ثم ذكر الموانع المانعة لهم من الإيمان فقال : { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ } أي : طبع عليها بطابع لا يدخلها الإيمان ، ولا ينفذ فيها ، فلا يعون ما ينفعهم ، ولا يسمعون ما يفيدهم .
{ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } أي : غشاء وغطاء وأكنة تمنعها عن النظر الذي ينفعهم ، وهذه طرق العلم والخير ، قد سدت عليهم ، فلا مطمع فيهم ، ولا خير يرجى عندهم ، وإنما منعوا ذلك ، وسدت عنهم أبواب الإيمان بسبب كفرهم وجحودهم ومعاندتهم بعد ما تبين لهم الحق ، كما قال تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } وهذا عقاب عاجل .
ثم ذكر العقاب الآجل ، فقال : { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وهو عذاب النار ، وسخط الجبار المستمر الدائم .
قال السّدي : { خَتَمَ اللَّهُ } أي : طبع الله ، وقال قتادة في هذه الآية : استحوذ عليهم الشيطان إذ أطاعوه ؛ فختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ، فهم لا يبصرون هدى ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون .
وقال ابن جُرَيْج : قال مجاهد : { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ } قال : نبئت أن الذنوب على القلب تحف به{[1231]} من كل نواحيه حتى تلتقي عليه ، فالتقاؤها عليه الطبع ، والطبع الختم ، قال ابن جريج : الختم على القلب والسمع .
قال ابن جُرَيْج : وحدثني عبد الله بن كَثير ، أنه سمع مجاهدًا يقول : الرّانُ أيسر من الطبع ، والطبع أيسر من الأقفال ، والأقفال أشد من ذلك كله .
وقال الأعمش : أرانا مجاهد بيده فقال : كانوا يرون أن القلب في مثل هذه{[1232]} - يعني : الكف - فإذا أذنب العبد ذنبًا ضُمَّ منه ، وقال بأصبعه الخنصر هكذا ، فإذا أذنب ضَمّ . وقال بأصبع أخرى ، فإذا أذنب ضُمّ . وقال بأصبع أخرى وهكذا ، حتى ضم أصابعه كلها ، ثم قال{[1233]} : يطبع عليه بطابع .
وقال مجاهد : كانوا{[1234]} يرون أن ذلك : الرين .
ورواه ابن جرير : عن أبي كُرَيْب ، عن وَكِيع ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، بنحوه .
قال ابن جرير : وقال بعضهم : إنما معنى قوله : { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ } إخبار من الله عن تكبرهم ، وإعراضهم عن الاستماع لما دُعُوا إليه من الحق ، كما يقال : إن فلانًا لأصَمّ عن هذا الكلام ، إذا امتنع من سماعه ، ورفع{[1235]} نفسه عن تفهمه تكبرًا .
قال : وهذا لا يصح ؛ لأن الله قد أخبر أنه هو الذي ختم على قلوبهم وأسماعهم .
( قلت ) : وقد أطنب الزمخشري في تقرير ما رده ابن جرير هاهنا وتأول الآية من خمسة أوجه وكلها ضعيفة جدًا ، وما جرأه على ذلك إلا اعتزاله ؛ لأن الختم على قلوبهم ومنعها من وصول الحق إليها قبيح عنده - تعالى الله عنه في اعتقاده - ولو فهم قوله تعالى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } وقوله { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } وما أشبه ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى إنما ختم على قلوبهم وحال بينهم وبين الهدى جزاءً وفاقًا على تماديهم في الباطل وتركهم الحق ، وهذا عدل منه تعالى حسن وليس بقبيح ، فلو أحاط علمًا بهذا لما قال ما قال ، والله أعلم .
قال القرطبي : وأجمعت الأمة على أن الله عز وجل قد وصف نفسه بالختم والطبع على قلوب الكافرين مجازاة لكفرهم كما قال : { بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } وذكر حديث تقليب القلوب : «ويا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك » ، وذكر حديث حذيفة الذي في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودا فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء ، حتى تصير على قلبين : على أبيض مثل الصفاء فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض ، والآخر أسود مرباد كالكوز مجخيًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا » الحديث .
قال{[1236]} والحق عندي في ذلك ما صَحّ بنظيره{[1237]} الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو ما حدثنا به محمد بن بشار ، حدثنا صفوان بن عيسى ، حدثنا ابن عَجْلان ، عن القعقاع ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن المؤمن إذا أذنب ذنبًا كانت نُكْتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزعَ واستعتب صقل قلبه ، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه ، فذلك الران الذي قال الله تعالى : { كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } » [ المطففين : 14 ]{[1238]} .
وهذا الحديث من هذا الوجه قد رواه الترمذي والنسائي ، عن قتيبة ، عن الليث بن سعد ، وابن ماجه عن هشام بن عمار عن حاتم بن إسماعيل والوليد بن مسلم ، ثلاثتهم عن محمد بن عجلان ، به{[1239]} .
ثم قال ابن جرير : فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها ، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله تعالى والطبع ، فلا يكون للإيمان إليها مسلك ، ولا للكفر عنها{[1240]} مخلص ، فذلك{[1241]} هو الختم والطبع الذي ذكر{[1242]} في قوله تعالى : { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ } نظير الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف ، التي لا يوصل إلى ما فيها إلا بفض{[1243]} ذلك عنها ثم حلها ، فكذلك{[1244]} لا يصل الإيمان إلى قلوب من وصف الله أنه ختم على قلوبهم وعلى سمعهم إلا بعد فض خاتمه وحَلّه رباطه [ عنها ]{[1245]} .
واعلم أن الوقف التام على قوله تعالى : { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ } ، وقوله { وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } جملة تامة ، فإن الطبع يكون على القلب وعلى السمع ، والغشاوة - وهي الغطاء - تكون على البصر ، كما قال السدي في تفسيره عن أبي مالك ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرّة الهَمْداني ، عن ابن مسعود ، وعن أناس من أصحاب رسول الله{[1246]} صلى الله عليه وسلم في قوله : { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ } يقول : فلا يعقلون ولا يسمعون ، ويقول : وجعل على أبصارهم غشاوة ، يقول : على أعينهم فلا يبصرون .
قال{[1247]} ابن جرير : حدثني محمد بن سعد{[1248]} حدثنا أبي ، حدثني عمي الحسين بن الحسن ، عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس : { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ } والغشاوة على أبصارهم .
وقال : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، يعني ابن داود ، وهو سُنَيد ، حدثني حجاج ، وهو ابن محمد الأعور ، حدثني ابن جريج قال : الختم على القلب والسمع ، والغشاوة على البصر ، قال الله تعالى : { فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ } [ الشورى : 24 ] ، وقال { وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً } [ الجاثية : 23 ]{[1249]} .
قال{[1250]} ابن جرير : ومن نصب غشاوة من قوله تعالى : { وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } يحتمل{[1251]} أنه نصبها بإضمار فعل ، تقديره : وجعل على أبصارهم غشاوة ، ويحتمل أن يكون نصبها على الإتباع ، على محل { وَعَلَى سَمْعِهِمْ } كقوله تعالى : { وَحُورٌ عِينٌ } [ الواقعة : 22 ] ، وقول الشاعر :
عَلَّفْتُها تبنًا وماء باردًا *** حتى شَتتْ هَمَّالَةً عيناها{[1252]}
ورأيت زَوْجَك في الوغى *** متقلِّدًا سيفًا ورُمْحًا{[1253]}
القول في تأويل قوله تعالى : ( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم ) .
وأصل الختم الطبع والخاتم هو الطابع يقال منه ختمت الكتاب إذا طبعته .
فإن قال لنا قائل وكيف يختم على القلوب وإنما الختم طبع على الاوعية والظروف والغلف ، قيل فإن قلوب العباد أوعية لما أودعت من العلوم وظروف لما جعل فيها من المعارف بالأمور ، فمعنى الختم عليها وعلى الاسماع التي بها تدرك المسموعات ، ومن قبلها يوصل إلى معرفة حقائق الانباء عن المغيبات ، نظير معنى الختم على سائر الاوعية والظروف .
فإن قال فهل لذلك من صفة تصفها لنا فنفهمها أهي مثل الختم الذي يعرف لما ظهر للابصار أم هي بخلاف ذلك . قيل قد اختلف أهل التأويل في صفة ذلك وسنخبر بصفته بعد ذكرنا قولهم .
فحدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي قال حدثنا يحيى بن عيسى عن الاعمش قال أرانا مجاهد بيده فقال كانوا يرون أن القلب في مثل هذا يعني الكف فإذا أذنب العبد ذنبا ضم منه وقال بإصبعه الخنصر هكذا ، فإذا أذنب ضم وقال بإصبع أخرى فإذا أذنب ضم وقال باصبع أخرى هكذا حتى ضم اصابعه كلها قال ثم يطبع عليه بطابع قال مجاهد وكانوا يرون أن ذلك الرين .
حدثنا أبو كريب قال حدثنا وكيع عن الاعمش عن مجاهد قال القلب مثل الكف فإذا أذنب ذنبا قبض أصبعا حتى يقبض أصابعه كلها وكان أصحابنا يرون أنه الران .
حدثنا القاسم بن الحسن قال حدثنا الحسين بن داود قال حدثني حجاج قال حدثنا ابن جريج قال قال مجاهد نبئت أن الذنوب على القلب تحف به من نواحيه حتى تلتقي عليه فالتقاؤها عليه الطبع والطبع الختم قال ابن جريج الختم ختم على القلب والسمع .
حدثنا القاسم قال حدثنا الحسين حدثني حجاج عن ابن جريج قال حدثني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول الران أيسر من الطبع والطبع أيسر من الاقفال والاقفال أشد ذلك كله . وقال بعضهم إنما معنى قوله ختم الله على قلوبهم اخبار من الله جل ثناؤه عن تكبرهم واعراضهم عن الاستماع لما دعوا إليه من الحق كما يقال إن فلانا الاصم عن هذا الكلام إذا امتنع من سماعه ورفع نفسه عن تفهمه تكبرا .
والحق في ذلك عندي ما صح بنظيره الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما .
حدثنا به محمد بن يسار قال حدثنا صفوان بن عيسى قال حدثنا ابن عجلان عن القعقاع عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن المؤمن إذا أذنب ذنبا كان نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه فإن زاد زادت حتى يغلف قلبه فذلك الران الذي قال الله جل ثناؤه كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون .
فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلفتها وإذا أغلفتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله عز وجل والطبع فلا يكون للايمان إليها مسلك ولا للكفر منها مخلص فذلك هو الطبع والختم الذي ذكره الله تبارك وتعالى في قوله ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم نظير الطبع والختم على ما تدركه الابصار من الاوعية والظروف التي لا يوصل إلى ما فيها إلا بفض ذلك عنها ثم حلها فكذلك لا يصل الايمان إلى قلوب من وصف الله أنه ختم على قلوبهم إلا بعد فضة خاتمه وحله رباطه عنها .
ويقال لقائلي القول الثاني الزاعمين أن معنى قوله جل ثناؤه ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم هو وصفهم بالاستكبار والاعراض عن الذي دعوا إليه من الاقرار بالحق تكبرا أخبرونا عن استكبار الذين وصفهم الله جل ثناؤ بهذه الصفة واعراضهم عن الاقرار بما دعوا إليه من الايمان وسائر المعاني اللواحق به أفعل منهم أم فعل من الله تعالى ذكره بهم ، فإن زعموا أن ذلك فعل منهم وذلك قولهم قيل لهم فإن الله تبارك وتعالى قد أخبر أنه هو الذي ختم على قلوبهم وسمعهم وكيف يجوز أن يكون اعراض الكافر عن الايمان وتكبره عن الاقرار به وهو فعله عندكم ختما من الله على قلبه وسمعه وختمه على قلبه وسمعه فعل الله عز وجل دون فعل الكافر فإن زعموا أن ذلك جائز أن يكون كذلك لان تكبره واعراضه كانا عن ختم الله على قلبه وسمعه فلما كان الختم سببا لذلك جاز أن يسمى مسببه به تركوا قولهم وأوجبوا أن الختم من الله على قلوب الكفار وأسماعهم معنى غير كفر الكافر وغير تكبره وإعراضه عن قبول الايمان والاقرار به وذلك دخول فيما أنكره ]
وهذه الآية من أوضح الأدلة على فساد قول المنكرين تكليف ما لا يطاق إلا بمعونة الله لأن الله جل ثناؤه أخبر أنه ختم على قلوب صنف من كفار عباده وأسماعهم ، ثم لم يسقط التكليف عنهم ولم يضع عن أحد منهم فرائضه ولم يعذره في شيء مما كان منه من خلاف طاعته بسبب ما فعل به من الختم والطبع على قلبه وسمعه ، بل أخبر أن لجميعهم منه عذابا عظيما على تركهم طاعته فيما أمرهم به ونهاهم عنه من حدوده وفرائضه مع حتمه القضاء مع ذلك بأنهم لا يؤمنون .
القول في تأويل جل ثناؤه : { وَعَلَىَ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } .
وقوله : وَعلى أبْصَارِهمْ غشِاوَة خبر مبتدأ بعد تمام الخبر عما ختم الله جل ثناؤه عليه من جوارح الكفار الذين مضت قصصهم ، وذلك أن غِشاوَة مرفوعة بقوله : وَعلى أبْصَارِهمْ فذلك دليل على أنه خبر مبتدأ ، وأن قوله : خَتمَ اللّهُ على قُلُوبِهمْ قد تناهى عند قوله : وَعلى سَمْعِهمْ . وذلك هو القراءة الصحيحة عندنا لمعنيين ، أحدهما : اتفاق الحجة من القراء والعلماء على الشهادة بتصحيحها ، وانفراد المخالف لهم في ذلك وشذوذه عما هم على تخطئته مجمعون وكفى بإجماع الحجة على تخطئة قراءته شاهدا على خطئها . والثاني : أن الختم غير موصوفة به العيون في شيء من كتاب الله ، ولا في خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا موجود في لغة أحد من العرب . وقد قال تبارك وتعالى في سورة أخرى : وَختَمَ على سَمْعهِ وَقَلْبِهِ ثم قال : وَجَعَلَ على بَصَرِه غِشاوَة فلم يدخل البصر في معنى الختم ، وذلك هو المعروف في كلام العرب . فلم يجز لنا ولا لأحد من الناس القراءة بنصب الغشاوة لما وصفت من العلتين اللتين ذكرت ، وإن كان لنصبها مخرج معروف في العربية . وبما قلنا في ذلك من القول والتأويل ، رُوى الخبر عن ابن عباس .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي الحسين بن الحسن ، عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس : ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم والغشاوة على أبصارهم .
فإن قال قائل : وما وجه مخرج النصب فيها ؟ قيل له : إن نصبها بإضمار «جعل » كأنه قال : وجعل على أبصارهم غشاوة ثم أسقط «جعل » إذ كان في أول الكلام ما يدل عليه . وقد يحتمل نصبها على إتباعها موضع السمع إذ كان موضعه نصبا ، وإن لم يكن حسنا إعادة العامل فيه على «غشاوة » ولكن على إتباع الكلام بعضه بعضا ، كما قال تعالى ذكره : يَطُوفُ عَلَيْهمْ وُلْدَان مُخَلّدُونَ بأكْوَابٍ وأبارِيقَ ثم قال : وَفَاكهَة مِمّا يَتَخَيّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمّا يَشْتَهُونَ وحُورٍ عينٍ فخفض اللحم والحور على العطف به على الفاكهة إتباعا لاَخر الكلام أوله . ومعلوم أن اللحم لا يطاف به ولا بالحور ، ولكن ذلك كما قال الشاعر يصف فرسه :
عَلَفْتُها تِبْنا وَماءً بارِدا *** حَتّى شَتَتْ هَمّالَةً عَيْناها
ومعلوم أن الماء يشرب ولا يعلف به ، ولكنه نصب ذلك على ما وصفت قبل . وكما قال الاَخر :
وَرَأيْتُ زَوْجَكِ في الوَغَى *** مُتَقَلّدَا سَيْفا وَرُمْحَا
وكان ابن جريج يقول في انتهاء الخبر عن الختم إلى قوله : وَعلى سَمْعِهِمْ وابتداء الخبر بعده بمثل الذي قلنا فيه ، ويتأول فيه من كتاب الله : فإنْ يَشأ اللّهُ يَخْتِم على قَلْبِكَ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : الختم على القلب والسمع ، والغشاوة على البصر ، قال الله تعالى ذكره : فإنْ يَشأ اللّهُ يَخْتِمْ على قَلْبِكَ وقال : وخَتمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشاوَةً والغشاوة في كلام العرب : الغطاء ، ومنه قول الحارث بن خالد بن العاص :
تَبِعْتُكَ إذْ عَيْنِي عَلَيْها غِشاوَةٌ *** فَلمّا انْجَلَتْ قَطّعْتُ نَفْسِي ألُومُها
ومنه يقال : تغشاه الهم : إذا تجلّله وركبه . ومنه قول نابغة بني ذبيان :
هَلا سألْتِ بَنِي ذُبْيانَ ما حَسَبي *** إذَا الدّخانُ تَغَشّى الأشمَطَ البَرِمَا
يعني بذلك : إذا تجلله وخالطه .
وإنما أخبر الله تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عن الذين كفروا به من أحبار اليهود ، أنه قد ختم على قلوبهم وطبع عليها فلا يعقلون لله تبارك وتعالى موعظة وعظهم بها فيما آتاهم من علم ما عندهم من كتبه ، وفيما حدّد في كتابه الذي أوحاه وأنزله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلى سمعهم فلا يسمعون من محمد صلى الله عليه وسلم نبيّ الله تحذيرا ولا تذكيرا ولا حجة أقامها عليهم بنبوّته ، فيتذكروا ويحذروا عقاب الله عز وجل في تكذيبهم إياه ، مع علمهم بصدقه وصحة أمره وأعلمه مع ذلك أن على أبصارهم غشاوة عن أن يبصروا سبيل الهدى فيعلموا قبح ما هم عليه من الضلالة والردي .
وبنحو ما قلنا في ذلك رُوي الخبر عن جماعة من أهل التأويل .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : خَتمَ اللّهُ على قُلُوبِهِمْ وَعلى سَمْعهِمْ وَعلى أبْصَارِهِمْ غِشاوَة أي عن الهدى أن يصيبوه أبدا بغير ما كذبوك به من الحقّ الذي جاءك من ربك ، حتى يؤمنوا به ، وإن آمنوا بكل ما كان قبلك .
حدثني موسى بن هارون الهمداني ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : خَتَم اللّهُ على قُلُوبِهِمْ وَعلى سَمْعِهِمْ يقول فلا يعقلون ، ولا يسمعون . ويقول : وجعل على أبصارهم غشاوة ، يقول : على أعينهم فلا يبصرون .
وأما آخرون فإنهم كانوا يتأوّلون أن الذين أخبر الله عنهم من الكفار أنه فعل ذلك بهم هم قادة الأحزاب الذين قتلوا يوم بدر .
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : هاتان الاَيتان إلي : وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ هم : الّذِينَ بَدّلُوا نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرا وأحَلّوا قَوْمَهُمْ دَارَ البَوَار وهم الذين قتلوا يوم بدر فلم يدخل من القادة أحد في الإسلام إلا رجلان : أبو سفيان بن حرب ، والحكم بن أبي العاص .
وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، عن الحسن ، قال : أما القادة فليس فيهم مجيب ، ولا ناج ، ولا مهتد . وقد دللنا فيما مضى على أولى هذين التأويلين بالصواب كرهنا إعادته .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ .
وتأويل ذلك عندي كما قاله ابن عباس وتأوّله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ولهم بما هم عليه من خلافك عذاب عظيم ، قال : فهذا في الأحبار من يهود فيما كذّبوك به من الحق الذي جاءك من ربك بعد معرفتهم .