70- واترك - أيها النبي - الذين اتخذوا شريعتهم اللهو واللعب ، وخدعتهم الحياة الدنيا عن الآخرة ، وذَكِّر دائماً بالقرآن ، وحذرهم هول يوم تحبس فيه كل نفس بعملها ، حيث لا ناصر ولا معين غير الله ، وإن كل فدية للنجاة من العذاب لا تقبل . أولئك الكافرون الذين حبسوا في العذاب بسبب ما عملوا من شر ، لهم في جهنم شراب من ماء شديد الحرارة ، وعذاب شديد الألم بسبب كفرهم .
{ 70 } { وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ }
المقصود من العباد ، أن يخلصوا لله الدين ، بأن يعبدوه وحده لا شريك له ، ويبذلوا مقدورهم في مرضاته ومحابه . وذلك متضمن لإقبال القلب على الله وتوجهه إليه ، وكون سعي العبد نافعا ، وجدًّا ، لا هزلا ، وإخلاصا لوجه الله ، لا رياء وسمعة ، هذا هو الدين الحقيقي ، الذي يقال له دين ، فأما من زعم أنه على الحق ، وأنه صاحب دين وتقوى ، وقد اتخذ دينَه لعبا ولهوا . بأن لَهَا قلبُه عن محبة الله ومعرفته ، وأقبل على كل ما يضره ، ولَهَا في باطله ، ولعب فيه ببدنه ، لأن العمل والسعي إذا كان لغير الله ، فهو لعب ، فهذا أَمَر الله تعالى أن يترك ويحذر ، ولا يغتر به ، وتنظر حاله ، ويحذر من أفعاله ، ولا يغتر بتعويقه عما يقرب إلى الله .
{ وَذَكِّرْ بِهِ } أي : ذكر بالقرآن ، ما ينفع العباد ، أمرا ، وتفصيلا ، وتحسينا له ، بذكر ما فيه من أوصاف الحسن ، وما يضر العباد نهيا عنه ، وتفصيلا لأنواعه ، وبيان ما فيه ، من الأوصاف القبيحة الشنيعة ، الداعية لتركه ، وكل هذا لئلا تبسل نفس بما كسبت ، أي : قبل اقتحام العبد للذنوب وتجرئه على علام الغيوب ، واستمرارها على ذلك المرهوب ، فذكرها ، وعظها ، لترتدع وتنزجر ، وتكف عن فعلها .
وقوله { لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ } أي : قبل [ أن ] تحيط بها ذنوبها ، ثم لا ينفعها أحد من الخلق ، لا قريب ولا صديق ، ولا يتولاها من دون الله أحد ، ولا يشفع لها شافع { وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ } أي : تفتدي بكل فداء ، ولو بملء الأرض ذهبا { لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا } أي : لا يقبل ولا يفيد .
{ أُولَئِكَ } الموصوفون بما ذكر { الَّذِينَ أُبْسِلُوا } أي : أهلكوا وأيسوا من الخير ، وذلك { بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ } أي : ماء حار قد انتهى حره ، يشوي وجوههم ، ويقطع أمعاءهم { وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ }
يقول تعالى : { وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } أي : دعهم وأعرض عنهم وأمهلهم قليلا فإنهم صائرون إلى عذاب عظيم ؛ ولهذا قال : { وَذَكِّرْ بِهِ } أي : وذكر الناس بهذا القرآن ، وحذرهم نقمة الله وعذابه الأليم يوم القيامة .
وقوله : { أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ } أي : لئلا تبسل . قال الضحاك عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعِكْرِمة ، والحسن ، والسُّدِّي : تبسل : تُسْلَم .
وقال الوالبي ، عن ابن عباس : تفتضح . وقال قتادة : تُحْبَس . وقال مُرَّة وابن زيد تُؤاخذ . وقال الكلبي : تُجَازَي{[10832]}
وكل هذه العبارات متقاربة في المعنى ، وحاصلها الإسلام للهلكة ، والحبس عن الخير ، والارتهان عن درك المطلوب ، كما قال : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ } [ المدثر : 38 ، 39 ] .
وقوله : { لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ } أي : لا قريب ولا أحد يشفع فيها ، كما قال : { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [ البقرة : 254 ] .
وقوله : { وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا } أي : ولو بذلت كلّ مبذول ما قبل منها كما قال : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا [ وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ]{[10833]} } [ آل عمران : 91 ] ، وهكذا قال هاهنا : { أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَذَرِ الّذِينَ اتّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَذَكّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلّ عَدْلٍ لاّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ أُوْلََئِكَ الّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } . .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ذر هؤلاء الذين اتخذوا دين الله وطاعتهم إياه لعبا ولهوا ، فجعلوا حظوظهم من طاعتهم إياه اللعب بآياته واللهو والاستهزاء بها إذا سمعوها وتليت عليهم ، فأعرض عنهم ، فإني لهم بالمرصاد ، وإني لهم من وراء الانتقام منهم والعقوبة لهم على ما يفعلون وعلى اغترارهم بزينة الحياة الدنيا ونسيانهم المدار إلى الله تعالى والمصير إليه بعد الممات . كالذي :
حدثني محمد بن عروة ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله الله : وَذَرِ الّذِينَ اتّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبا ولَهْوا قال : كقوله : ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وقد نسخ الله تعالى هذه الاَية بقوله : فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وكذلك قال عدد من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا حجاج بن المنهال ، قال : حدثنا همام بن يحيى ، عن قتادة : وَذَرِ الّذِينَ اتّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبا ولَهْوا ثم أنزل في سورة براءة ، فأمر بقتالهم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبدة بن سليمان ، قال : قرأت علي بن أبي عروبة ، فقال : هكذا سمعته من قتادة : وَذَرِ الّذِينَ اتّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبا ولَهْوا ثم أنزل الله تعالى ذكره براءة ، وأمر بقتالهم ، فقال : فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ .
وأما قوله : وَذَكّر بِهِ أنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ فإنه يعني به : وذكر يا محمد بهذا القرآن هؤلاء المولين عنك وعنه أن تُبْسَل نَفْسٌ بمعنى : أن لا تبسل ، كما قال : يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ أنْ تَضِلّوا بمعنى : أن لا تضلوا . وإنما معنى الكلام : وذكر به ليؤمنوا ويتبعوا ما جاءهم من عند الله من الحقّ ، فلا تُبْسَل أنفسهم بما كسبت من الأوزار ولكن حذفت «لا » لدلالة الكلام علها .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : أنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ فقال بعضهم : معنى ذلك : أن تُسْلَم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد النحويّ ، عن عكرمة ، قوله : أنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ قال : تسلم .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : أنْ لا تُبْسَلَ نَفْسٌ قال : أن تِسْلَم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن ، مثله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله الله تعالى ذكره : أنْ تُبْسَلَ قال : تسلم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ قال : تسلم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكلم ، عن عنبسة ، عن ليث ، عن مجاهد : أولَئِكَ الّذِينَ أُبْسِلُوا أسلموا .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : تحبس . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : أنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ قال : تؤخذ فتحبس .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ابن زيد ، في قوله : أنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ : أن تؤخذ نفس بما كسبت .
وقال آخرون : معناه : تفضح . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : وَذَكّرْ بِهِ أنْ تُبْسَلَ نَفْس بِمَا كَسَبَتْ يقول : تفضح .
وقال آخرون : معناه : أن تجزى . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين بن واقد ، قال : قال الكلبي : أنْ تُبْسَلَ : أن تجزى .
وأصل الإبسال : التحريم ، يقال منه : أبسلت المكان : إذا حرمته فلم تقر به ومنه قوله الشاعر :
بَكَرَتْ تَلُومُكَ بَعْدَ وَهْنٍ فِي النّدَى ***بَسْلٌ عَلَيْكَ مَلاَمَتِي وَعِتابي
أي حرام ومنه قولهم : وعتابي أسد آسد ، ويراد به : لا يقربه شيء ، فكأنه قد حرم نفسه . ثم يجعل ذلك صفة لكل شديد يُتحامى لشدّته ، ويقال : أعط الراقي بُسْلَتَهُ ، يراد بذلك : أجرته ، شراب بسيل : بمعنى متروك ، وكذلك المبسل بالجريرة ، وهو المرتهن بها ، قيل له مبسل لأنه محرّم من كلّ شيء إلا مما رهن فيه وأسلم به ومنه قول عوف بن الأحوص الكلابي :
وإبْسالي بَنِيّ بغَيْرِ جُرْمٍ ***بَعَوْناهُ وَلا بدَمٍ مُرَاقِ
هُنالِكَ لا أرْجُو حيَاةً تَسُرّنِي ***سَمِيرَ اللّيالي مُبْسَلاً بالجَرائِرِ
فتأويل الكلام إذن : وذكّر بالقرآن هؤلاء الذين يخوضون في آياتنا وغيرَهم ممن سلك سبيلهم من المشركين ، كيلا تبسل نفي بذنوبها وكفرها بربها ، وترتهن فتغلق بما كسبت من إجرامها في عذاب الله . لَيْسَ لهَا مِنْ دُونِ اللّهِ يقول : ليس لها حين تسلم بذنوبها فترتهن بما كسبت من آيامها أحد ينصرها فينقذها من الله الذي جازاها بذنوبها جزاءها ، ولا شفيع يشفع لها ، لوسيلة له عنده .
القول في تأويل قوله تعالى : وَإنْ تَعْدِلْ كُلّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها .
يقول تعالى ذكره : وَإنْ تَعْدِلْ النفس التي أبسلت بما كسبت ، يعني وإن تعدل كُلّ عَدْلٍيعني : كلّ فداء ، يقال منه : عَدَلَ يعدِلُ : إذا فدى ، عَدْلاً . ومنه قول الله تعالى ذكره : أوْ عَدْلُ ذلكَ صِياما وهو ما عادله من غير نوعه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : وَإنْ تَعْدِلْ كُلّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها قال : لو جاءت بملء الأرض ذهبا لم يُقبل منها .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ في قوله : وَإنْ تَعْدِلْ كُلّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها فما يَعْدِلها ، لو جاءت بملء الأرض ذهبا لتفتدى به ما قُبِل منها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَإنْ تَعْدِلْ كُلّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها قال : وأن تعدل : وإن تفتد يكون له الدنيا وما فيها يفتدي بها لا يؤخذْ منه عَدَلاً عن نفسه ، لا يقبل منه .
وقد تأوّل ذلك بعض أهل العلم بالعربية بمعنى : وإن تَقْسِط كلّ قِسْط لا يُقبل منها وقال إنها التوبة في الحياة . وليس لما قال من ذلك معنى ، وذلك أن كلّ تائب في الدنيا فإن الله تعالى يقبل توبته .
القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ الّذِينَ أُبْسَلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ ألِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ .
يقول تعالى ذكره : وهؤلاء الذين إن فدوا أنفسهم من عذاب الله يوم القيامة كلّ فداء لم يؤخذ منهم ، هم الّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا يقول : أسلموا لعذاب الله ، فرُهنوا به جزاء بما كسبوا في الدنيا من الاَثام والأوزار . لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ والحميم : هو الحارّ في كلام العرب ، وإنما هو محموم صُرف إلى فعيل ، ومنه قيل للحمّام : حمام ، لإسخانه الجسم ومنه قول مرقش :
في كُلّ مُمْسًى لَهَا مِقْطِرَةٌ ***فِيها كِباءٌ مُعَدّ وحَمِيمْ
يعني بذلك ماءً حارّا ومنه قول أبي ذويب الهُذلي في صفة فرس :
تَأْبَى بِدِرْتِها إذَا ما اسْتُغْضِبَتْ ***إلاّ الحَمِيمَ فإنّهُ يَتَبَضّعُ
يعني بالحميم : عرق الفرس . وإنما جعل تعالى ذكره لهؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الاَية شرابا من حميم ، لأن الحارّ من الماء لا يُروِي من عطش ، فأخبر أنهم إذا عطشوا في جهنم لم يغاثوا بماء يرويهم ، ولكن بما يزيدون به عطشا على ما بهم من العطش ، وعَذَابٌ ألِيمٌ يقول : ولهم أيضا مع الشراب الحميم من الله العذاب الأليم والهوان المقيم . بِمَا كانُوا يَكْفُرُونَ يقول : بما كان من كفرهم في الدنيا بالله وإنكارهم توحيده وعبادتهم معه آلهة دونه .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحميد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : أُولَئِكَ الّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا قال : يقال : أسلِموا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أُولَئِكَ الّذِينَ أُبْسِلُوا قال : فضحوا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : أُولَئِكَ الّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا قال : أخذوا بما كسبوا .
هذا أمر بالمتاركة{[4958]} وكان ذلك بحسب قلة أتباع الإسلام حينئذ ، قال قتادة : ثم نسخ ذلك وما جرى مجراه بالقتال ، وقال مجاهد : الآية إنما هي للتهديد والوعيد فهي كقوله تعالى : { ذرني ومن خلقت وحيد }{[4959]} وليس فيها نسخ لأنها متضمنة خبراً وهو التهديد ، وقوله { لعباً ولهواً } يريد إذ يعتقدون أن لا بعث فهم يتصرفون بشهواتهم تصرف اللاعب اللاهي ، { وغرتهم الحياة الدنيا } أي خدعتهم من الغرور وهو الإطماع بما لا يتحصل ، فاغتروا بنعم الله ورزقه وإمهاله وطمعهم ذلك فيما لا يتحصل من رحمته .
قال القاضي أبو محمد : ويتخرج في { غرتهم } هنا وجه آخر من الغَرور بفتح الغين{[4960]} أي ملأت أفواههم وأشبعتهم ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
ولما التَقَيْنَا بالحَنِيَّةِ غَرَّنِي . . . بِمَعْروفِهِ حتّى خَرَْجتُ أُفَوِّقُ{[4961]}
ومنه غر الطائر فرخه ، ولا يتجه هذا المعنى في تفسير «غر » وفي كل موضع وأضاف الدين إليهم على معنى أنهم جعلوا اللعب واللهو ديناً ، ويحتمل أن يكون المعنى اتخذوا دينهم الذي كان ينبغي لهم لعباً ولهواً ، والضمير في { به } عائد على الدين ، وقيل : على القرآن ، و { أن تبسل } في موضع المفعول أي لئلا تبسل أو كراهية أن تبسل ، ومعناه تسلم ، قال الحسن وعكرمة ، وقال قتادة : تحبس وترتهن ، وقال ابن عباس : تفضي ، وقال الكلبي وابن زيد : تجزى ، وهذه كلها متقاربة بالمعنى{[4962]} ، ومنه قول الشنفرة : [ الطويل ]
هنالك لا أَرْجُو حَيَاةً تَسُرُّنِي . . . سَمِيرَ اللَّيالي مُبْسَلاً بالجَرَائِرِ{[4963]}
وقال بعض الناس هو مأخوذ من البَسَل أي من الحرام كما قال الشاعر [ ضمرة النهشاني ] : [ الكامل ]
بَكَرَتْ تَلُومُكَ بِعْدَ وَهْنٍ في النَّدَى . . . بَسل عَلَيْك مَلامَتِي وعِتابي{[4964]}
قال القاضي أبو محمد : وهذا بعيد ، و { نفس } تدل على الجنس ، ومعنى الآية : وذكر بالقرآن والدين وادع إليه لئلا تبسل نفس التارك للإيمان بما كسبت من الكفر وآثرته من رفض الإسلام ، وقوله تعالى : { ليس لها من دون الله } في موضع الحال ، و { من } لابتداء الغاية ويجوز أن تكون زائدة و { دون } ظرف مكان وهي لفظة تقال باشتراك ، وهي في هذه الآية الدالة على زوال من أضيفت إليه من نازلة القول كما في المثل :
وأمر دون عبيدة الودم{[4965]} . .
والولي والشفيع هما طريقا الحماية والغوث في جميع الأمور { وإن تعدل كل عدل } أي وإن تعط كل فدية ، وإن عظمت فتجعلها عدلاً لها لا يقبل منها ، وحكى الطبري عن قائل : ان المعنى : وإن تعدل من العدل المضاد للجور ، ورد عليه وضعّفه بالإجماع على أن توبة الكافر مقبولة .
قال القاضي أبو محمد : ولا يلزم هذا الرد لأن الأمر إنما هو يوم القيامة ولا تقبل فيه توبة ولا عمل ، والقول نص لأبي عبيدة ، و «العدل » في اللغة مماثل الشيء من غير جنسه ، وقبل : العِدل بالكسر المثل والعَدل بالفتح القيمة ، و { أولئك } إشارة إلى الجنس المدلول عليه بقوله { تبسل نفس } ، و { ابسلوا } معناه أسلموا بما اجترحوه من الكفر ، و «الحميم » الماء الحار ، ومنه الحمام والحمة{[4966]} ومنه قول أبي ذؤيب : [ الكامل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** إلا الحَميمَ فإنَّه يَتَبَصَّعُ{[4967]}