135- إن العدل هو نظام الوجود ، وهو القانون الذي لا يختلف النظر فيه ، فيا أيها الذين أذعنتم لله الحق ، ولدعوة رسله ، كونوا مراقبين لأنفسكم في الإذعان للعدل ، ومراقبين للناس ، فانصفوا المظلوم ، وكونوا قائمين لا لرغبة غني أو لعطف على فقير ، لأن الله هو الذي جعل الغني والفقير ، وهو أولى بالنظر في حال الغني أو الفقير ، وإن الهوى هو الذي يميل بالنفس عن الحق فلا تتبعوه لتعدلوا وإن تتولوا إقامة العدل أو تعرضوا عن إقامته فإن الله يعلم ما تعملون علماً دقيقاً ، ويجازيكم بعملكم ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر .
ثم قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ْ }
يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا { قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ْ } والقوَّام صيغة مبالغة ، أي : كونوا في كل أحوالكم قائمين بالقسط الذي هو العدل في حقوق الله وحقوق عباده ، فالقسط في حقوق الله أن لا يستعان بنعمه على معصيته ، بل تصرف في طاعته .
والقسط في حقوق الآدميين أن تؤدي جميع الحقوق التي عليك{[244]} كما تطلب حقوقك . فتؤدي النفقات الواجبة ، والديون ، وتعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به ، من الأخلاق والمكافأة وغير ذلك .
ومن أعظم أنواع القسط القسط في المقالات والقائلين ، فلا يحكم لأحد القولين أو أحد المتنازعين لانتسابه أو ميله لأحدهما ، بل يجعل وجهته العدل بينهما ، ومن القسط أداء الشهادة التي عندك على أي وجه كان ، حتى على الأحباب بل على النفس ، ولهذا قال : { شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا ْ } أي : فلا تراعوا الغني لغناه ، ولا الفقير بزعمكم رحمة له ، بل اشهدوا بالحق على من كان .
والقيام بالقسط من أعظم الأمور وأدل على دين القائم به ، وورعه ومقامه في الإسلام ، فيتعين على من نصح نفسه وأراد نجاتها أن يهتم له غاية الاهتمام ، وأن يجعله نُصْب عينيه ، ومحل إرادته ، وأن يزيل عن نفسه كل مانع وعائق يعوقه عن إرادة القسط أو العمل به .
وأعظم عائق لذلك اتباع الهوى ، ولهذا نبه تعالى على إزالة هذا المانع بقوله : { فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا ْ } أي : فلا تتبعوا شهوات أنفسكم المعارضة للحق ، فإنكم إن اتبعتموها عدلتم عن الصواب ، ولم توفقوا للعدل ، فإن الهوى إما أن يعمي بصيرة صاحبه حتى يرى الحق باطلا والباطل حقا ، وإما أن يعرف الحق ويتركه لأجل هواه ، فمن سلم من هوى نفسه وفق للحق وهدي إلى الصراط المستقيم .
ولما بيَّن أن الواجب القيام بالقسط نهى عن ما يضاد ذلك ، وهو لي اللسان عن الحق في الشهادات وغيرها ، وتحريف النطق عن الصواب المقصود من كل وجه ، أو من بعض الوجوه ، ويدخل في ذلك تحريف الشهادة وعدم تكميلها ، أو تأويل الشاهد على أمر آخر ، فإن هذا من اللي لأنه الانحراف عن الحق . { أَوْ تُعْرِضُوا ْ } أي : تتركوا القسط المنوط بكم ، كترك الشاهد لشهادته ، وترك الحاكم لحكمه الذي يجب عليه القيام به .
{ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ْ } أي : محيط بما فعلتم ، يعلم أعمالكم خفيها وجليها ، وفي هذا تهديد شديد للذي يلوي أو يعرض . ومن باب أولى وأحرى الذي يحكم بالباطل أو يشهد بالزور ، لأنه أعظم جرما ، لأن الأولين تركا الحق ، وهذا ترك الحق وقام بالباطل .
يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط ، أي بالعدل ، فلا يعدلوا عنه يمينا ولا شمالا ولا تأخذهم في الله{[8464]} لومة لائم ، ولا يصرفهم عنه صارف ، وأن يكونوا متعاونين متساعدين متعاضدين متناصرين فيه .
وقوله : { شُهَدَاءَ لِلَّهِ } كَمَا قَالَ { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } أي : ليكن أداؤها ابتغاء وجه الله ، فحينئذ تكون صحيحة عادلة حقا ، خالية من التحريف والتبديل والكتمان ؛ ولهذا قال : { وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ } أي : اشهد الحق{[8465]} ولو عاد ضررها عليك وإذا سُئِلت عن الأمر فقل الحق فيه ، وإن كان مَضرة عليك ، فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجا ومخرجا من كل أمر يضيق عليه .
وقوله : { أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ } أي : وإن كانت الشهادة على والديك وقرابتك ، فلا تُراعهم فيها ، بل اشهد بالحق وإن عاد ضررها عليهم ، فإن الحق حاكم على كل أحد ، وهو مقدم على كل أحد .
وقوله : { إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا } أي : لا ترعاه{[8466]} لغناه ، ولا تشفق عليه لفقره ، الله يتولاهما ، بل هو أولى بهما منك ، وأعلم بما فيه صلاحهما .
وقوله { فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا } أي : فلا يحملنكم الهوى والعصبية وبغْضَة الناس إليكم ، على ترك العدل في أموركم وشؤونكم ، بل الزموا العدل على أي حال كان ، كما قال تعالى : { ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ لا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [ المائدة : 8 ]
ومن هذا القبيل قول عبد الله بن رواحة ، لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزرعهم ، فأرادوا أن يُرْشُوه ليرفق بهم ، فقال : والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إليَّ ، ولأنتم أبغض إليَّ من أعدادكم من القردة والخنازير ، وما يحملني حُبي إياه وبغضي لكم على ألا أعدل فيكم . فقالوا : " بهذا قامت السماوات والأرض " . وسيأتي الحديث مسندا في سورة المائدة ، إن شاء الله [ تعالى ]{[8467]} .
وقوله : { وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا } قال مجاهد وغير واحد من السلف : { تَلْوُوا } أي : تحرفوا الشهادة وتغيروها ، " واللّي " هو : التحريف وتعمد الكذب ، قال الله تعالى : { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ [ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ] {[8468]} } [ آل عمران : 78 ] . و " الإعراض " هو : كتمان الشهادة وتركها ، قال الله تعالى : { وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } [ البقرة : 283 ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها " . ولهذا توعدهم الله بقوله : { فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } أي : وسيجازيكم بذلك .
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءِ للّهِ وَلَوْ عَلَىَ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَىَ بِهِمَا فَلاَ تَتّبِعُواْ الْهَوَىَ أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } . .
وهذا تقدّمٌ من الله تعالى ذكره إلى عباده المؤمنين به وبرسوله أن يفعلوا فعل الذين سَعَوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر بني أبيرق ، أن يقوم بالعذر لهم في أصحابه وذبهم عنهم وتحسينهم أمرهم بأنهم أهل فاقة وفقر¹ يقول الله لهم : { يا أيّها الّذينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بالقِسْطِ } يقول : ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام بالقسط ، يعني بالعدل . { شُهَدَاءَ لِلّهِ } والشهداء : جمع شهيد ، ونصبت الشهداء على القطع مما في قوله : «قوّامين » ، من ذكر الذين آمنوا ، ومعناه : قوموا بالقسط لله عند شهادتكم ، أو حين شهادتكم . { وَلَوْ على أنْفُسِكُمْ } يقول : ولو كانت شهادتكم على أنفسكم ، أو على والديكم أو أقربيكم ، فقوموا فيها بالقسط والعدل ، وأقيموها على صحتها بأن تقولوا فيها الحقّ ، ولا تميلوا فيها لغني لغناه على فقير ، ولا لفقير لفقره على غنيّ فتجوروا ، فإن الله الذي سوّى بين حكم الغنيّ والفقير فيما ألزمكم أيها الناس من إقامة الشهادة لكل واحد منهما بالعدل أولى بهما ، وأحقّ منكم ، لأنه مالكهما وأولى بهما دونكم ، فهو أعلم بما فيه مصلحة كل واحد منهما في ذلك وفي غيره من الأمور كلها منكم ، فلذلك أمركم بالتسوية بينهما في الشهادة لهما وعليها . { فَلا تَتّبِعُوا الهَوَى أنْ تَعْدِلُوا } يقول : فلا تتبعوا أهواء أنفسكم في الميل في شهادتكم إذا قمتم بها لغنيّ على فقير أو لفقير على غنيّ إلا أحد الفريقين فتقولوا غير الحقّ ، ولكن قوموا فيه بالقسط وأدّوا الشهادة على ما أمركم الله بأدائها بالعدل لمن شهدتم عليه وله .
فإن قال قائل : وكيف يقوم بالشهادة على نفسه الشاهد بالقسط ، وهل يشهد الشاهد على نفسه ؟ قيل¹ نعم ، وذلك أن يكون عليه حقّ لغيره ، فيقرّ له به ، فذلك قيام منه له بالشهادة على نفسه . وهذه الاَية عندي تأديب من الله جلّ ثناؤه عباده المؤمنين أن يفعلوا ما فعله الذين عذروا بني أبيرق في سرقتهم ما سرقوا وخيانتهم ما خانوا من ذكر ما قيل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهادتهم لهم عنده بالصلاح ، فقال لهم : إذا قمتم بالشهادة لإنسان أو عليه ، فقوموا فيها بالعدل ولو كانت شهادتكم على أنفسكم وآبائكم وأمهاتكم وأقربائكم ، فلا يحملنكم غني من شهدتم له أو فقره أو قرابته ورحمة منكم على الشهادة له بالزور ولا على ترك الشهادة عليه بالحقّ وكتمانها . وقد قيل : إنها نزلت تأديبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن حسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ في قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ } قال : نزلت في النبيّ صلى الله عليه وسلم ، واختصم إليه رجلان غنيّ وفقير ، وكان ضلعه مع الفقير ، يرى أن الفقير لا يظلم الغنيّ ، فأبي الله إلا أن يقوم بالقسط في الغنيّ والفقير ، فقال : { إنْ يَكُنْ غَنِيّا أو فَقِيرا فاللّهُ أوْلَى بِهِما فَلا تَتّبِعُوا الهَوَى أنْ تَعْدِلُوا } . . . الاَية .
وقال آخرون في ذلك نحو قولنا إنها نزلت في الشهادة أمرا من الله المؤمنين أن يسوّوا في قيامهم بشهاداتهم لمن قاموا بها بين الغني والفقير . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : { كُونُوا قَوّامِينَ بالقِسْط شُهَدَاءَ لِلّهِ وَلَوْ على أنْفُسِكُمْ أو الوَالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ } قال : أمر الله المؤمنين أن يقولوا الحقّ ولو على أنفسهم أو آبائهم أو أبنائهم ، ولا يحابوا غنيا لغناه ، ولا يرحموا مسكينا لمسكنته ، وذلك قوله : { إنْ يَكُنْ غَنِيّا أوْ فَقِيرا فاللّهُ أوْلى بِهِمَا فَلا تَتّبِعُوا الهَوَى أن تَعْدِلوا } فتذروا الحقّ فتجورُوا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن يونس ، عن ابن شهاب في شهادة الوالد لولده وذي القرابة ، قال : كان ذلك فيما مضى من السنة في سلف المسلمين ، وكانوا يتأوّلون في ذلك قول الله : { يا أيّها الّذين آمَنُوا كونُوا قَوّامِينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ وَلَوْ على أنْفُسِكُمْ أوِ الوَالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ إنْ يَكُنْ غَنيّا أوْ فَقِيرا فاللّهُ أوْلى بِهِما } . . . الاَية ، فلم يكن يُتهم سلف المسلمين الصالح في شهادة الوالد لولده ، ولا الولد لوالده ، ولا الأخ لأخيه ، ولا الرجل لامرأته ، ثم دَخِلَ الناس بعد ذلك فظهرت منهم أمور حملت الولاة على اتهامهم ، فتركت شهادة من يتهم إذا كانت من أقربائهم وصار ذلك من الولد والوالد والأخ والزوج والمرأة لم يتهم إلا هؤلاء في آخر الزمان .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ } . . . إلى آخر الاَية ، قال : لا يحملك فقر هذا على أن ترحمه فلا تقيم عليه الشهادة ، قال : يقول هذا للشاهد .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ } . . . الاَية ، هذا في الشهادة ، فأقم الشهادة يا ابن آدم ولو على نفسك ، أو الوالدين ، أو على ذوي قرابتك ، أو أشراف قومك ، فإنما الشهادة لله وليست للناس ، وإن الله رضي العدل لنفسه¹ والإقساط والعدل ميزان الله في الأرض ، به يردّ الله من الشديد على الضعيف ، من الكاذب على الصادق ، ومن المبطل على المحقّ ، وبالعدل يصدق الصادق ، ويكذب الكاذب ، ويردّ المعتدي ، ويوبخه تعالى ربنا وتبارك ، وبالعدل يصلح الناس . يا ابن آدم إن يكن غنيا أو فقيرا ، فالله أولى بهما ، يقول : أولى بغنيكم وفقيركم . قال : وذكر لنا أن نبيّ الله موسى عليه السلام قال : يا ربّ أيّ شيء وضعت في الأرض أقلّ ؟ قال : «العدل أقلّ ما وضعت في الأرض ، فلا يمنعك غني عنيّ ولا فقر فقير أن تشهد عليه بما تعلم ، فإن ذلك عليك من الحق » . وقال جلّ ثناؤه : { فاللّهُ أوْلى بِهِما } .
وقد قيل : { إنْ يَكُنْ غَنِيّا أوْ فَقِيرا } . . . الاَية ، أريد : فالله أولى بغني الغنيّ وفقر الفقير ، لأن ذلك منه لا من غيره ، فلذلك قال «بهما » ، ولم يقل «به » .
وقال آخرون : إنما قيل «بهما » لأنه قال : { إنْ يَكُنْ غَنيّا أوْ فَقِيرا } فلم يقصد فقيرا بعينه ولا غنيا بعينه ، وهو مجهول ، وإذا كان مجهولاً جاز الردّ عليه بالتوحيد والتثنية والجمع . وذكر قائلوا هذا القول أنه في قراءة أبيّ : «فاللّهُ أوْلى بِهِمْ » .
وقال آخرون : «أو » بمعنى الواو في هذا الموضع .
وقال آخرون : جاز تثنية قوله «بهما » ، لأنهما قد ذكرا كما قيل : { ولَهُ أخٌ أوْ أُخْتٌ فِلُكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا } . وقيل : جاز لأنه أضمر فيه «مَنْ » كأنه قيل : إن يكن من خاصم غنيا أو فقيرا ، بمعنى : غنيين أو فقيرين ، فالله أولى بهما .
وتأويل قوله¹ { فَلا تَتّبعُوا الهَوَى أنْ تَعْدِلُوا } أي عن الحقّ ، فتجوروا بترك إقامة الشهادة بالحقّ . ولو وُجّه إلى أن معناه : فلا تتبعوا أهواء أنفسكم هربا من أن تعدلوا عن الحقّ في إقامة الشهادة بالقسط كان وجها . وقد قيل : معنى ذلك : فلا تتبعوا الهوى لتعدلوا ، كما يقال : لا تتبع هواك لترضي ربك ، بمعنى : أنهاك عنه كما ترضي ربك بتركه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا فإنّ اللّهَ كانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا } .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : عني : وإن تلووا أيها الحكام في الحكم لأحد الخصمين على الاَخر أو تعرضوا ، فإن الله كان بما تعملون خبيرا . ووجهوا معنى الاَية إنها نزلت في الحكام على نحو القول الذي ذكرنا عن السديّ من قوله : إن الاَية نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على ما ذكرنا قبل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد وابن وكيع ، قالا : حدثنا جرير ، عن قابوس بن أبي ظبيان ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قول الله : { وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا } قال : هما الرجلان يجلسان بين يدي القاضي ، فيكون لَيّ القاضي وإعراضه لأحدهما على الاَخر .
وقال آخرون : معنى ذلك : وإن تلووا أيها الشهداء في شهاداتكم فتحرّفوها ولا تقيموها ، أو تعرضوا عنها فتتركوها . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا } يقول : إن تلووا بألسنتكم بالشهادة أو تعرضوا عنها .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ } . . . إلى قوله : { وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا } يقول : تلوي لسانك بغير الحقّ ، وهي اللجلجة ، فلا تقيم الشهادة على وجهها . والإعراض الترك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَإنْ تَلْوُوا } : أي تبدلّوا الشهادة¹ { أوْ تُعْرِضُوا } قال : تكتموها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَإنْ تَلْوُوا } قال : بتبديل الشهادة ، والإعراض : كتمانها .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرضُوا } قال : إن تحرّفوا ، أو تتركوا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا } قال : تلجلجوا أو تكتموا¹ وهذا في الشهادة .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا } أما تلووا : فتلوي للشهادة فتحرّفها حتى لا تقيمها¹ وأما «تعرضوا » : فتعرض عنها فتكتمها وتقول : ليس عندي شهادة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { وَإنْ تَلْوُوا } فتكتموا الشهادة ، تلوي : تنقض منها ، أو تعرض عنها فتكتمها فتأبي أن تشهد عليه ، تقول : أكتم عنه لأنه مسكين أرحمه فتقول : لا أقيم الشهادة عليه ، وتقول : هذا غنيّ أبقيه وأرجو ما قَبِله فلا أشهد عليه ، فذلك قوله : { إنْ يَكُنْ غَنِيّا أوْ فَقِيرا } .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وإنْ تَلْوُوا } تحرّفوا { أوْ تُعْرِضُوا } : تتركوا .
حدثنا محمد بن عمارة ، قال : حدثنا حسن بن عطية ، قال : حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية في قوله : { وَإنْ تَلْوُوا } قال : إن تلجلجوا في الشهادة فتفسدوها ، { أوْ تُعْرِضُوا } قال : فتتركوها .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : { وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا } قال : إن تلووا في الشهادة ، أن لا تقيموها على وجهها { أوْ تُعْرِضُوا } قال : تكتموا الشهادة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، قال : حدثنا شيبان ، عن قتادة أنه كان يقول : { وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا } يعني : تلجلجوا { أوْ تُعْرِضُوا } قال : تدعها فلا تشهد .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سلمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا } أما تلووا : فهو أن يلوي الرجل لسانه بغير الحقّ ، يعني في الشهادة .
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالصواب في ذلك تأويل من تأوّله : إنه ليّ الشاهد شهادته لمن يشهد له وعليه¹ وذلك تحريفه إياها لسانه وتركه إقامتها ليبطل بذلك شهادته لمن شهد له وعمن شهد عليه . وأما إعراضه عنها ، فإنه تركه أداءها والقيام بها فلا يشهد بها . وإنما قلنا هذا التأويل أولى بالصواب ، لأن الله جلّ ثناؤه قال : { كُونُوا قَوّامينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ } فأمرهم بالقيام بالعدل شهداء ، وأظهر معاني الشهداء ما ذكرنا من وصفهم بالشهادة .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : { وَإنْ تَلْوُوا } فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار سوى الكوفة { وَإنْ تَلْوُوا } بواوين من : لو أني الرجل حقي ، والقوم يلوونني دَيْني ، وذلك إذا مَطَلوه ، لَيّا . وقرأ ذلك جماعة من قرّاء أهل الكوفة : «وَإنْ تَلُوا » بواو واحدة¹ ولقراءة من قرأ ذلك كذلك وجهان : أحدهما أن يكون قارئها أراد همز الواو لانضمامها ، ثم أسقط الهمز ، فصار إعراب الهمز في اللام إذ أسقطه ، وبقيت واو واحدة ، كأنه أراد : تلوؤا ، ثم حذف الهمز . وإذا عني هذا الوجه كان معناه معنى من قرأ : { وَإنْ تَلْوُوا } بواوين غير أنه خالف المعروف من كلام العرب ، وذلك أن الواو الثانية من قوله : { تَلْوُوا } واو جمع ، وهي علم لمعنى ، فلا يصحّ همزها ثم حذفها بعد همزها ، فيبطل علم المعنى الذي له أدخلت الواو المحذوفة . والوجه الاَخر : أن يكون قارئها كذلك ، أراد : إن تلوا ، من الولاية ، فيكون معناه : وإن تلوا أمور الناس ، أو تتركوا . وهذا معنى إذا وجه القارىء قراءته على ما وصفنا إليه ، خارج عن معاني أهل التأويل وما وجه إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون تأويل الاَية . فإذا كان فساد ذلك واضحا من كلا وجهيه ، فالصواب من القراءة الذي لا يصلح غيره أن يقرأ به عندنا : { وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا } بمعنى الليّ : الذي هو مطل ، فيكون تأويل الكلام : وإن تدفعوا القيام بالشهادة على وجهها لمن لزمكم القيام له بها ، فتغيروها ، وتبدّلوا ، أو تعرضوا عنها ، فتتركوا القيام له بها ، كما يلوي الرجل دين الرجل ، فيدافعه بأدائه إليه على ما أوجب عليه له مطلاً منه له ، كما قال الأعشى :
يَلْوِينَنِي دَيْنِي النّهارَ وأقْتَضِي ***دَيْنِي إذا وَقَذَ النُعّاسُ الرّقّدَا
وأما تأويل قوله : { فإنّ اللّهَ كانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا } فإنه أراد : فإن الله كان بما تعملون من إقامتكم الشهادة وتحريفكم إياها وإعراضكم عنها بكتمانكموها ، خبيرا ، يعني : ذا خبرة وعلم به ، يحفظ ذلك منكم عليكم حتى يجازيكم به جزاءكم في الاَخرة ، المحسن منكم بإحسانه ، والمسيء باساءته ، يقول : فاتقوا ربكم في ذلك .