فضلهم على النساء ، ولا صاحب الفقر والنقص حالة الغنى والكمال تمنيا مجردا لأن هذا هو الحسد بعينه ، تمني نعمة الله على غيرك أن تكون لك ويسلب إياها . ولأنه يقتضي السخط على قدر الله والإخلاد إلى الكسل والأماني الباطلة التي لا يقترن بها عمل ولا كسب . وإنما المحمود أمران : أن يسعى العبد على حسب قدرته بما ينفعه من مصالحه الدينية والدنيوية ، ويسأل الله تعالى من فضله ، فلا يتكل على نفسه ولا على غير ربه . ولهذا قال تعالى : { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا } أي : من أعمالهم المنتجة للمطلوب . { وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ } فكل منهم لا يناله غير ما كسبه وتعب فيه . { وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ } أي : من جميع مصالحكم في الدين والدنيا . فهذا كمال العبد وعنوان سعادته لا من يترك العمل ، أو يتكل على نفسه غير مفتقر لربه ، أو يجمع بين الأمرين فإن هذا مخذول خاسر .
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } فيعطي من يعلمه أهلا لذلك ، ويمنع من يعلمه غير مستحق .
قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد قال : قالت أم سلمة : يا رسول الله ، يغزو الرجال ولا نغزو ، ولنا نصف الميراث . فأنزل الله عز وجل : { وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ }
ورواه الترمذي عن ابن أبي عمر ، عن سفيان ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، عن أمّ سلمة أنها قالت : قلت : يا رسول الله . . . فذكره ، وقال : غريب{[7384]} ورواه بعضهم عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، أن أم سلمة قالت . . .
ورواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير وابن مَرْدُويه ، والحاكم في مستدركه ، من حديث الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : قالت أم سلمة : يا رسول الله ، لا نقاتل فنستشهد ، ولا نقطع الميراث ! فنزلت : { وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ } ثم نزلت : { أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى }{[7385]} [ آل عمران : 195 ] .
ثم قال ابن أبي حاتم : وكذا روى سفيان بن عيينة ، يعني عن ابن أبي نجيح بهذا اللفظ . وروى يحيى القطان ووكيع بن الجراح ، عن الثوري ، وعن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن أم سلمة قالت : قلت : يا رسول الله . . . وروي عن مقاتل بن حَيّان وخُصَيف نحوُ ذلك .
وروى ابن جرير من حديث ابن جريج ، عن عكرمة ومجاهد أنهما قالا أنزلت في أم سلمة .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن شيخ من أهل مكة قال : نزلت هذه الآية في قول النساء : ليتنا الرجال فنجاهد كما يجاهدون ونغزو في سبيل الله عز وجل .
وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية ، حدثني أحمد بن عبد الرحمن ، حدثني أبي ، حدثنا الأشعث بن إسحاق ، عن جعفر - يعني ابن أبي المغيرة - عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في ] قوله[ {[7386]} { وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ } قال : أتت امرأةٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالت : يا نبي الله ، للذكر مثل حظ الأنثيين ، وشهادة امرأتين برجل ، فنحن{[7387]} في العمل هكذا ، إن عملت امرأة حسنة كتبت لها نصف حسنة . فأنزل الله هذه الآية : { وَلا تَتَمَنَّوْا } فإنه عدل مني ، وأنا صنعته .
وقال السدي : قوله : في الآية { وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } فإن الرجال قالوا : نريد أن يكون لنا من الأجر الضعف على أجر النساء ، كما لنا في السهام سهمان . وقالت النساء : نريد أن يكون لنا أجر مثل أجر الرجال الشهداء ، فإنا لا نستطيع أن نقاتل ، ولو كتب علينا القتال لقاتلنا فأبى الله ذلك ، ولكن قال لهم : سلوني من فضلي قال : ليس بعرض الدنيا .
وقد روي عن قتادة نحو ذلك . وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : قوله : { وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } قال{[7388]} ولا يتمنى الرجل فيقول : " ليت لو أن لي مال فلان وأهله ! " فنهى الله عن ذلك ، ولكن يسأل الله من فضله .
وكذا قال محمد بن سيرين والحسن والضحاك وعطاء نحو ذلك{[7389]} وهو الظاهر من الآية ولا يرد على هذا ما ثبت في الصحيح : " لا حَسَد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا فسَلَّطَه على هَلَكَتِهِ في الحق ، فيقول رجل : لو أن لي مثل ما لفلان لعَمِلْتُ مثله . فهما في الأجر سواء " {[7390]} فإن هذا شيء غير ما نهت الآية عنه ، وذلك أن الحديث حَضَّ على تمني مثل نعمة هذا ، والآية نهت عن تمني عين نعمة هذا ، فقال : { وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } أي : في الأمور الدنيوية ، وكذا الدينية أيضا لحديث أم سلمة ، وابن عباس . وهكذا قال عطاء بن أبي رباح : نزلت في النهي عن تمني ما لفلان ، وفي تمني النساء أن يكن رجالا فيغزون . رواه ابن جرير .
ثم قال : { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ } أي : كل له جزاء على عمله بحسبه ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر . وهو{[7391]} قول ابن جرير .
وقيل : المراد بذلك في الميراث ، أي : كل يرث بحسبه . رواه الترمذي{[7392]} عن ابن عباس :
ثم أرشدهم إلى ما يصلحهم فقال : { وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ } ] أي[ {[7393]} لا تتمنوا ما فضل{[7394]} به بعضكم على بعض ، فإن هذا أمر محتوم ، والتمني لا يجدي شيئًا ، ولكن سلوني من فضلي أعطكم ؛ فإني كريم وهاب .
وقد روى الترمذي ، وابن مردويه من حديث حماد بن واقد : سمعت إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سلُوا الله من فَضْلِه ؛ فإن{[7395]} الله يحب أن يسأل وإن أفضل العبادة انتظار الفرج " .
ثم قال الترمذي : كذا رواه حماد بن واقد ، وليس بالحافظ ، ورواه أبو نُعَيم ، عن إسرائيل ، عن حكيم بن جبير ، عن رجل ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وحديث أبي نعيم أشبه أن يكون أصح{[7396]}
وكذا رواه ابن مردويه من حديث وَكِيع ، عن إسرائيل . ثم رواه من حديث قيس بن الربيع ، عن حكيم بن جُبَير ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله : " سَلُوا الله من فَضْلِه ، فإن الله{[7397]} يحب أن يُسأل ، وإن أحبَّ عباده إليه الذي يُحب الفرج " {[7398]} .
ثم قال : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } أي : هو عليم بمن يستحق الدنيا فيعطيه منها ، وبمن يستحق الفقر فيفقره ، وعليم بمن يستحق الآخرة فيقيضه{[7399]} لأعمالها ، وبمن يستحق الخذلان فيخذله عن تعاطي الخير وأسبابه ؛ ولهذا قال : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } .
القول في تأويل قوله { وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبوُا وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيماً }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : ولا تتشهّوا ما فضّل الله به بعضكم على بعض ، وذكر أن ذلك نزل في نساء تَمَنِّين منازل الرجال ، وأن يكون لهم ما لهم ، فنهى الله عباده عن الأمانيّ الباطلة ، وأمرهم أن يسألوه من فضله إذ كانت الأمانيّ تورِث أهلها الحسد ، والغي بغير الحقّ .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : قالت أمّ سلمة : يا رسول الله لا نعطى الميراث ، ولا نغزو في سبيل الله فنقتل ، فنزلت { وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْض } .
حدثناأبو كريب ، قال : ثنا معاوية بن هشام ، عن سفيان الثوريّ ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : قالت أمّ سلمة : يا رسول الله : تغزو الرجال ، ولا نغزو ، وإنما لنا نصف الميراث ، فنزلت { وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبوُا وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ } ، ونزلت : { إنَّ المُسْلِمِينَ والمُسْلِماتِ } .
حدثني المثنى ، قال : ثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثنى معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } يقول : لا يتمنى الرجل يقول : ليت أن لي مال فلان وأهله ، فنهى الله سبحانه عن ذلك ، ولكن ليسأل الله من فضله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } قال : قول النساء : ليتنا رجال فنغزو ، ونبلغ ما يبلغ الرجال .
حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } قول النساء يتمنين ، ليتنا رجال فنغزو ، ثم ذكر مثل حديث محمد بن عمرو .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عُيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : قالت أمّ سلمة : أيْ رسولَ الله ، أتغزو الرجال ولا نغزو ، وإنما لنا نصف الميراث ، فنزلت وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن شيخ من أهل مكة ، قوله : { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } قال : كان النساء يقلن : ليتنا رجال فنجاهد كما يجاهد الرجال ، ونغزو في سبيل الله ! فقال الله : { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، قال : تتمنى مال فلان ومال فلان ، وما يدريك لعلّ هلاكه في ذلك المال .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين قال : ثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ومجاهد أنهما قالا : نزلت في أمّ سلمة ابنة أبي أمية بن المغيرة .
وبه قال : ثنى حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، قال : هو الإنسان يقول : وددت أن لي مال فلان ! قال : واسألوا الله من فضله ، وقول النساء : ليتنا رجال فنغزو ، ونبلغ ما يبلغ الرجال .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : لا يتمنّ بعضكم ما خصّ الله بعضاً من منازل الفضل . ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن مفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } فإن الرجال قالوا : نريد أن يكون لنا من الأجر الضعف على أجر النساء ، كما لنا في السهام سهمان ، فنريد أن يكون لنا في الأجر أجران ، وقال النساء : نريد أن يكون لنا أجر مثل الرجال ، فأنا لا نستطيع أن نقاتل ، ولو كتب علينا القتال لقاتلنا .
فأنزل الله تعالى الآية ، وقال لهم : سلوا الله من فضله ، يرزقكم الأعمال ، وهو خير لكم .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن محمد ، قال : نهيتم عن الأمانيّ ، ودُللتم على ما هو خير منه ، واسألوا الله من فضله .
حدثني المثنى ، قال : ثنا عارم ، قال : ثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، قال : كان محمد إذا سمع الرجل يتمنى في الدنيا ، قال : قد نهاكم الله عن هذا ، { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } ودلكم على خير منه ، واسألوا الله من فضله .
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام على هذا التأويل : ولا تتمنوا أيها الرجال والنساء الذي فضل الله به بعضكم على بعض من منازل الفضل ، ودرجات الخير وليرض أحدكم بما قسم الله له من نصيب ، ولكن سلو الله من فضله .
القول في تأويل قوله تعالى : { لّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : للرجال نصيب مما اكتسبوا من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية ، وللنساء نصيب من ذلك مثل ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ } كان أهل الجاهلية لا يورثون المرأة شيئاً ولا الصبيّ شيئاً ، وإنما يجعلون الميراث لمن يحترف وينفع ويدفع ، فلما لحق للمرأة نصيبها وللصبيّ نصيبه ، وجعل للذكر مثل حظّ الأنثيين ، قال النساء : لو كان جعل أنصباءنا في الميراث كأنصباء الرجال ! وقال الرجال : إنا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا في الآخرة ، كما فضلنا عليهنّ في الميراث ! فأنزل الله : { لّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ } ، يقول : المرأة تجزى بحسنتها عشر أمثالها كما يجزي الرجل ، قال الله تعالى : { وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ } .
حدثني المثنى ، قال : ثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، قال : ثنى أبو ليلى ، قال : سمعت أبا جرير يقول : لما نزل : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ } قالت النساء : كذلك عليهم نصيبان من الذنوب ، كما لهم نصيبان من الميراث ! فأنزل الله : { لّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ } يعني الذنوب ، واسألوا الله يا معشر النساء من فضله .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : للرجال نصيب مما اكتسبوا من ميراث موتاهم ، وللنساء نصيب منهم .
ذكر من قال ذلك : حدثنا المثنى ، قال : ثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثنى معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { لّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ } يعني : ما ترك الوالدان والأقربون ، يقول :
{ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأُنْثَيَيْنِ }
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن أبي إسحاق ، عن عكرمة أو غيره ، في قوله : { بَعْضٍ لّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ } قال : في الميراث كانوا لا يورّثون النساء .
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بتأويل الآية قول من قال معناه : للرجال نصيب من ثواب الله وعقابه مما اكتسبوا ، فعملوه من خير أو شرّ ، وللنساء نصيب مما اكتسبن من ذلك كما للرجال .
وإنما قلنا إن ذلك أولى بتأويل الآية من قول من قال تأويله : للرجال نصيب من الميراث ، وللنساء نصيب منه ، لأن الله جلّ ثناؤه أخبر أن لكلّ فريق من الرجال والنساء نصيباً مما اكتسب ، وليس الميراث مما اكتسبه الوارث ، وإنما هو مال أورثه الله عن ميته بغير اكتساب ، وإنما الكسب العمل ، والمكتسب : المحترف ، فغير جائز أن يكون معنى الآية ، وقد قال الله : { لّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ } للرجال نصيب مما ورثوا ، وللنساء نصيب مما ورثن ؛ لأن ذلك لو كان كذلك لقيل : للرجال نصيب مما لم يكتسبوا ، وللنساء نصيب مما لم يكتسبن .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاسْئَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ } . يعني بذلك جلّ ثناؤه : واسألوا الله من عونه وتوفيقه للعمل بما يرضيه عنكم من طاعته ، ففضله في هذا الموضع : توفيقه ومعونته . كما : حدثنا محمد بن مسلم الرازي ، قال : ثنا أبو جعفر النفيلي ، قال : ثنا يحيى بن يمان ، عن أشعث ، عن سعيد : { وَاسْئَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ } قال : العبادة ليست من أمر الدنيا .
حدثنا محمد بن مسلم ، قال : ثنى أبو جعفر ، قال : ثنا موسى ، عن ليث ، قال : فضله العبادة ليس من أمر الدنيا .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا هشام ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله : { وَاسْئَلُواْ مِن فَضْلِهِ } قال : ليس بعرض الدنيا . حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن مفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ : { وَاسْئَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ } يرزقكم الأعمال ، وهو خير لكم . حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، قال : ثنا إسرائيل ، عن حكيم بن جبير ، عن رجل لم يسمه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سَلُوا اللّهَ مِنْ فَضْلِهِ فإنَّهُ يُحِبُّ أنْ يُسألَ ، وإنَّ مِنْ أفْضَلِ العِبادَةِ انْتِظارَالفَرَج "
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلّ شَىْء عَلِيماً } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : إن الله كان بما يصلح عباده فيما قسم لهم من خير ، ورفع بعضهم فوق بعض في الدين والدنيا ، وبغير ذلك من قضائه وأحكامه فيهم { عَلِيماً } يقول : ذا علم ، ولا تتنموا غير الذي قضى لكم ، ولكن عليكم بطاعته والتسليم لأمره ، والرضا بقضائه ومسئلته من فضله .
سبب الآية أن النساء قلن : ليتنا استوينا مع الرجال في الميراث وشركناهم في الغزو ، وروي أن أم سلمة قالت ذلك أونحوه{[3988]} ، وقال الرجال : ليت لنا في الآخرة حظاً زائداً على النساء ، كما لنا عليهن في الدنيا ، فنزلت الآية .
قال القاضي أبو محمد : لأن في تمنيهم هذا تحكماً على الشريعة ، و تطرقاً إلى الدفع في صدر حكم الله ، فهذا نهي عن كل تمنٍّ لخلاف حكم شرعي ، ويدخل في النهي أن يتمنى الرجل حال الآخر من دين أو دنيا ، على أن يذهب ما عند الآخر ، إذ هذا هو الحسد بعينه ، وقد كره بعض العلماء أن يتمنى أحد حال رجل ينصبه في فكره وإن لم يتمنَّ زوال حاله ، وهذا في نعم الدنيا ، وأما في الأعمال الصالحة فذلك هو الحسن ، وأما إذا تمنى المرء على الله من غير أن يقرن أمنيته بشيء مما قدمناه فذلك جائز ، وذلك موجود في حديث النبي عليه السلام في قوله «وددت أن أقتل في سبيل الله ثم أحيا فأقتل »{[3989]} وفي غير موضع ، ولقوله تعالى : { واسألوا الله من فضله } .
وقوله تعالى : { للرجال نصيب } الآية قال قتادة : معناه من الميراث ، لأن العرب كانت لا تورث النساء .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول ضعيف ولفظة الاكتساب ترد عليه رداً بيناً ، ولكنه يتركب على قول النساء : ليتنا ساوينا الرجال في الميراث ، فكأنه قيل بسببهن : لا تتمنوا هذا فلكل نصيبه ، وقالت فرقة : معناه من الأجر والحسنات ، فكأنه قيل للناس : لا تتمنوا في أمر خلاف ما حكم الله به ، لاختيار ترونه أنتم ، فإن الله قد جعل لكلّ أحد نصيباً من الأجر والفضل ، بحسب اكتسابه فيما شرع له .
قال القاضي أبو محمد : وهذا القول الواضح البيِّن الأعم ، وقالت فرقة : معناه : لا تتمنوا خلاف ما حد الله في تفضيله ، فإنه تعالى قد جعل لكل أحد مكاسب تختص به ، فهي نصيبه ، قد جعل الجهاد والإنفاق وسعي المعيشة وحمل الكلف كالأحكام والإمارة والحسبة وغير ذلك للرجال ، وجعل الحمل ومشقته وحسن التبعل وحفظ غيب الزوج وخدمة البيوت اللنساء .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كقول الذي قبله ، إلا أنه فارقه بتقسيم الأعمال ، وفي تعليقه النصيب بالاكتساب حض على العمل ، وتنبيه على كسب الخير ، وقرأ جمهور السبعة «واسألوا » بالهمز وسكون السين ، وقرأ الكسائي وابن كثير «وسلوا » ألقيا حركة الهمزة على السين ، وهذا حيث وقعت اللفظة إلا في قوله { واسألوا ما أنفقتم }{[3990]} فإنهم أجمعوا على الهمز فيه ، قال سعيد بن جبير ، وليث بن أبي سليم : هذا في العبارات والدين وأعمال البر ليس في فضل الدنيا ، وقال الجمهور : ذلك على العموم ، وهو الذي يقتضيه اللفظ{[3991]} ، وقوله : { واسألوا } يقتضي مفعولاً ثانياً ، فهو عند بعض النحويين في قوله : { من فضله } التقدير واسألوا الله فضله ، وسيبويه لا يجيز هذا لأن فيه حذف «من » في الواجب ، والمفعول عنده مضمر ، تقديره واسألوا الله الجنة أو كثيراً أو حظاً من فضله .
قال القاضي أبو محمد : وهذا هو الأصح ، ويحسن عندي أن يقدر المفعول - أمانيكم ، إذ ما تقدم يحسن هذا التقدير ، وقوله : { بكل شيء عليماً } معناه : أن علم الله قد أوجب الإصابة والإتقان والإحكام ، فلا تعارضوا بتمن ولا غيره ، وهذه الآية تقتضي أن الله يعلم الأشياء ، والعقائد توجب أنه يعلم المعدومات الجائز وقوعها وإن لم تكن أشياء ، والآية لا تناقض ذلك ، بل وقفت على بعض معلوماته وأمسكت عن بعض .