ثم ذكر ما أعد اللّه لهم من الثواب فقال : { وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } جامعة لكل نعيم وفرح ، خالية من كل أذى وترح ، تجري من تحت قصورها ودورها وأشجارها الأنهار الغزيرة ، المروية للبساتين الأنيقة ، التي لا يعلم ما فيها من الخيرات والبركات إلا اللّه تعالى .
{ خَالِدِينَ فِيهَا } لا يبغون عنها حِوَلًا { وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ } قد زخرفت وحسنت وأعدت لعباد اللّه المتقين ، قد طاب مرآها ، وطاب منزلها ومقيلها ، وجمعت من آلات المساكن العالية ما لا يتمنى فوقه المتمنون ، حتى إن اللّه تعالى قد أعد لهم غرفا في غاية الصفاء والحسن ، يرى ظاهرها من باطنها ، وباطنها من ظاهرها .
فهذه المساكن الأنيقة ، التي حقيق بأن تسكن إليها النفوس ، وتنزع إليها القلوب ، وتشتاق لها الأرواح ، لأنها في جنات عدن ، أي : إقامة لا يظعنون عنها ، ولا يتحولون منها .
{ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ } يحله على أهل الجنة { أَكْبَرُ } مما هم فيه من النعيم ، فإن نعيمهم لم يطب إلا برؤية ربهم ورضوانه عليهم ، ولأنه الغاية التي أمَّها العابدون ، والنهاية التي سعى نحوها المحبون ، فرضا رب الأرض والسماوات ، أكبر من نعيم الجنات .
{ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } حيث حصلوا على كل مطلوب ، وانتفى عنهم كل محذور ، وحسنت وطابت منهم جميع الأمور ، فنسأل اللّه أن يجعلنا معهم بجوده .
وإذا كان عذاب جهنم ينتظر المنافقين والكافرين ، وكانت لعنته لهم بالمرصاد ، وكان نسيانه لهم يدمغهم بالضآلة والحرمان . فإن نعيم الجنة ينتظر المؤمنين :
( جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ) . .
للإقامة المطمئنة . ولهم فوقها ما هو أكبر وأعظم :
وإن الجنة بكل ما فيها من نعيم لتتضاءل وتتوارى في هالات ذلك الرضوان الكريم .
إن لحظة اتصال باللّه . لحظة شهود لجلاله . لحظة انطلاق من حبسة هذه الأمشاج ، ومن ثقلة هذه الأرض وهمومها القريبة . لحظة تنبثق فيها في أعماق القلب البشري شعاعه من ذلك النور الذي لا تدركه الأبصار . لحظة إشراق تنير فيها حنايا الروح بقبس من روح اللّه . . إن لحظة واحدة من هذه اللحظات التي تتفق للندرة القليلة من البشر في ومضة صفاء ، ليتضاءل إلى جوارها كل متاع ، وكل رجاء . . فكيف برضوان من اللّه يغمر هذه الأرواح ، وتستشعره بدون انقطاع ?
موقع هذه الجملة بعد قوله : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } [ التوبة : 71 ] ، كموقع جملة : { وعد الله المنافقين والمنافقات } [ التوبة : 68 ] بعد قوله : { المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض } [ التوبة : 67 ] الآية . وهي أيضاً كالاستئناف البياني الناشىء عن قوله : { أولئك سيرحمهم الله } [ التوبة : 71 ] مثل قوله في الآية السابقة { يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم } [ التوبة : 21 ] الآية .
وفعل المضي في قوله : { وعد الله } إمّا لأنّه إخبار عن وَعد تقدّم في آي القرآن قُصد من الإخبار به التذكيرُ به لتحقيقه ، وإمّا أن يكون قد صيغ هذا الوعد بلفظ المضي على طريقة صِيَغ العقود مثل بِعتُ وتَصدّقتُ ، لكون تلك الصيغة معهودة في الالتزام الذي لا يَتخلّف . وقد تقدّم نظيره آنفاً في قوله : { وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم } [ التوبة : 68 ] .
والإظهار في مقام الإضمار دون أن يقال : وعَدهم الله : لتقريرهم في ذهن السامع ليتمكّن تعلّق الفعل بهم فضلَ تمكّن في ذهن السامع .
وتقدّم الكلام على نحو قوله : { جنات تجري من تحتها الأنهار } عند قوله تعالى : { وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار } في سورة البقرة ( 25 ) .
وعطفُ { ومساكن طيبة في جنات عدن } على { جنات } للدلالة على أن لهم في الجنّات قصوراً ومساكن طيّبة ، أي ليس فيها شيء من خبث المساكن من الأوساخ وآثار علاج الطبخ ونحوه نظير قوله : { ولهم فيها أزواج مطهرة } [ البقرة : 25 ] .
و ( العدن ) : الخلد والاستقرار المستمرّ ، فجنّات عدن هي الجنات المذكورة قبلُ ، فذكرها بهذا اللفظ من الإظهار في مقام الإضمار مع التفنّن في التعبير والتنويه بالجنّات ، ولذلك لم يقل : ومساكن طيبة فيها .
وجملة : { ورضوان من الله أكبر } معطوفة على جملة { وعد الله المؤمنين } . والرضوان بكسر الراء ويجوز ضمها . وكسرُ الراء لغة أهل الحجاز ، وضمّها لغة تميم . وقرأه الجمهور بكسر الراء وقرأه أبو بكر عن عاصم بضمّ الراء ونظيره بالكسر قليل في المصادر ذات الألف والنون . وهو مصدر كالرضى وزيادة الألف والنون فيه تدلّ على قوته ، كالغُفران والشكران .
والتنكير في { رضوان } للتنويع ، يدلّ على جنس الرضوان ، وإنّما لم يقرن بلام تعريف الجنس ليتوسّل بالتنكير إلى الإشعار بالتعظيم فإنّ رضوان الله تعالى عَظيم .
و { أكبرُ } تفضيل لم يذكر معه المفضَّل عليه لظهوره من المقام ، أي أكبر من الجنّات لأنّ رضوان الله أصل لجميع الخيرات . وفيه دليل على أنّ السعادات الروحانية أعلى وأشرف من الجثمانية .
و { ذلك } إشارة إلى جميع ما ذكر من الجنّات والمساكن وصفاتهما والرضواننِ الإلهي .
والقصر في { هو الفوز العظيم } قصر حقيقي باعتبار وصف الفوز بعظيم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.