36- ولكن إبليس الحاسد لآدم والحاقد عليه أخذ يحتال عليهما ويغريهما بالأكل من الشجرة حتى زلاّ فأكلا منها ، فأخرجهما الله مما كانا فيه من النعيم والتكريم ، وأمرهما الله تعالى بالنزول إلى الأرض ليعيشا هما وذريتهما فيها ، ويكون بعضهم لبعض عدواً بسبب المنافسة وإغواء الشيطان ، ولكم في الأرض مكان استقرار وتيسير للمعيشة ، وتمتع ينتهي بانتهاء الأجل .
فلم يزل عدوهما يوسوس لهما ويزين لهما تناول ما نهيا عنه ، حتى أزلهما ، أي : حملهما على الزلل بتزيينه . { وَقَاسَمَهُمَا } بالله { إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } فاغترا به وأطاعاه ، فأخرجهما مما كانا فيه من النعيم والرغد ، وأهبطوا إلى دار التعب والنصب والمجاهدة .
{ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } أي : آدم وذريته ، أعداء لإبليس وذريته ، ومن المعلوم أن العدو ، يجد ويجتهد في ضرر عدوه وإيصال الشر إليه بكل طريق ، وحرمانه الخير بكل طريق ، ففي ضمن هذا ، تحذير بني آدم من الشيطان كما قال تعالى { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا }
ثم ذكر منتهى الإهباط إلى الأرض ، فقال : { وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ } أي : مسكن وقرار ، { وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } انقضاء آجالكم ، ثم تنتقلون منها للدار التي خلقتم لها ، وخلقت لكم ، ففيها أن مدة هذه الحياة ، مؤقتة عارضة ، ليست مسكنا حقيقيا ، وإنما هي معبر يتزود منها لتلك الدار ، ولا تعمر للاستقرار .
وقوله تعالى : { فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا } يصح أن يكون الضمير في قوله : { عَنْهَا } عائدا إلى الجنة ، فيكون معنى الكلام كما قال{[1590]} [ حمزة و ]{[1591]} عاصم بن بَهْدلَة ، وهو ابن أبي النَّجُود ، فأزالهما ، أي : فنجَّاهما . ويصح أن يكون عائدا على أقرب المذكورين ، وهو الشجرة ، فيكون معنى الكلام كما قال الحسن وقتادةُ { فأزلهما } أي : من قبيل{[1592]} الزلل ، فعلى هذا يكون تقدير الكلام { فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا } أي : بسببها ، كما قال تعالى : { يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } [ الذاريات : 9 ] أي : يصرف بسببه من هو مأفوك ؛ ولهذا قال تعالى : { فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } أي : من اللباس والمنزل الرحب والرزق الهنيء والراحة .
{ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } أي : قرار وأرزاق وآجال { إِلَى حِينٍ } أي : إلى وقت مؤقت ومقدار معين ، ثم تقوم القيامة .
وقد ذكر المفسرون من السلف كالسُّدِّي بأسانيده ، وأبي العالية ، ووهب بن مُنَبِّه وغيرهم ، هاهنا أخبارا إسرائيلية عن قصة الحَيَّة ، وإبليس ، وكيف جرى من دخول إبليس إلى الجنة ووسوسته ، وسنبسط ذلك إن شاء الله ، في سورة الأعراف ، فهناك القصة أبسط منها هاهنا ، والله الموفق .
وقد قال ابن أبي حاتم هاهنا : حدثنا علي بن الحسن بن إشكاب ، حدثنا علي بن عاصم ، عن سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله خلق آدم رجلا طُوَالا كثير شعر الرأس ، كأنه نخلة سَحُوق ، فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه ، فأول ما بدا منه عورته ، فلما نظر إلى عورته جعل يَشْتَد{[1593]} في الجنة ، فأخذت شَعْرَه شجرةٌ ، فنازعها ، فناداه الرحمن : يا آدم ، مني تَفِرُّ ! فلما سمع كلام الرحمن قال : يا رب ، لا ولكن استحياء " {[1594]} .
قال : وحدثني جعفر بن أحمد بن الحكم القومشي{[1595]} سنة أربع وخمسين ومائتين ، حدثنا سليم{[1596]} بن منصور بن عمار ، حدثنا علي بن عاصم ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أبي بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما ذاق آدم من الشجرة فَرَّ هاربا ؛ فتعلقت شجرة بشعره ، فنودي : يا آدم ، أفِرارًا مني ؟ قال : بل حَيَاء منك ، قال : يا آدم اخرج من جواري ؛ فبعزتي لا يساكنني فيها من عصاني ، ولو خلقت مِثْلَك ملء الأرض خَلْقًا ثم عصوني لأسكنتهم دار العاصين " {[1597]} .
هذا حديث غريب ، وفيه انقطاع ، بل إعضال بين قتادة وأبي بن كعب ، رضي الله عنهما{[1598]} .
وقال الحاكم : حدثنا أبو بكر بن بَالُويه{[1599]} ، عن محمد بن أحمد بن النضر ، عن معاوية بن عمرو ، عن زائدة ، عن عَمَّار بن معاوية البَجَلي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : ما أسكن آدم الجنة إلا ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس . ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه .
وقال عبد بن حميد في تفسيره : حدثنا رَوح ، عن هشام ، عن الحسن ، قال : لبث آدم في الجنة ساعة من نهار ، تلك الساعة ثلاثون ومائة سنة من أيام الدنيا .
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، قال : خرج آدم من الجنة للساعة التاسعة أو العاشرة ، فأخرج آدم معه غصنًا من شجر الجنة ، على رأسه تاج من شجر الجنة وهو الإكليل من ورق الجنة .
وقال السدي : قال الله تعالى : { اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا } فهبطوا فنزل آدم بالهند ، ونزل معه الحجر الأسود ، وقبضة{[1600]} من ورق الجنة فبثه بالهند ، فنبتت شجرة الطيب ، فإنما أصل ما يجاء به من الهند من الطيب من قبضة الورق التي هبط بها آدم ، وإنما قبضها آدم أسفا على الجنة حين أخرج منها{[1601]} .
وقال عمران بن عيينة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : أهبط آدم من الجنة بِدَحْنا ، أرض الهند .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن سعيد عن ابن عباس قال : أهبط آدم ، عليه السلام ، إلى أرض يقال لها : دَحْنا ، بين مكة والطائف .
وعن الحسن البصري قال : أهبط آدم بالهند ، وحواء بجدة ، وإبليس بدَسْتُمِيسان{[1602]} من البصرة على أميال ، وأهبطت الحية بأصبهان . رواه ابن أبي حاتم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار بن الحارث ، حدثنا محمد بن سعيد بن سابق ، حدثنا عمرو بن أبي قيس ، عن ابن عدي{[1603]} ، عن ابن عمر ، قال : أهبط آدم بالصفا ، وحواء بالمروة
وقال رجاء بن سلمة : أهبط آدم ، عليه السلام ، يداه على ركبتيه مطأطئًا رأسه ، وأهبط إبليس مشبكا بين صابعه رافعا رأسه إلى السماء .
وقال عبد الرزاق : قال مَعْمَر : أخبرني عَوْف عن قَسَامة بن زهير ، عن أبي موسى ، قال : إن الله حين أهبط آدم من الجنة إلى الأرض ، عَلَّمه صنعة كل شيء ، وزوده من ثمار الجنة ، فثماركم هذه من ثمار الجنة ، غير أن هذه تتغير وتلك لا تتغير{[1604]} .
وقال الزهري عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ، فيه خلق آدم ، وفيه أدخل الجنة ، وفيه أخرج منها » رواه مسلم والنسائي{[1605]} .
وقال فخر الدين : اعلم أن في هذه الآيات تهديدًا عظيما عن كل المعاصي من وجوه : الأول : أن من تصور ما جرى على آدم بسبب إقدامه على هذه الزلة الصغيرة كان على وجل شديد من المعاصي ، قال الشاعر :
يا ناظرا يرنو بعيني راقد *** ومشاهدا للأمر غير مشاهد
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي *** درج الجنان ونيل فوز العابد .
أنسيت ربك حين أخرج آدما *** منها إلى الدنيا بذنب واحد
قال فخر الدين عن فتح الموصلي أنه قال : كنا قوما من أهل الجنة فسبانا إبليس إلى الدنيا ، فليس لنا إلا الهم والحزن حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا منها . فإن قيل : فإذا كانت جنة آدم التي أسكنها في السماء كما يقوله الجمهور من العلماء ، فكيف يمكن إبليس من دخول الجنة ، وقد طرد من هنالك طردًا قدريًّا ، والقدري لا يخالف ولا يمانع ؟ فالجواب : أن هذا بعينه استدل به من يقول : إن الجنة التي كان فيها آدم في الأرض لا في السماء ، وقد بسطنا هذا في أول كتابنا البداية والنهاية ، وأجاب الجمهور بأجوبة ، أحدها : أنه منع من دخول الجنة مكرما ، فأما على وجه الردع والإهانة ، فلا يمتنع ؛ ولهذا قال بعضهم : كما جاء في التوراة أنه دخل في فم الحية إلى الجنة ، وقد قال بعضهم : يحتمل أنه وسوس لهما وهو خارج باب الجنة ، وقال بعضهم : يحتمل أنه وسوس لهما وهو في الأرض ، وهما في السماء ، ذكرها الزمخشري وغيره . وقد أورد القرطبي هاهنا أحاديث في الحيات وقتلهن وبيان حكم ذلك ، فأجاد وأفاد{[1606]} .
{ فَأَزَلّهُمَا الشّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرّ وَمَتَاعٌ إِلَىَ حِينٍ }
قال أبو جعفر : اختلف القرّاء في قراءة ذلك فقرأته عامتهم : فأزلّهما بتشديد اللام ، بمعنى استزلهما من قولك : زلّ الرجل في دينه : إذا هفا فيه وأخطأ فأتى ما ليس له إتيانه فيه ، وأزلّه غيره : إذا سبب له ما يزلّ من آجله في دينه أو دنياه . ولذلك أضاف الله تعالى ذكره إلى إبليس خروج آدم وزوجته من الجنة فقال : فأخْرَجَهُما يعني إبليس مِمّا كانا فِيهِ لأنه كان الذي سبب لهما الخطيئة التي عاقبهما الله عليها بإخراجهما من الجنة .
وقرأه آخرون : «فأزالهما » ، بمعنى إزالة الشيء عن الشيء ، وذلك تنحيته عنه .
وقد رُوي عن ابن عباس في تأويل قوله فأزَلّهما ما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : قال : قال ابن عباس في تأويل قوله تعالى : فأزَلّهُما الشّيطان قال : أغواهما .
وأولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ : فأزَلّهُما لأن الله جل ثناؤه قد أخبر في الحرف الذي يتلوه بأن إبليس أخرجهما مما كانا فيه ، وذلك هو معنى قوله فأزالهما ، فلا وجه إذ كان معنى الإزالة معنى التنحية والإخراج أن يقال : «فأزالهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه » ، فيكون كقوله : «فأزالهما الشيطان عنها فأزالهما مما كانا فيه » ، ولكن المعنى المفهوم أن يقال : فاستزلهما إبليس عن طاعة الله ، كما قال جل ثناؤه : فأزلّهُما الشّيْطانُ وقرأت به القراء ، فأخرجهما باستزلاله إياهما من الجنة .
فإن قال لنا قائل : وكيف كان استزلال إبليس آدم وزوجته حتى أضيف إليه إخراجهما من الجنة ؟ قيل : قد قالت العلماء في ذلك أقوالاً سنذكر بعضها . فحكي عن وهب بن منبه في ذلك ما :
حدثنا به الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا عمر بن عبد الرحمن بن مُهرب ، قال : سمعت وهب بن منبه يقول : لما أسكن الله آدم وذرّيته ، أو زوجته ، الشك من أبي جعفر ، وهو في أصل كتابه : وذرّيته ونهاه عن الشجرة ، وكانت شجرة غصونها متشعب بعضها في بعض ، وكان لها ثمر تأكله الملائكة لخلدهم ، وهي الثمرة التي نهى الله آدم عنها وزوجته . فلما أراد إبليس أن يستزلهما دخل في جوف الحية ، وكانت للحية أربع قوائم كأنها بُخْتية من أحسن دابة خلقها الله . فلما دخلت الحية الجنة ، خرج من جوفها إبليس ، فأخذ من الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته ، فجاء بها إلى حوّاء ، فقال : انظري إلى هذه الشجرة ، ما أطيب ريحها ، وأطيب طعمها ، وأحسن لونها فأخذت حوّاء فأكلت منها ، ثم ذهبت بها إلى آدم ، فقالت : انظر إلى هذه الشجرة ، ما أطيب ريحها ، وأطيب طعمها ، وأحسن لونها فأكل منها آدم ، فبدت لهما سوآتهما ، فدخل آدم في جوف الشجرة ، فناداه ربه : يا آدم أين أنت ؟ قال : أنا هنا يا رب ، قال : ألا تخرج : قال : أستحيي منك يا ربّ ، قال : ملعونة الأرض التي خلقت منها لعنة يتحوّل ثمرها شوكا . قال : ولم يكن في الجنة ولا في الأرض شجرة كان أفضل من الطلح والسدر ثم قال : يا حوّاء أنت التي غررت عبدي ، فإنك لا تحملين حملاً إلا حملته كرها ، فإذا أردت أن تضعي ما في بطنك أشرفت على الموت مرارا . وقال للحية : أنت التي دخل الملعون في جوفك حتى غرّ عبدي ، ملعونة أنت لعنة تتحوّل قوائمك في بطنك ، ولا يكن لك رزق إلا التراب ، أنت عدوة بني آدم وهم أعداؤك حيث لقيت أحدا منهم أخذت بعقبه ، وحيث لقيك شدخ رأسك .
قال عمر : قيل لوهب : وما كانت الملائكة تأكل ؟ قال : يفعل الله ما يشاء .
ورُوي عن ابن عباس نحو هذه القصة .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح عن ابن عباس ، وعن مرة عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : لما قال الله لاَدم : اسْكُنْ أنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنّةَ وكُلا مِنْهَا رَغَدا حَيْثُ شئْتُما وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظّالِمِينَ أراد إبليس أن يدخل عليهما الجنة فمنعته الخزنة ، فأتى الحية وهي دابة لها أربع قوائم كأنها البعير ، وهي كأحسن الدوابّ ، فكلمها أن تدخله في فمها حتى تدخل به إلى آدم ، فأدخلته في فمها ، فمرّت الحية على الخزنة فدخلت ولا يعلمون لما أراد الله من الأمر ، فكلمه من فمها فلم يبال بكلامه ، فخرج إليه فقال : يا آدم هَلْ أَدُلّكَ على شَجَرَةِ الخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى يقول : هل أدلك على شجرة إن أكلت منها كنت ملكا مثل الله عزّ وجل ، أو تكونا من الخالدين فلا تموتان أبدا . وحلف لهما بالله إني لَكُمَا لَمِنَ النّاصِحِينَ . وإنما أراد بذلك ليبدي لهما ما توارى عنهما من سوآتهما بهتك لباسهما . وكان قد علم أن لهما سوأة لما كان يقرأ من كتب الملائكة ، ولم يكن آدم يعلم ذلك ، وكان لباسهما الظفر . فأبى آدم أن يأكل منها ، فتقدمت حوّاء فأكلت ، ثم قالت : يا آدم كل فإني قد أكلت فلم يضرّني . فلما أكل آدم بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهما وَطَفِقَا يَخْصِفانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الجَنّةِ .
وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : حدثني محدّث أن الشيطان دخل الجنة في صورة دابة ذات قوائم ، فكان يرى أنه البعير . قال : فلعن فسقطت قوائمه ، فصار حية .
وحدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : وحدثني أبو العالية أن من الإبل ما كان أولها من الجنّ ، قال : فأبيحت له الجنة كلها إلا الشجرة ، وقيل لهما : لا تَقْرَبا هذهِ الشّجرَةَ فتكُونا منَ الظالمينَ قال : فأتى الشيطان حوّاء فبدأ بها فقال : أنهيتما عن شيء ؟ قالت : نعم ، عن هذه الشجرة . فقال : ما نَهاكُما رَبّكُما عَنْ هَذِهِ الشّجَرَةِ إلاّ أنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أوْ تَكُونا مِنَ الخالِدِينَ . قال : فبدأت حوّاء فأكلت منها ، ثم أمرت آدم فأكل منها . قال : وكانت شجرة من أكل منها أحدث . قال : ولا ينبغي أن يكون في الجنة حدث . قال : فأزَلّهُما الشّيْطَانُ عَنْها فأخْرجَهُما مِمّا كانَا فِيهِ قال : فاخرج آدم من الجنة .
وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم : أن آدم حين دخل الجنة ورأى ما فيها من الكرامة وما أعطاه الله منها ، قال : لو أن خُلْدا كان فاغتنمها منه الشيطان لما سمعها منه ، فأتاه من قِبَل الخُلْد .
وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : حدثت أن أوّل ما ابتدأهما به من كيده إياهما أنه ناح عليهما نياحة أحزنتهما حين سمعاها ، فقالا له : ما يبكيك ؟ قال : أبكي عليكما تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة والكرامة . فوقع ذلك في أنفسهما . ثم أتاهما فوسوس إليهما ، فقال : يا آدمَ هَلْ أدُلّكَ عَلى شَجَرَةِ الخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى وقال : مَا نَهاكُما رَبّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشّجَرَةِ إلاّ أنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أوْ تَكُونَا مِنَ الخالِدِينَ وقاسَمَهُما إنّي لَكُما لمِنَ النّاصِحِينَ أي تكونا ملكين أو تخلدا إن لم تكونا ملكين في نعمة الجنة فلا تموتان ، يقول الله جل ثناؤه : فَدَلاّهُما بِغُرُورٍ .
وحدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وسوس الشيطان إلى حوّاء في الشجرة حتى أتى بها إليها ، ثم حسّنها في عين آدم . قال : فدعاها آدم لحاجته ، قالت : لا ، إلا أن تأتي ههنا . فلما أتى قالت : لا ، إلا أن تأكل من هذه الشجرة ، قال : فأكلا منها فبدت لما سوآتهما . قال : وذهب آدم هاربا في الجنة ، فناداه ربه : يا آدم أمني تفرّ ؟ قال : لا يا ربّ ، ولكن حياءً منك . قال : يا آدم أنّى أُتيت ؟ قال : من قبل حوّاء أي ربّ . فقال الله : فإن لها عليّ أن أدميها في كل شهر مرة كما أدميت هذه الشجرة ، وأن أجعلها سفيهة ، فقد كنت خلقتها حليمة ، وأن أجعلها تحمل كرها وتضع كرها ، فقد كنت جعلتها تحمل يسرا وتضع يسرا .
قال ابن زيد : ولولا البلية التي أصابت حوّاء لكان نساء الدنيا لا يحضن ، ولكنّ حليمات ، وكنّ يحملن يُسْرا ويضعن يُسْرا .
وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن سعيد بن المسيب ، قال : سمعته يحلف بالله ما يستثني ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل ، ولكن حوّاء سقته الخمر حتى إذا سكر قادته إليها فأكل .
وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن ليث بن أبي سليم ، عن طاوس اليماني ، عن ابن عباس ، قال : إن عدوّ الله إبليس عرض نفسه على دوابّ الأرض أنها تحمله حتى يدخل الجنة معها ، ويكلم آدم وزوجته ، فكل الدوابّ أبى ذلك عليه ، حتى كلم الحية فقال لها : أمنعك من ابن آدم ، فأنت في ذمتي إن أنت أدخلتني الجنة فجعلته بين نابين من أنيابها ، ثم دخلت به . فكلمهما من فيها ، وكانت كاسية تمشي على أربع قوائم ، فأعراها الله ، وجعلها تمشي على بطنها . قال : يقول ابن عباس : اقتلوها حيث وجدتموها ، اخفروا ذمة عدوّ الله فيها .
وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : قال ابن إسحاق : وأهل التوراة يدرسون : إنما كلّم آدم الحية ، ولم يفسروا كتفسير ابن عباس .
وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن قيس ، قال : نهى الله آدم وحوّاء أن يأكلا من شجرة واحدة في الجنة ويأكلا منها رغدا حيث شاآ . فجاء الشيطان فدخل في جوف الحية ، فكلم حواء ، ووسوس الشيطان إلى آدم ، فقال : ما نَهاكُما رَبكُما عَنْ هَذِهِ الشّجَرَةِ إلا أنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أوْ تَكُونا مِنَ الخالِدِينَ وَقَاسَمَهُما إنّي لَكُما لمِنَ النّاصِحِينَ قال : فعضت حواء الشجرة ، فدميت الشجرة وسقط عنهما رياشهما الذي كان عليهما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما منْ وَرَقِ الجَنةِ وَنادَاهُما رَبهُما ألَمْ أنْهَكُما عَنْ تلْكُما الشجَرَةِ وأقُلْ لَكُما إنّ الشّيْطانَ لَكُما عَدوّ مُبينٌ لم أكلتها وقد نهيتك عنها ؟ قال : يا ربّ أطعمتني حوّاء . قال لحوّاء : لم أطعمته ؟ قالت : أمرتني الحية . قال للحية : لم أمرتها ؟ قالت : أمرني إبليس . قال : ملعون مدحور أما أنت يا حوّاء فكما أدميت الشجرة فتَدْمين في كل هلال . وأما أنت يا حية فأقطع قوائمك فتمشين جريا على وجهك ، وسيشدخ رأسك من لقيك بالحجر اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ .
قال أبو جعفر : وقد رويت هذه الأخبار عمن رويناها عنه من الصحابة والتابعين وغيرهم في صفة استزلال إبليس عدوّ الله آدم وزوجته حتى أخرجهما من الجنة .
وأولى ذلك بالحقّ عندنا ، ما كان لكتاب الله موافقا ، وقد أخبر الله تعالى ذكره عن إبليس أنه وسوس لاَدم وزوجته ليبدي لهما ما وورى عنهما من سوآتهما ، وأنه قال لهما : ما نَهاكُما رَبّكُما عَنْ هَذِهِ الشجَرَةِ إلاّ أنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أوْ تَكُونَا مِنَ الخالِدِينَ وأنه قاسمهما إني لكما لمن الناصحين مدلّيا لهما بغرور . ففي إخباره جل ثناؤه عن عدوّ الله أنه قاسم آدم وزوجته بقيله لهما : إنّي لَكُما لمِنَ الناصِحِينَ الدليل الواضح على أنه قد باشر خطابهما بنفسه ، إما ظاهرا لأعينهما ، وإما مستجنّا في غيره . وذلك أنه غير معقول في كلام العرب أن يقال : قاسم فلان فلانا في كذا وكذا ، إذا سبب له سببا وصل به إليه دون أن يحلف له . والحلف لا يكون بتسبب السبب ، فكذلك قوله : فوسوس إليه الشيطان ، لو كان ذلك كان منه إلى آدم على نحو الذي منه إلى ذريته من تزيين أكل ما نهى الله آدم عن أكله من الشجرة بغير مباشرة خطابه إياه بما استزله به من القول والحيل ، لما قال جل ثناؤه : وَقَاسَمَهُمَا إنّي لَكُمَا لَمِنَ النّاصِحِينَ كما غير جائز أن يقول اليوم قائل ممن أتى معصية : قاسمني إبليس أنه لي ناصح فيما زين لي من المعصية التي أتيتها ، فكذلك الذي كان من آدم وزوجته لو كان على النحو الذي يكون فيما بين إبليس اليوم وذرية آدم لمّا قال جل ثناؤه : وَقَاسَمَهُما إنّي لَكُما لَمِنَ الناصِحِينَ ولكن ذلك كان إن شاء الله على نحو ما قال ابن عباس ومن قال بقوله .
فأما سبب وصوله إلى الجنة حتى كلم آدم بعد أن أخرجه الله منها وطرده عنها ، فليس فيما رُوي عن ابن عباس ووهب بن منبه في ذلك معنى يجوز لذي فهم مدافعته ، إذ كان ذلك قولاً لا يدفعه عقلٌ ولا خبرٌ يلزم تصديقه من حجة بخلافه ، وهو من الأمور الممكنة . والقول في ذلك أنه قد وصل إلى خطابهما على ما أخبرنا الله جل ثناؤه ، وممكن أن يكون وصل إلى ذلك بنحو الذي قاله المتأوّلون بل ذلك إن شاء الله كذلك لتتابع أقوال أهل التأويل على تصحيح ذلك ، وإن كان ابن إسحاق قد قال في ذلك ما :
حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : قال ابن إسحاق في ذلك ، والله أعلم ، كما قال ابن عباس وأهل التوراة : أنه خلص إلى آدم وزوجته بسلطانه الذي جعل الله له ليبتلي به آدم وذريته ، وأنه يأتي ابن آدم في نومته وفي يقظته ، وفي كل حال من أحواله ، حتى يخلص إلى ما أراد منه حتى يدعوه إلى المعصية ، ويوقع في نفسه الشهوة وهو لا يراه ، وقد قال الله : فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيْطانُ فأخْرَجُهُما مِما كانا فِيهِ . وقال : يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنّكُم الشّيْطانُ كَما أخْرَجَ أبَوَيْكُمْ مِنَ الجَنّةِ يَنْزِع عَنْهُما لِباسَهُما لِيُريَهُما سوآتِهِما إنه يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُه مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إنا جَعَلْنَا الشياطينَ أوْلِياءَ للذينَ لا يُؤْمِنْونَ وقد قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام : قُلْ أعُوذُ بِرَبّ النّاسِ مَلِكِ النّاسِ إلى آخر السورة . ثم ذكر الأخبار التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إنّ الشّيْطَانَ يَجْرِي مِن ابْنِ آدَمَ مجرَى الدّمِ » قال ابن إسحاق : وإنما أمر ابن آدم فيما بينه وبين عدوّ الله ، كأمره فيما بينه وبين آدم ، فقال الله : اهْبِطْ مِنْها فَمَا يَكُونُ لَكَ أنْ تَتَكَبّرَ فِيها فاخْرُجْ إنّكَ مِنَ الصّاغِرِينَ . ثم خلص إلى آدم وزوجته حتى كلمهما ، كما قصّ الله علينا من خبرهما ، قال : فَوَسْوَسَ إلَيْهِ الشّيْطَانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أدُلّكَ على شَجَرَةِ الخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى فخلص إليهما بما خلص إلى ذريته من حيث لا يريانه ، والله أعلم أيّ ذلك كان فتابا إلى ربهما .
قال أبو جعفر : وليس في يقين ابن إسحاق لو كان قد أيقن في نفسه أن إبليس لم يخلص إلى آدم وزوجته بالمخاطبة بما أخبر الله عنه أنه قال لهما وخاطبهما به ما يجوز لذي فهم الاعتراض به على ما ورد من القول مستفيضا من أهل العلم مع دلالة الكتاب على صحة ما استفاض من ذلك بينهم ، فكيف بشكه ؟ والله نسأل التوفيق .
القول في تأويل قوله تعالى : فأخْرَجَهُما مِمّا كانا فِيه .
قال أبو جعفر : وأما تأويل قوله : فأخْرَجَهُما فإنه يعني : فأخرج الشيطان آدم وزوجته مما كانا ، يعني مما كان فيه آدم وزوجته من رغد العيش في الجنة ، وسعة نعيمها الذي كانا فيه . وقد بينا أن الله جل ثناؤه إنما أضاف إخراجهما من الجنة إلى الشيطان ، وإن كان الله هو المخرج لهما لأن خروجهما منها كان عن سبب من الشيطان ، وأضيف ذلك إليه لتسبيبه إياه كما يقول القائل لرجل وصل إليه منه أذى حتى تحوّل من أجله عن موضع كان يسكنه : ما حوّلني من موضعي الذي كنت فيه إلا أنت ، ولم يكن منه له تحويل ، ولكنه لما كان تحوّله عن سبب منه جاز له إضافة تحويله إليه .
القول في تأويل قوله تعالى : وقُلْنا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ .
قال أبو جعفر : يقال : هبط فلان أرض كذا ووادي كذا : إذا حلّ ذلك كما قال الشاعر :
ما زِلْتُ أرْمُقُهُمْ حَتّى إذَا هَبَطَت *** ْأيْدِي الرّكابِ بِهِمْ مِنْ رَاكسٍ فَلَقا
وقد أبان هذا القول من الله جل ثناؤه عن صحة ما قلنا من أن المخرج آدم من الجنة هو الله جلّ ثناؤه ، وأن إضافة الله إلى إبليس ما أضاف إليه من إخراجهما كان على ما وصفنا . ودل بذلك أيضا على أن هبوط آدم وزوجته وعدوّهما إبليس كان في وقت واحد . بجَمْعِ الله إياهم في الخبر عن إهباطهم ، بعد الذي كان من خطيئة آدم وزوجته ، وتسبب إبليس ذلك لهما ، على ما وصفه ربنا جل ذكره عنهم .
وقد اختلف أهل التأويل في المعنى بقوله : اهْبِطُوا مع إجماعهم على أن آدم وزوجته ممن عُني به .
فحدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن أبي عوانة ، عن إسماعيل بن سالم ، عن أبي صالح : اهْبِطُوا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ قال : آدم ، وحوّاء ، وإبليس ، والحية .
حدثنا ابن وكيع وموسى بن هارون ، قالا : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : اهْبِطُوا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ عَدوّ قال : فلعن الحية وقطع قوائمها وتركها تمشي على بطنها وجعل رزقها من التراب ، وأهبط إلى الأرض آدم وحوّاء وإبليس والحية .
وحدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : اهْبِطُوا بَعْضكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ قال : آدم ، وإبليس ، والحية .
وحدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : اهْبِطُوا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ آدم ، وإبليس ، والحية ، ذرية بعضهم أعداء لبعض .
وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ قال : آدم وذريته ، وإبليس وذريته .
وحدثنا المثنى ، قال : حدثنا آدم بن أبي إياس ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : بَعُضكُمْ لبَعْضٍ عَدُوّ قال : يعني إبليس ، وآدم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عمن حدثه عن ابن عباس في قوله : اهْبِطُوا بَعْضكُمْ لِبَعْضٍ عَدوّ قال : بعضهم عدوّ آدم ، وحوّاء ، وإبليس ، والحية .
وحدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : حدثني عبد الرحمن بن مهديّ ، عن إسرائيل ، عن إسماعيل السدي ، قال : حدثني من سمع ابن عباس يقول : اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ قال : آدم ، وحوّاء ، وإبليس ، والحية .
وحدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : اهْبِطُوا بَعْضكُمْ لِبَعْضٍ عَدوّ قال : لهما ولذرّيتهما .
قال أبو جعفر : فإن قال قائل : وما كانت عداوة ما بين آدم وزوجته ، وإبليس ، والحية ؟ قيل : أما عداوة إبليس آدم وذرّيته ، فحسده إياه ، واستكباره عن طاعة الله في السجود له حين قال لربه : أنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ . وأما عداوة آدم وذرّيته إبليس ، فعداوة المؤمنين إياه لكفره بالله وعصيانه لربه في تكبره عليه ومخالفته أمره وذلك من آدم ومؤمني ذرّيته إيمان بالله . وأما عداوة إبليس آدم ، فكفر بالله . وأما عداوة ما بين آدم وذرّيته ، والحية ، فقد ذكرنا ما رُوي في ذلك عن ابن عباس ووهب بن منبه ، وذلك هي العداوة التي بيننا وبينها ، كما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «ما سالَمْنَاهُن مُنْذُ حارَبْناهُن فَمَنْ تَرَكَهُنّ خَشْيَةَ ثَأْرِهِن فَلَيْسَ مِنّا » .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثني حجاج بن رشد ، قال : حدثنا حيوة بن شريح ، عن ابن عجلان ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «ما سالَمْناهُنّ مُنْدُ حارَبْناهُنّ ، فَمَنْ تَرَكَ شَيْئا مِنْهُنّ خِيفَةً فَلَيْسَ مِنّا » .
قال أبو جعفر : وأحسب أن الحرب التي بيننا كان أصله ما ذكره علماؤنا الذين قدمنا الرواية عنهم في إدخالها إبليس الجنة بعد أن أخرجه الله منها حتى استزله عن طاعة ربه في أكله ما نهى عن أكله من الشجرة .
وحدثنا أبو كريب ، قال حدثنا معاوية بن هشام ، وحدثني محمد بن خلف العسقلاني ، قال : حدثني آدم جميعا ، عن شيبان ، عن جابر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الحيات ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «خُلِقَتْ هِيَ وَالإنْسانُ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَدُوّ لِصَاحِبِهِ ، إنْ رآها أفْزَعَتْه ، وَإنْ لَذَغَتْه أوْجَعَتْه ، فاقْتُلْها حَيْثُ وَجَدْتَها » .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلَكم في الأرْضِ مُسْتَقَرّ .
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك . فقال بعضهم بما :
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا آدم العسقلاني ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : وَلَكُمْ في الأرْضِ مُسْتَقَرّ قال : هو قوله : الّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأرْضَ فِرَاشا .
وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرّ قال : هو قوله : جَعَلَ لَكُم الأرْضَ قَرَارا .
وقال آخرون : معنى ذلك : ولكم في الأرض قرار في القبور . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرّ يعني القبور .
وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثني عبد الرحمن بن مهدي ، عن إسرائيل ، عن إسماعيل السدي ، قال : حدثني من سمع ابن عباس قال : وَلَكُمْ في الأرْضِ مُسْتَقَرّ قال : القبور .
وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرّ قال : مقامهم فيها .
قال أبو جعفر : والمستقرّ في كلام العرب هو موضع الاستقرار . فإذا كان ذلك كذلك ، فحيث كان من في الأرض موجودا حالاّ ، فذلك المكان من الأرض مستقرّه .
إنما عنى الله جل ثناؤه بذلك : أن لهم في الأرض مستقرّا ومنزلاً بأماكنهم ومستقرّهم من الجنة والسماء ، وكذلك قوله ( وَمَتَاعٌ ) يعني به أن لهم فيها متاعا بمتاعهم في الجنة .
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ .
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك فقال بعضهم : ولكم فيها بلاغ إلى الموت . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في قوله : وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ قال يقول : بلاغ إلى الموت .
وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن إسرائيل ، عن إسماعيل السدي ، قال : حدثني من سمع ابن عباس : وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ قال : الحياة .
وقال آخرون : يعني بقوله : وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ : إلى قيام الساعة . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ قال : إلى يوم القيامة إلى انقطاع الدنيا .
وقال آخرون إلى حين ، قال : إلى أجل . ذكر من قال ذلك :
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ قال : إلى أجل .
والمتاع في كلام العرب : كل ما استمتع به من شيء من معاش استمتع به أو رياش أو زينة أو لذّة أو غير ذلك . فإذا كان ذلك كذلك ، وكان الله جل ثناؤه قد جعل حياة كل حيّ متاعا له يستمتع بها أيام حياته ، وجعل الأرض للإنسان متاعا أيام حياته بقراره عليها ، واغتذائه بما أخرج الله منها من الأقوات والثمار ، والتذاذه بما خلق فيها من الملاذ وجعلها من بعد وفاته لجثته كِفاتا ، ولجسمه منزلاً وقرارا ، وكان اسم المتاع يشمل جميع ذلك كان أولى التأويلات بالآية . إذْ لم يكن الله جل ثناؤه وضع دلالة دالّة على أنه قصد بقوله : وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ بعضا دون بعض ، وخاصّا دون عام في عقل ولا خبر أن يكون ذلك في معنى العام ، وأن يكون الخبر أيضا كذلك إلى وقت يطول استمتاع بني آدم وبني إبليس بها ، وذلك إلى أن تبدّل الأرض غير الأرض . فإذْ كان ذلك أولى التأويلات بالآية لما وصفنا ، فالواجب إذا أن يكون تأويل الآية : ولكن في الأرض منازل ومساكن ، تستقرّون فيها استقراركم كان في السموات ، وفي الجنات في منازلكم منها ، واستمتاع منكم بها وبما أخرجت لكم منها ، وبما جعلت لكم فيها من المعاش والرياش والزّيْن والملاذ ، وبما أعطيتكم على ظهرها أيام حياتكم ومن بعد وفاتكم لأرماسكم وأجداثكم ، تُدفنون فيها وتبلغون باستمتاعكم بها إلى أن أبدّلكم بها غيرها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فأزلهما الشيطان عنها}، يقول سبحانه: فاستزلهما الشيطان عنها، يعني عن الطاعة، وهو إبليس.
{فأخرجهما مما كانا فيه} من الخير في الجنة.
{وقلنا اهبطوا} منها، يعني آدم وحواء وإبليس بوحي منه.
{بعضكم لبعض عدو} فإبليس لهما عدو، وهما لإبليس عدو.
{ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} يعني بلاغا إلى منتهى آجالكم الموت.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"فأزلّهما"، بمعنى استزلهما من قولك: زلّ الرجل في دينه: إذا هفا فيه وأخطأ، فأتى ما ليس له إتيانه فيه، وأزلّه غيره: إذا سبب له ما يزلّ من آجله في دينه أو دنياه. ولذلك أضاف الله تعالى ذكره إلى إبليس خروج آدم وزوجته من الجنة فقال: "فأخْرَجَهُما "يعني إبليس "مِمّا كانا فِيهِ "لأنه كان الذي سبب لهما الخطيئة التي عاقبهما الله عليها بإخراجهما من الجنة...
قال ابن عباس في تأويل قوله تعالى: "فأزَلّهُما الشّيطان" قال: أغواهما...
فإن قال لنا قائل: وكيف كان استزلال إبليس آدم وزوجته حتى أضيف إليه إخراجهما من الجنة؟ قيل: قد قالت العلماء في ذلك أقوالاً... وقد رويت هذه الأخبار عمن رويناها عنه من الصحابة والتابعين وغيرهم في صفة استزلال إبليس عدوّ الله آدم وزوجته حتى أخرجهما من الجنة.
وأولى ذلك بالحقّ عندنا، ما كان لكتاب الله موافقا، وقد أخبر الله تعالى ذكره عن إبليس أنه وسوس لآدم وزوجته ليبدي لهما ما وورى عنهما من سوآتهما، وأنه قال لهما: "ما نَهاكُما رَبّكُما عَنْ هَذِهِ الشجَرَةِ إلاّ أنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أوْ تَكُونَا مِنَ الخالِدِينَ" وأنه قاسمهما إني لكما لمن الناصحين مدلّيا لهما بغرور. ففي إخباره جل ثناؤه عن عدوّ الله أنه قاسم آدم وزوجته بقيله لهما: إنّي لَكُما لمِنَ الناصِحِينَ الدليل الواضح على أنه قد باشر خطابهما بنفسه، إما ظاهرا لأعينهما، وإما مستجنّا في غيره. وذلك أنه غير معقول في كلام العرب أن يقال: قاسم فلان فلانا في كذا وكذا، إذا سبب له سببا وصل به إليه دون أن يحلف له. والحلف لا يكون بتسبب السبب، فكذلك قوله: "فوسوس إليه الشيطان"، لو كان ذلك كان منه إلى آدم على نحو الذي منه إلى ذريته من تزيين أكل ما نهى الله آدم عن أكله من الشجرة بغير مباشرة خطابه إياه بما استزله به من القول والحيل، لما قال جل ثناؤه: "وَقَاسَمَهُمَا إنّي لَكُمَا لَمِنَ النّاصِحِينَ" كما غير جائز أن يقول اليوم قائل ممن أتى معصية: قاسمني إبليس أنه لي ناصح فيما زين لي من المعصية التي أتيتها، فكذلك الذي كان من آدم وزوجته لو كان على النحو الذي يكون فيما بين إبليس اليوم وذرية آدم لمّا قال جل ثناؤه: "وَقَاسَمَهُما إنّي لَكُما لَمِنَ الناصِحِينَ".
فأما سبب وصوله إلى الجنة حتى كلم آدم بعد أن أخرجه الله منها وطرده عنها، فليس فيما رُوي عن ابن عباس ووهب بن منبه في ذلك معنى يجوز لذي فهم مدافعته، إذ كان ذلك قولاً لا يدفعه عقلٌ ولا خبرٌ يلزم تصديقه من حجة بخلافه، وهو من الأمور الممكنة. والقول في ذلك أنه قد وصل إلى خطابهما على ما أخبرنا الله جل ثناؤه...وإن كان ابن إسحاق قد قال في ذلك، والله أعلم، كما قال ابن عباس وأهل التوراة: أنه خلص إلى آدم وزوجته بسلطانه الذي جعل الله له ليبتلي به آدم وذريته، وأنه يأتي ابن آدم في نومته وفي يقظته، وفي كل حال من أحواله، حتى يخلص إلى ما أراد منه حتى يدعوه إلى المعصية، ويوقع في نفسه الشهوة وهو لا يراه، وقد قال الله: "فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيْطانُ فأخْرَجُهُما مِما كانا فِيهِ". وقال: "يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنّكُم الشّيْطانُ كَما أخْرَجَ أبَوَيْكُمْ مِنَ الجَنّةِ يَنْزِع عَنْهُما لِباسَهُما لِيُريَهُما سوآتِهِما إنه يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُه مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إنا جَعَلْنَا الشياطينَ أوْلِياءَ للذينَ لا يُؤْمِنْونَ" وقد قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: "قُلْ أعُوذُ بِرَبّ النّاسِ مَلِكِ النّاسِ" إلى آخر السورة. ثم ذكر الأخبار التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ الشّيْطَانَ يَجْرِي مِن ابْنِ آدَمَ مجرَى الدّمِ» قال ابن إسحاق: وإنما أمر ابن آدم فيما بينه وبين عدوّ الله، كأمره فيما بينه وبين آدم، فقال الله: "اهْبِطْ مِنْها فَمَا يَكُونُ لَكَ أنْ تَتَكَبّرَ فِيها فاخْرُجْ إنّكَ مِنَ الصّاغِرِينَ". ثم خلص إلى آدم و زوجته حتى كلمهما، كما قصّ الله علينا من خبرهما، قال: "فَوَسْوَسَ إلَيْهِ الشّيْطَانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أدُلّكَ على شَجَرَةِ الخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى" فخلص إليهما بما خلص إلى ذريته من حيث لا يريانه، والله أعلم أيّ ذلك كان، فتابا إلى ربهما...
وأما تأويل قوله: "فأخْرَجَهُما" فإنه يعني: فأخرج الشيطان آدم وزوجته مما كانا، يعني مما كان فيه آدم وزوجته من رغد العيش في الجنة، وسعة نعيمها الذي كانا فيه. وقد بينا أن الله جل ثناؤه إنما أضاف إخراجهما من الجنة إلى الشيطان، وإن كان الله هو المخرج لهما لأن خروجهما منها كان عن سبب من الشيطان، وأضيف ذلك إليه لتسبيبه...
"وقُلْنا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ". قال أبو جعفر: يقال: هبط فلان أرض كذا ووادي كذا، إذا حلّ ذلك...
وقد أبان هذا القول من الله جل ثناؤه عن صحة ما قلنا من أن المخرج آدم من الجنة هو الله جلّ ثناؤه، وأن إضافة الله إلى إبليس ما أضاف إليه من إخراجهما كان على ما وصفنا. ودل بذلك أيضا على أن هبوط آدم وزوجته وعدوّهما إبليس كان في وقت واحد. بجَمْعِ الله إياهم في الخبر عن إهباطهم، بعد الذي كان من خطيئة آدم وزوجته، وتسبب إبليس ذلك لهما، على ما وصفه ربنا جل ذكره عنهم...
"وَلَكم في الأرْضِ مُسْتَقَرّ": قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم:
"وَلَكُمْ في الأرْضِ مُسْتَقَرّ": هو قوله: "الّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأرْضَ فِرَاشا". [و] قوله: "جَعَلَ لَكُم الأرْضَ قَرَارا".
وقال آخرون: معنى ذلك: ولكم في الأرض قرار في القبور."مستقر": القبور.
[و] قال ابن زيد: "وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرّ" قال: مقامهم فيها.
والمستقرّ في كلام العرب هو موضع الاستقرار. فإذا كان ذلك كذلك، فحيث كان من في الأرض موجودا حالاّ، فذلك المكان من الأرض مستقرّه. إنما عنى الله جل ثناؤه بذلك: أن لهم في الأرض مستقرّا ومنزلاً بأماكنهم ومستقرّهم من الجنة والسماء، وكذلك قوله: "وَمَتَاعٌ" يعني به أن لهم فيها متاعا بمتاعهم في الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى: "وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ":
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: ولكم فيها بلاغ إلى الموت.
وقال آخرون: يعني بقوله: "وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ": إلى قيام الساعة.
وقال آخرون إلى حين، قال: إلى أجل.
والمتاع في كلام العرب: كل ما استمتع به من شيء من معاش استمتع به أو رياش أو زينة أو لذّة أو غير ذلك. فإذا كان ذلك كذلك، وكان الله جل ثناؤه قد جعل حياة كل حيّ متاعا له يستمتع بها أيام حياته، وجعل الأرض للإنسان متاعا أيام حياته بقراره عليها، واغتذائه بما أخرج الله منها من الأقوات والثمار، والتذاذه بما خلق فيها من الملاذ وجعلها من بعد وفاته لجثته كِفاتا، ولجسمه منزلاً وقرارا، وكان اسم المتاع يشمل جميع ذلك، كان أولى التأويلات بالآية إذْ لم يكن الله جل ثناؤه وضع دلالة دالّة على أنه قصد بقوله: "وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ" بعضا دون بعض، وخاصّا دون عام في عقل ولا خبر، أن يكون ذلك في معنى العام، وأن يكون الخبر أيضا كذلك إلى وقت يطول استمتاع بني آدم وبني إبليس بها، وذلك إلى أن تبدّل الأرض غير الأرض. فإذْ كان ذلك أولى التأويلات بالآية لما وصفنا، فالواجب إذا أن يكون تأويل الآية: ولكم في الأرض منازل ومساكن، تستقرّون فيها استقراركم كان في السموات، وفي الجنات في منازلكم منها، واستمتاع منكم بها وبما أخرجت لكم منها، وبما جعلت لكم فيها من المعاش والرياش والزّيْن والملاذ، وبما أعطيتكم على ظهرها أيام حياتكم ومن بعد وفاتكم لأرماسكم وأجداثكم، تُدفنون فيها وتبلغون باستمتاعكم بها إلى أن أبدّلكم بها غيرها...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وجائز معاتبة آدم مع ذلك وتسميته عصيانا بأوجه:
أحدها: أنه لم يكن امتحن بأنواع مختلفة يتعذر عليه وجه الحفظ في ذلك، وإنما امتحن بالانتهاء عن شجرة واحدة بالإشارة إليها، فجائز ألا يعذر في مثله. وكذلك النسيان في ما يعذر في الشاهد إنما يعذر في النوع الذي يبتلى به، وتكثر به النوازل؛ ألا ترى أنه يعذر بالسلام في الصلاة وترك التسمية في الذبيحة ونحو ذلك؟ ولا يعذر في الأكل في الصلاة وفي الجماع في الحج ونحو ذلك. فمثله الأمر الذي نحن فيه.
والثاني: أنه جائز أخذ الأخيار ومعاتبة الرسول بالأمر الخفيف اليسير الذي لا يؤخذ بمثل ذلك غيره لكثرة نعم الله عليهم وعظم منته عندهم، كما أوعدوا التضاعف في العذاب على ما كان من غيره وعلى ما ذكر في أمر يونس عليه السلام من العقوبة بما، لعل ذلك من عظيم خيرات غيره، إذ فارق قومه لما عاين من المناكير فيهم، وما فعل مثله من أحد ما يوصف به غيره. وكذلك ما عوتب محمد صلى الله عليه وسلم في ما خطر بباله تقريب أجلة الكفرة إشفاقا عليهم وحرصا على إسلامهم ومن تبعهم، على ذلك مما لعل من دونه لا يعدل شيء من خيراته بالذي عوتب به، وبالله التوفيق.
والثالث: أنه لما عوتب بالذي يجوز ابتداء المحنة به ولمثله خلقه حين قال: (للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) [البقرة: 30]، لكنه [يكرمه بالذي] عود خلقه من تقديم إحسانه وإنعامه في الابتلاء 299 على الشدائد والشرور، وإن كان له التقديم بالثاني؛ وذلك في جملة قوله: (وبلوناهم بالحسنات والسيئات) [الأعراف: 168] وقوله: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) [الأنبياء: 35]، وبالله التوفيق.
وعلى ما في ذلك من معاتبة غيره الزجر عن المعاصي وتعظيم خطره في القلوب إذ جوزي أبو البشر وأول الرسل منهم على ما فضله بما امتحن فيه ملائكته بالتعلم منه والسجود بذلك القدر من الذلة، ليعلم الخلق أنه ليس في أمره هوادة ولا في حكمه محاباة، فيكونون أبدا على حذر من عقوبته والفزع إليه بالعصمة عما يوجب مقته، وألا يكلهم إلى أنفسهم إذ علموا بابتلاء الذي ذكرت محله في قلوبهم بذلك القدر من الذلة، ولا قوة إلا بالله.
والثاني: أن يكون حفظ النهي عنه، لكنه خطر بباله النهي عن وجه لا يلحقه فيه وصف العصيان، أو نسي قوله: (فتكونا من الظالمين) [البقرة: 35]. وقد ذكرنا النهي في وقت الفعل؛ ولكن يسمى الوصف بالفعل من الظلم والنهي، لعله سبق إلى وهمه غير جهة التحريم؛ إذ يكون النهي على أوجه: أحدها: للحرمة. و [الثالث]: نهي لما فيه من الداء، وعليه في أكله ضرر، وهذا معروف في الشاهد بما عليه الطباع: نهي قوم عن أشياء محللة هي لهم ما يؤذي ويضر، فيحتمل أن يسبق إلى وهمه ذلك، لما وعد له في ذلك من عظم النفع، تحمل ما خوف به ليصل إلى ما وعد على ما سبق وجه النهي إلى ما وجه من حيث الضرر والمشقة، ونسي قوله: (فتكونا بين الظالمين) [البقرة: 35]، أو ذكرا، وعرفا أن الظلم قد يقع على الضرر كقوله: (كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا) [الكهف: 33] لم ينقص منه، والنقصان في النفس ضرر. وعلى ذلك فسر عامة أهل التفسير الظلم في القرآن أنه الضرر؛ واسم الضرر يأخذ ضرر الداء وضرر المأثم؛ وإن كان حقيقته وضع الشيء في غير موضعه، ولا قوة إلا بالله.
وقد يحتمل النهي أن يخرج مخرج المنع ليكون غيره هو الذي يبدأ به، ويخص ذلك به لا على التحريم نحو الأمر بالمعروف في ما يمنع الرجل ولده عن التناول مما يريد به غيره لا على التحريم. وإذا احتمل ذا، ثم بين له عظيم ما في ذلك من البركة من غير أن عاين عدوه ليعلم أن ذلك صنيعه،
وجائز أن سبق إليه أن ذلك إشارة ملك أو إلهام في النفس على ما يكون لكثير من الأخبار إلا أنه من وحي عدوه، فدعته نفسه إلى الأكل، فيكون كالناسي والجاهل بحقيقة وجه النهي، وإن كان تعمد أكله. ولا قوة إلا بالله.
والأصل في هذا أن فعله عليه السلام إن كان على نسيان العهد أو على الذكر له فإن الذي أصابه عقوبة، وإن كان بالذي يكون به المحنة؛ فلولا أن الله إن يعاقبه على ما فعله لم يكن ليغير عليه نعمة بعذاب أنعمها عليه. وقد قال: (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) [الأنفال: 53]. وما لا يحتمل العقوبة بالتغيير لم يكن ليفعل بعد وعده بذاك مع ما قد اعترفا بالظلم إذ (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) [الأعراف: 23]، وقد قال الله تعالى: (وعصى آدم ربه فغوى* [طه: 121]، وقد كان قال لهما (فتكونا من الظالمين) [البقرة: 35]، فكان ما بلي به وجهان: أحدهما: أن الله ذلك لم يُزِلْ عنهما اسم الإيمان ولا دعيا إليه بعد لفعلهما ذلك. ثبت أنه لا كل ذنب يزيل اسم الإيمان، وأن الذنوب لا يحقق فيها الكذب في ما اعتقد ألا يعصي الله في شيء...
آراء ابن حزم الظاهري في التفسير 456 هـ :
ومعنى قوله تعالى: {فتكونا من الظالمين} أي ظالمين لأنفسكما. والظلم في اللغة: وضع الشيء في غير موضعه، فمن وضع الأمر أو النهي في موضع الندب، أو الكراهة، فقد وضع الشيء في غير موضعه. وهذا الظلم [الذي في الآية] من هذا النوع من الظلم الذي يقع بغير قصد وليس معصية، لا الظلم الذي هو القصد إلى المعصية، وهو يدري أنها معصية.
ما قد نصه الله تعالى من أن آدم عليه السلام لم يأكل من الشجرة إلا بعد أن أقسم له إبليس أن نهي الله عز وجل لهما عن أكل الشجرة ليس على التحريم، وأنهما لا يستحقان بذلك عقوبة أصلا، بل يستحقان بذلك الجزاء الحسن، وفوز الأبد، قال تعالى حاكيا عن إبليس أنه قال لهما: {ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور}.
وقال عز وجل: {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما} فلما نسي آدم عليه السلام عهد الله إليه في أن إبليس عدو له، أحسن الظن بيمينه. ولا سلامة ولا براءة من القصد إلى المعصية و لا أبعد من الجراءة على الذنوب أعظم من حال من ظن أحدا لا يحلف حانثا، وهكذا فعل آدم عليه السلام فإنه إنما أكل من الشجرة التي نهاه الله عنها ناسيا، بنص القرآن، ومتأولا وقاصدا إلى الخير، لأنه قدر أنه يزداد حظوة عند الله تعالى فيكون ملكا مقربا، أو خالدا فيما هو فيه أبدا، فأداه ذلك إلى خلاف ما أمره الله عز وجل به، وكان الواجب أن يحمل أمر ربه عز وجل على ظاهره، ولكن تأول وأراد الخير فلم يصبه. ولو فعل هذا عالم من علماء المسلمين لكان مأجورا، ولكن آدم عليه السلام لما فعله وأخذ به بإخراجه عن الجنة إلى نكد الدنيا، كان بذلك ظالما لنفسه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وقيل: فأزلهما عن الجنة بمعنى أذهبهما عنها وأبعدهما، كما تقول: زلّ عن مرتبته. وزل عنك ذاك: إذا ذهب عنك. وزل من الشهر كذا. وقرئ: «فأزالهما» {مِمَّا كَانَا فِيهِ} من النعيم والكرامة...
قيل: {اهبطوا} خطاب لآدم وحواء وإبليس: وقيل: والحية. والصحيح أنه لآدم وحواء والمراد هما وذريتهما، لأنهما لما كانا أصل الإنس ومتشعبهم جعلا كأنهما الإنس كلهم. والدليل عليه قوله: {قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه: 123] ويدل على ذلك قوله: {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}، {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا أُولَئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون}. وما هو إلا حكم يعم الناس كلهم. ومعنى بعضكم لبعض {لِبَعْضٍ} ما عليه الناس من التعادي والتباغي وتضليل بعضهم لبعض. والهبوط: النزول إلى الأرض. {مُسْتَقَرٌّ} موضع استقرار أو استقرار {ومتاع} وتمتع بالعيش.
{فأزلهما الشيطان عنها} تحقيقه، فأصدر الشيطان زلتهما عنها، ولفظة (عن) في هذه الآية كهي في قوله تعالى: {وما فعلته عن أمري} [الكهف: 82].
قال القفال رحمه الله: هو من الزلل يكون الإنسان ثابت القدم على الشيء فيزل عنه ويصير متحولا عن ذلك الموضع، ومن قرأ {فأزالهما} فهو من الزوال عن المكان، وحكي عن أبي معاذ أنه قال: يقال أزلتك عن كذا حتى زلت عنه وأزللتك حتى زللت ومعناهما واحد، أي: حولتك عنه، وقال بعض العلماء: أزلهما الشيطان أي استزلهما، فهو من قولك زل في دينه إذا أخطأ وأزله غيره إذا سبب له ما يزل من أجله في دينه أو دنياه.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
... لم يكن إخراج الله تعالى آدم من الجنة وإهباطه منها عقوبة له؛ لأنه أهبطه بعد أن تاب عليه وقبل توبته وإنما أهبطه إما تأديبا وإما تغليظا للمحنة. والصحيح في إهباطه وسكناه في الأرض ما قد ظهر من الحكمة الأزلية في ذلك وهي نشر نسله فيها ليكلفهم ويمتحنهم ويرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم الأخروي، إذ الجنة والنار ليستا بدار تكليف، فكانت تلك الأكلة سبب إهباطه من الجنة، ولله أن يفعل ما يشاء. وقد قال "إني جاعل في الأرض خليفة "وهذه منقبة عظيمة وفضيلة كريمة شريفة، وقد تقدمت الإشارة إليها مع أنه خلق من الأرض، وإنما قلنا إنما أهبطه بعد أن تاب عليه لقوله ثانية: "قلنا اهبطوا"
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها» رواه مسلم والنسائي...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم بين أنهما أسرعا المواقعة بقضية خلقهما على طبائع الشهوة لما نهيا عنه فقال: {فأزلهما}، قال الحرالي: من الزلل وهو تزلق الشيء الذي لا يستمسك على الشيء الذي لا مستمسك فيه كتزلل الزلال عن الورق وهو ما يجتمع من الطل فيصير ما على الأوراق والأزهار، وأزالهما من الزوال وهو التنحية عن المكان أو المكانة وهو المصير بناحية منه؛ {الشيطان} هو مما أخذ من أصلين: من الشطن وهو البعد الذي منه سمي الحبل الطويل، ومن الشيط الذي هو الإسراع في الاحتراق والسمن، فهو من المعنيين مشتق كلفظ إنسان وملائكة {عنها} أي عن مواقعة الشجرة وعن كلمة تقتضي المجاوزة عن سبب ثابت كقولهم: رميت عن القوس -انتهى.
وتحقيقه فأصدر الشيطان زلتهما أو زوالهما عنها {فأخرجهما} أي فتسبب عن إيقاعهما في الزلل الناشئ عن تلك المواقعة أنه أخرجهما {مما كانا فيه} من النعمة العظيمة التي تجل عن الوصف. قال الحرالي:"في" كلمة تقتضي وعاء مكان أو مكانة، ثم قال: أنبأ الله عز وجل بما في خبء أمره مما هو من وراء علم الملائكة بما أظهر من أمر آدم عليه السلام وبما وراء علم آدم بما أبدى من حال الشيطان باستزلاله لآدم حسن ظن من آدم بعباد الله مطلقاً حين قاسمهما على النصيحة، وفيه انتظام بوجه ما بتوقف الملائكة في أمر خلق آدم فحذرت الملائكة إلى الغاية، فجاء من وراء حذرهما حمد أظهره الله من آدم، وجاء من وراء حسن ظن آدم ذنب أظهره الله من الشيطان على سبيل سكن الجنة فرمى بهما عن سكنها بما أظهر له بما فيها من حب الشجرة التي اطلع عليها. ثم قال: وحكمة ذلك أي نسبة هذا الذنب إلى الشيطان بتسببه، إن الله عز وجل يعطي عباده الخير بواسطة وبلا واسطة ولا ينالهم شر إلا بواسطة نفس، كما وقع من الإباء للشيطان، فكانت خطيئته في ذات نفسه أو بواسطة شيطان كما كانت مخالفة آدم، فكانت خطيئته ليست من ذات نفسه وعارضةً عليه من قبل عدو تسبب له بأدنى مأمنه من زوجه التي هي من أدنى خلقه فمحت التوبة الذنب العارض لآدم وأثبت الإصرار الإباء النفساني للشيطان؛ وذكر الحق تعالى الإزلال منه باسمه الشيطان لا باسمه إبليس لما في معنى الشيطنة من البعد والسرعة التي تقبل التلافي ولما في معنى الإبلاس من قطع الرجاء، فكان في ذلك بشرى استدراك آدم بالتوبة- انتهى.
ولما بين أنه غرهما فضرهما بين إهباط الغارّ والمغرور وبين أنه أنعم على المغرور دون الغار مع ما سبق له من لزوم العبادة وطول التردد في الخدمة، وفي ذلك تفخيم للنعمة استعطافاً إلى الإخلاص في العبادة فقال عاطفاً على ما يرشد إليه السياق من نحو أن يقال فتداركناهما بالرحمة وتلافينا خطأهما بالعفو لكونه عارضاً منهما بسبب خارج، وأبّدنا تلافي الغار بشقائه لعصيانه بالضلال والإضلال عن عمد فكان مغضوباً عليه {وقلنا} أي له وللمغرور: {اهبطوا} وفي ذلك لطف لذريته بالتنفير من الخطأ والترهيب الشديد من جريرته والترغيب العظيم على تقدير الوقوع فيه في التوبة والهبوط.
قال الحرالي: سعى في درك والدرك مَا يكون نازلاً عن مستوى، فكأنه أمسك حقيقته -أي آدم- في حياطته تعالى وحفظه وتوفيقه لضراعته وبكائه وسر ما أودعه من أمر توبته؛ وأهبط صورته ليظهر في ذلك فرق ما بين هبوط آدم وهبوط إبليس على ما أظهر من ذلك سرعة عود آدم توبة وموتاً إلى محله من أنسه المعهود وقربه المألوف له -من ربه، وإنظار إبليس في الأرض مصراً منقطعاً عن مثل معاد آدم لما نال إبليس من اللعنة التي هي مقابل التوبة {بعضكم لبعض} البعض ما اقتطع من جملة وفيه ما في تلك الجملة، {عدو} من العداء أي المجاوزة عن حكم المسالمة التي هي أدنى ما بين المستقلين من حق المعاونة- انتهى. فالمعنى فليحذر كل واحد منكم عدوه باتباع الأوامر واجتناب النواهي.
قال الحرالي: وفيه إشعار بما تمادى من عدواء الشيطان على ذرء من ولد آدم حتى صاروا من حزبه، وفيه أيضاً بشرى لصالحي ولد آدم بما يسبونه من ذرء إبليس فيلحقون بهم بالإيمان والإسلام والتوبة فيهتدون بهداه من حيث عمّ بالعداوة، فاعتدى ذو الخير فصارت عدواه على أهل الشر خيراً، واعتدى ذو الشيطنة فصارت عدواه على أهل الخير شراً. {ولكم في الأرض مستقر} تكونون فيه، وهو من القرار وهو كون الشيء فيما له فيه تنام وظهور وعيش موافق؛ {ومتاع} تتمتعون به، والمتاع هو الانتفاع بالمنتفع به وقتاً منقطعاً يعرف نقصه بما هو أفضل منه، يعني ففيه إشعار بانقطاع الإمتاع بما في هذه الدنيا ونقص ما به الانتفاع عن محل ما كانا فيه، من حيث إن لفظ المتابع أطلق في لسان العرب على الجيفة التي هي متاع المضطر وأرزاق سباع الحيوان وكلابها، فكذلك الدنيا هي جيفة متع بها أهل الاضطرار بالهبوط من الجنة وجعلها حظ من لا خلاق له في الآخرة؛ {إلى حين} أي لا يتقدم ولا يتأخر، وفي إبهام الحين إشعار باختلاف الآجال في ذرء الفريقين، فمنهم الذي يناله الأجل صغيراً، ومنهم الذي يناله كبيراً -انتهى.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال تعالى {فأزلهما الشيطان عنها} أي حولهما وزحزحهما عن الجنة أو حملهما على الزلة بسبب الشجرة وقرأ حمزة (فأزالهما) والشيطان إبليس الذي لم يسجد ولم يخضع وقد وسوس لهما بما ذكر في سورتي الأعراف وطه حتى أوقعهما في الزلل وحملهما على الأكل من الشجرة فأكلا {فأخرجهما مما كانا فيه} أي من ذلك المكان أو النعيم الذي كانا فيه، فكان الذنب متصلا بالعقوبة اتصال السبب بالمسبب ثم بين الله تعالى كيفية الإخراج بقوله {وقلنا اهبطوا} يعني آدم وزوجه وإبليس فلا حاجة لتقدير إرادة ذرية آدم بالجمع كما فعل مفسرنا (الجلال) فإن العداوة في قوله عز وجل {بعضكم لبعض عدو} تنافي هذا التقدير فإن العداوة بين الإنسان والشيطان لا بين الإنسان وذريته. والأصل في الهبوط أن يكون من مكان عال إلى أسفل منه، ولذلك احتج به من قال: إن آدم كان في السماء، وقد يستعمل في مطلق الانتقال أو مع اعتبار العلو والسفل في المعنى. وقال الراغب: الهبوط الانحدار على سبيل القهر ولا يبعد أن تكون تلك الجنة في ربوة فسمى الخروج منها هبوطا أو سمى بذلك لأن ما انتقلوا إليه دون ما كانوا فيه أو هو كما يقال هبط من بلد إلى بلد، كقوله تعالى لبني إسرائيل (اهبطوا مصرا).
ثم قال تعالى {ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} أي إن استقراركم في الأرض وتمتعكم فيها ينتهيان إلى زمن محدود وليسا بدائمين، ففي الكلام فائدتان:
(إحداهما): أن الأرض ممهدة مهيأة للمعيشة فيها والتمتع بها.
(والثانية): أن طبيعة الحياة فيها تنافي الخلود والدوام، فليس الهبوط لأجل الإبادة ومحو الآثار، وليس للخلود كما زعم إبليس بوسوسته إذ سمى الشجرة المنهي عنها (شجرة الخلد وملك لا يبلى) يعنى أن الله أخرجهم من جنة الراحة إلى أرض العمل لا ليفنيهم، وعبر عن ذلك بالاستقرار في الأرض، ولا ليعاقبهم بالحرمان من التمتع بخيرات الأرض، وعبر عن ذلك بالمتاع، ولا ليمتعهم بالخلود وعبر عن ذلك بكون الاستقرار والمتاع إلى حين.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
فلم يزل عدوهما يوسوس لهما ويزين لهما تناول ما نهيا عنه، حتى أزلهما، أي: حملهما على الزلل بتزيينه. {وَقَاسَمَهُمَا} بالله {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} فاغترا به وأطاعاه، فأخرجهما مما كانا فيه من النعيم والرغد، وأهبطوا إلى دار التعب والنصب والمجاهدة.
{بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} أي: آدم وذريته، أعداء لإبليس وذريته، ومن المعلوم أن العدو، يجد ويجتهد في ضرر عدوه وإيصال الشر إليه بكل طريق، وحرمانه الخير بكل طريق، ففي ضمن هذا، تحذير بني آدم من الشيطان كما قال تعالى {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا}
ثم ذكر منتهى الإهباط إلى الأرض، فقال: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} أي: مسكن وقرار، {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} انقضاء آجالكم، ثم تنتقلون منها للدار التي خلقتم لها، وخلقت لكم، ففيها أن مدة هذه الحياة، مؤقتة عارضة، ليست مسكنا حقيقيا، وإنما هي معبر يتزود منها لتلك الدار، ولا تعمر للاستقرار.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وتفيد الآية إثارة الحسرة في نفوس بني آدم على ما أصاب آدم من جراء عدم امتثاله لوصاية الله تعالى، وموعظة تُنبِّهُ بوجوب الوقوف عند الأمر والنهي، والترغيب في السعي إلى ما يعيدهم إلى هذه الجنة التي كانت لأبيهم، وتربيةِ العداوة بينهم وبين الشيطان وجنده إذ كان سبباً في جر هذه المصيبة لأبيهم، حتى يكونوا أبداً ثأراً لأبيهم مُعادين للشيطان ووسوسته، مسيئين الظنون بإغرائه كما أشار إليه قوله تعالى: {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة} [الأعراف: 27] وقوله هنا: {بعضكم لبعض عدو}. وهذا أصل عظيم في تربية العامة ولأجله كان قادة الأمم يذكرون لهم سوابق عداوات منافسيهم ومَن غلبهم في الحروب ليكون ذلك باعثاً على أخذ الثأر..
وقوله: {بعضكم لبعض عدو} يحتمل أن يراد بالبعض بعض الأنواع وهو عداوة الإنس والجن. إن كان الضمير في {اهبطوا} لآدم وزوجه وإبليس، ويحتمل أن يراد عداوة بعض أفراد نوع البشر، إن كان ضمير {اهبطوا} لآدم وحواء فيكون ذلك إعلاماً لهما بأثر من آثار عملهما يورث في بنيهما، ولذلك مبدأ ظهور آثار الاختلاف في تكوين خلقتهما بأن كان عصيانهما يورث في بنيهما، ولذلك مبدأ ظهور آثار الاختلال في تكوين خلقتهما بأن كان عصيانهما يورث في أنفسهما وأنفس ذريتهما داعية التغرير والحيلة على حد قوله تعالى: {إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم} فإن الأخلاق تورث وكيف لا وهي مما يعدى بكثرة الملابسة والمصاحبة... ووجه المناسبة بين هذا الأثر وبين منشئه الذي هو الأكل من الشجرة أن الأكل من الشجرة كان مخالفة لأمر الله تعالى ورفضاً له وسوء الظن بالفائدة منه دعا لمخالفته الطمع والحرص على جلب نفع لأنفسهما، وهو الخلود في الجنة والاستئثار بخيراتها مع سوء الظن بالذي نهاهما عن الأكل منها وإعلامه لهما بأنهما إن أكلا منها ظلما أنفسهما لقول إبليس لهما: {ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين} [الأعراف: 20] فكذلك كانت عداوة أفراد البشر مع ما جبلوا عليه من الألفة والأنس والاتحاد منشؤها رفض تلك الألفة والاتحاد لأجل جلب النفع للنفس وإهمال منفعة الغير، فلا جرم كان بين ذلك الخاطر الذي بعثهما على الأكل من الشجرة وبين أثره الذي بقي في نفوسهما والذي سيورثونه نسلهما فيخلق النسل مركبة عقولهم على التخلق بذلك الخلق الذي طرأ على عقل أبويهما، ولا شك أن ذلك الخلق الراجع لإيثار النفس بالخير وسوء الظن بالغير هو منبع العداوات كلها لأن الواحد لا يعادي الآخر إلا لاعتقاد مزاحمة في منفعة أو لسوء ظن به في مضرة. وفي هذا إشارة إلى مسألة أخلاقية وهي أن أصل الأخلاق حسنها وقبيحها هو الخواطر الخيرة والشريرة ثم ينقلب الخاطر إذا ترتب عليه فعل فيصير خلقاً وإذا قاومه صاحبه ولم يفعل صارت تلك المقاومة سبباً في اضمحلال ذلك الخاطر، ولذلك حذرت الشريعة من الهم بالمعاصي وكان جزاء ترك فعل ما يهم به منها حسنة وأمرت بخواطِر الخير فكان جزاء مجردِ الهمِّ بالحسنة حسنةً ولو لم يعملها وكان العمل بذلك الهَم عشرَ حسنات كما ورد في الحديث الصحيح:"مَن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة" ثم قال "ومَنْ همَّ بسيئة فعملها كُتبت له سيئةٌ واحدة "وجعل العفو عن حديث النفس مِنَّة من الله تعالى ومغفرة في حديث "إن الله تجاوز عن أمتي فيما حدثت به نفوسها "
إن الله تعالى خلق الإنسان خَيِّراً سالماً من الشرور والخواطر الشريرة على صفة مَلَكية وهو معنى {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} [التين: 4] ثم جعله أطواراً فأولها طور تعليمِه النطقَ ووضعِ الأسماء للمسميات لأن ذلك مبدأُ المعرفة وبه يكون التعليم أي يعلم بعض أفراده بعضاً ما علِمَه وجَهِلَهُ الآخر فكان إلهامُه اللغة مبدأَ حركة الفكر الإنساني وهو مبدأ صالح للخير ومعين عليه لأن به علَّم الناسُ بعضهم بعضاً ولذلك ترى الصبي يرى الشيءَ فيسرعُ إلى قرنائه يُناديهم ليَرَوْهُ معه حرصاً على إفادتهم فكان الإنسان معلِّماً بالطبع وكان ذلك معيناً على خيريته إلا أنه صالح أيضاً لاستعمال النطق في التمويه والكذب؛ ثم إن الله تعالى لما نهاه عن أمر كلَّفه بما في استطاعته أن يمتثله وأن يخالفه فتلك الاستطاعة مبدأ حركة نفسه في الحرص والاستئثار فكان خَلْق الله تعالى إياه على تلك الاستطاعة مبدأ طَور جديد هو المشار إليه بقوله: {ثم رَدَدْناه أَسفل سافلين} [التين: 5]، ثم هداه بواسطة الشرائع فصار باتباعها يبلغ إلى مراتب الملائكة ويرجع إلى تقويمه الأول وذلك معنى قوله: {إلا الذين آمنُوا وعملوا الصالحات} [التين: 6] وقد أشير إلى هذا الطور الأخير بقوله فيما يأتي: {فإما يأتينكم مني هُدى فَمَنْ تَبِعَ هُداي} [البقرة: 38] الآية.