ولما ذكر حال من أشرك به في الدنيا ، وأبطل هذا الشرك غاية الإبطال ، وحكم بجهل صاحبه وسفهه ، أخبر عن حالهم مع شركائهم يوم القيامة ، وأن الله يقول لهم : { نَادُوا شُرَكَائِيَ } بزعمكم أي : على موجب زعمكم الفاسد ، وإلا فبالحقيقة ليس لله شريك في الأرض ، ولا في السماء ، أي : نادوهم ، لينفعوكم ، ويخلصوكم من الشدائد ، { فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ } لأن الحكم والملك يومئذ لله ، لا أحد يملك مثقال ذرة من النفع لنفسه ولا لغيره .
{ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ } أي : بين المشركين وشركائهم { مَوْبِقًا } أي ، مهلكا ، يفرق بينهم وبينهم ، ويبعد بعضهم من بعض ، ويتبين حينئذ عداوة الشركاء لشركائهم ، وكفرهم بهم ، وتبريهم منهم ، كما قال تعالى { وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ }
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ويوم يقول} للمشركين، {نادوا شركائي}: سلوا الآلهة،
{الذين زعمتم} أنهم معي شركاء، أهم آلهة؟
{فدعوهم فلم يستجيبوا لهم}، يقول: فسألوهم، فلم يجيبوهم بأنها آلهة،
{موبقا}، يعني: واديا عميقا في جهنم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول عزّ ذكره "وَيَوْمَ يَقُولُ "الله عزّ ذكره للمشركين به الآلهة والأنداد "نادُوا شُرَكائيَ الَذِينَ زَعَمْتُمْ" يقول لهم: ادعوا الذين كنتم تزعمون أنهم شركائي في العبادة لينصروكم ويمنعوكم مني، "فَدَعَوهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ" يقول: فاستغاثوا بهم فلم يغيثوهم، "وجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقا".
فاختلف أهل التأويل في معنى ذلك؛
فقال بعضهم: معناه: وجعلنا بين هؤلاء المشركين وما كانوا يدعون من دون الله شركاء في الدنيا يومئذٍ عداوة...
وقال آخرون: معناه: وجعلنا فعلهم ذلك لهم مَهْلِكا... قال ابن زيد، في قوله: "وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقا" قال: الموبق: المهلك، الذي أهلك بعضهم بعضا فيه، أوبق بعضهم بعضا... وقال آخرون: هو اسم واد في جهنم...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب... في تأويل الموبق: أنه المهلك، وذلك أن العرب تقول في كلامها: قد أوبقت فلانا: إذا أهلكته. ومنه قول الله عزّ وجلّ: "أوْ يُوبِقْهُنّ بِمَا كَسَبُوا" بمعنى: يهلكهنّ. ويقال للمهلك نفسه: قد وبق فلان فهو يوبق وبقا... وجائز أن يكون ذلك المهلك الذي جعل الله جلّ ثناؤه بين هؤلاء المشركين هو الوادي... وجائز أن يكون العداوة...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال: {شركائي} على زعمهم، وإلا لم يكن لله شركاء. {فدعوهم} يعني دعوا الأصنام التي عبدوها {فلم يستجيبوا لهم}. قال أبو بكر الأصم: لم يجيبوهم في وقت، وقد أجابوهم في وقت آخر، وهو ما قالوا: {إن كنا عن عبادتكم لغافلين} (يونس: 29) ولكن قوله: {فلم يستجيبوا لهم} لما كانوا يعبدونها في الدنيا، وإنما كانوا يعبدونها طمعا أن يكونوا شفعاء وأنصارا كقولهم: {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} (يونس: 18) وكقولهم: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} وكقوله: {واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا} {كلا} (مريم: 81و82) فيكون قوله {فلم يستجيبوا لهم} ما طمعوا بعبادتهم الأصنام من الشفاعة والنصرة ودفع ما حل بهم عنهم والمنع عن عذاب الله،...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أَخبر تعالى عن حالهم يوم القيامة فقال واذكرْ يوم يقول الله تعالى للمشركين نادوا شركائي الذين زعمتم -على وجه التقريع والتوبيخ- واستغيثوا بهم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
عِلمَ الحقُّ -سبحانه- أَنَّ الأصنامَ لا تغني ولا تنفع ولا تضر، ولكن يعرِّفهم في العاقبة بما يُصَيِّر معارفَهم ضرورية حَسْماً لأوهام القوم؛ حيث توهموا أنّ عبادتهم للأصنام فيها نوع تقرب إلى الله على وجه التعظيم له كما قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَربُونَا إِلَى اللَّه زُلْفَى} [الزمر:3]. فإذا تحققوا بذلك صدقوا في الندم، وكان استيلاء الحسرة عليهم، وذلك من أشد العقوبات لهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وإضافة الشركاءِ إليه على زعْمِهم: توبيخاً لهم وأراد الجِنَّ... {مَّوْبِقاً}... والمعنى: عداوة هي في شِدّتها هلاكٌ... ويجوز أن يريد الملائكة وعُزَيْراً وعيسى ومريم، وبالمَوْبِق: البَرْزَخ البعيد، أي: وجعلنا بينهم أمداً بعيداً تَهلك فيه الأشواطُ لِفَرْطِ بُعْدِه؛ لأنهم في قعر جهنم وهم في أعلى الجِنان...
ولم يذكر تعالى في هذه الآية أنهم كيف دعوا الشركاء لأنه تعالى بين ذلك في آية أخرى وهو أنهم قالوا: {إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا}
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أقام البرهان القاطع على بعد رتبتهم عن المنزلة التي أحلوهم بها من الشرك، أتبعه التعريف بأنهم مع عدم نفعهم لهم في الدنيا يتخلون عنهم في الآخرة أحوج ما يكونون إليهم تخييباً لظنهم أنهم يقربونهم إلى الله زلفى، فقال تعالى عاطفاً على {إذ قلنا} عادلاً إلى مقام الغيبة، إشارة إلى بعدهم عن حضرته الشماء وتعاليه عما قد يتوهم من قوله تعالى {وعرضوا على ربك صفاً لقد جئتمونا} [الكهف: 48] في حجب الجلال والكبرياء، وجرى حمزة في قراءته بالنون على أسلوب التكلم الذي كان فيه مع زيادة العظمة: {ويوم} أي واذكر يوم {يقول} الله لهم تهكماً بهم: {نادوا شركائي} وبين أن الإضافة ليست على حقيقتها، بل هي توبيخ لهم فقال تعالى: {الذين زعمتم} أنهم شركاء {فدعوهم} تمادياً في الجهل والضلال {فلم يستجيبوا لهم} أي لم يطلبوا ويريدوا أن يجيبوهم إعراضاً عنهم استهانة بهم واشتغالاً بأنفسهم فضلاً عن أن يعينوهم. ولما كانوا في غاية الاستبعاد لأن يحال بينهم وبين معبوداتهم، قال في مظهر العظمة: {وجعلنا بينهم} أي المشركين والشركاء {موبقاً} أي هلاكاً أو موضع هلاك، فاصلاً حائلاً بينهم، مهلكاً قوياً ثابتاً حفيظاً، لا يشذ عنه منهم أحد، وإنما فسرته بذلك لأنه مثل قوله تعالى {فزيلنا بينهم} [يونس: 28] أي بالقلوب أي جعلنا ما كان بينهم من الوصلة عداوة، ومثل قوله تعالى {ربنا هؤلاء أضلونا فأتهم عذاباً ضعفاً من النار} [الأعراف: 38] {هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك} [النحل: 86] ونحوه، لأن معنى ذلك كله أنه يبدل ما كان بينهم من الود في الدنيا والوصلة ببغض وقطيعة كما قال تعالى {ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً} [العنكبوت: 25] وأن كل فريق يطلب للآخر الهلاك، فاقتضى ذلك اجتماع الكل فيه، هذا ما يرشد إلى المعنى من آيات الكتاب...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يعرض مشهد من مشاهد القيامة يكشف عن مصير الشركاء ومصير المجرمين.. إنهم في الموقف الذي لا تجدي فيه دعوى بلا برهان. والديان يطالبهم أن يأتوا بشركائهم الذين زعموا، ويأمرهم أن يدعوهم ليحضروا.. وإنهم لفي ذهول ينسون أنها الآخرة، فينادون. لكن الشركاء لا يجيبون! وهم بعض خلق الله الذين لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم شيئا في الموقف المرهوب. وقد جعل الله بين المعبودين وعبادهم مهلكة لا يجتازها هؤلاء ولا هؤلاء.. إنها النار (وجعلنا بينهم موبقا)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على جملة {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} [الكهف: 50] فيقدر: واذكر يوم يقول نادوا شركائي، أو على جملة {ما أشهدتهم خلق السموات والأرض} [الكهف: 51]، فالتقدير: ولا أشهدت شركاءهم جميعاً ولا تنفعهم شركاؤهم يوم الحشر، فهو انتقال من إبطال معبودية الشيطان والجن إلى إبطال إلهية جميع الآلهة التي عبدها دهماء المشركين مع بيان ما يعتريهم من الخيبة واليأس يومئذٍ...
واليوم الذي يقع فيه هذا القول هو يوم الحشر. والمعنى: يقول للمشركين، كما دل عليه قوله: {الذين زعمتم}، أي زعمتموهم شركائي. وقدم وصفهم بوصف الشركاء قبل فعل الزعم تهكماً بالمخاطبين وتوبيخاً لهم، ثم أردف بما يدل على كذبهم فيما ادعوا بفعل الزعم الدال على اعتقاد باطل.
والنداء: طلب الإقبال للنصرة والشفاعة.
والاستجابة: الكلام الدال على سماع النداء والأخذُ في الإقبال على المنادي بنحو قول: لبيكم.
وأمره إياهم بمناداة شركائهم مستعمل في معناه مع إرادة لازمه وهو إظهار باطلهم بقرينة فعل الزعم. ولذلك لم يسعهم إلا أن ينادوهم حيث قال {فدعوهم} لطمعهم، فإذا نادوهم تبين لهم خيبة طمعهم. ولذلك عطف فعل الدعاء بالفاء الدالة على التعقيب. وأتي به في صيغة المضي للدلالة على تعجيل وقوعه حينئذٍ حتى كأنه قد انقضى.
والموبق: مكان الوُبوق، أي الهلاكِ... والموبق هنا أريد به جهنم، أي حين دعوا أصنامهم بأسمائهم كوَّن الله فيما بين مكانهم ومكان أصنامهم فَوهات جهنم، ويجوز أن تكون جملة {وجعلنا بينهم موبقاً} جملة حال أي وقد جعلنا بينهم موبقاً تمهيداً لما بعده من قوله: {ورأى المجرمون النار} [الكهف: 53].
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لقد كُنتم تنادونهم عمراً كاملا، وكنتم تسجدون لهم، واليوم وبعد أن أحاطت بكم أمواج العذاب في ساحة الجزاء، نادوهم ليأتوا لمساعدتكم ولو لساعة واحدة فقط. هناك ينادي الأشخاص الذين لا تزال ترسبات أفكار الدنيا في عقولهم: (فدعوهم فلم يستجيبوا لهم). فلم يجيبوا على ندائهم، فكيف بمساعدتهم وإنقاذهم!! (وجعلنا بينهم موبقاً).