90- يا أيها المصَدّقون بالله وكتبه ورسله المذعنون للحق ، ليس شرب المسكرات ، ولا لعب القمار ، ونصب الأحجار للذبح عندها تقرباً إلى الأصنام التي تعبدونها ، واتخاذ السهام والحصى والورق للتعرف بها على مغيبات القدر . . ليس كل ذلك إلا خبثاً نفسياً باطلا ، هو من تزيين الشيطان لفاعليه . . فاتركوه لكي تفوزوا في الدنيا بحياة فاضلة ، وفي الآخرة بنعيم الجنة .
{ 90 ، 91 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ }
يذم تعالى هذه الأشياء القبيحة ، ويخبر أنها من عمل الشيطان ، وأنها رجس . { فَاجْتَنِبُوهُ } أي : اتركوه { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فإن الفلاح لا يتم إلا بترك ما حرم الله ، خصوصا هذه الفواحش المذكورة ، وهي الخمر وهي : كل ما خامر العقل أي : غطاه بسكره ، والميسر ، وهو : جميع المغالبات التي فيها عوض من الجانبين ، كالمراهنة ونحوها ، والأنصاب التي هي : الأصنام والأنداد ونحوها ، مما يُنصب ويُعبد من دون الله ، والأزلام التي يستقسمون بها ، فهذه الأربعة نهى الله عنها وزجر ، وأخبر عن مفاسدها الداعية إلى تركها واجتنابها . فمنها : أنها رجس ، أي : خبث ، نجس معنى ، وإن لم تكن نجسة حسا .
والأمور الخبيثة مما ينبغي اجتنابها وعدم التدنس بأوضارها . ومنها : أنها من عمل الشيطان ، الذي هو أعدى الأعداء للإنسان .
ومن المعلوم أن العدو يحذر منه ، وتحذر مصايده وأعماله ، خصوصا الأعمال التي يعملها ليوقع فيها عدوه ، فإنها فيها هلاكه ، فالحزم كل الحزم البعد عن عمل العدو المبين ، والحذر منها ، والخوف من الوقوع فيها .
ومنها : أنه لا يمكن الفلاح للعبد إلا باجتنابها ، فإن الفلاح هو : الفوز بالمطلوب المحبوب ، والنجاة من المرهوب ، وهذه الأمور مانعة من الفلاح ومعوقة له .
ومنها : أن هذه موجبة للعداوة والبغضاء بين الناس ، والشيطان حريص على بثها ، خصوصا الخمر والميسر ، ليوقع بين المؤمنين العداوة والبغضاء .
فإن في الخمر من انغلاب العقل وذهاب حجاه ، ما يدعو إلى البغضاء بينه وبين إخوانه المؤمنين ، خصوصا إذا اقترن بذلك من السباب ما هو من لوازم شارب الخمر ، فإنه ربما أوصل إلى القتل . وما في الميسر من غلبة أحدهما للآخر ، وأخذ ماله الكثير في غير مقابلة ، ما هو من أكبر الأسباب للعداوة والبغضاء .
ومنها : أن هذه الأشياء تصد القلب ، ويتبعه البدن عن ذكر الله وعن الصلاة ، اللذين خلق لهما العبد ، وبهما سعادته ، فالخمر والميسر ، يصدانه عن ذلك أعظم صد ، ويشتغل قلبه ، ويذهل لبه في الاشتغال بهما ، حتى يمضي عليه مدة طويلة وهو لا يدري أين هو .
فأي معصية أعظم وأقبح من معصية تدنس صاحبها ، وتجعله من أهل الخبث ، وتوقعه في أعمال الشيطان وشباكه ، فينقاد له كما تنقاد البهيمة الذليلة لراعيها ، وتحول بين العبد وبين فلاحه ، وتوقع العداوة والبغضاء بين المؤمنين ، وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة ؟ " فهل فوق هذه المفاسد شيء أكبر منها ؟ "
ولهذا عرض تعالى على العقول السليمة النهي عنها ، عرضا بقوله : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } لأن العاقل -إذا نظر إلى بعض تلك المفاسد- انزجر عنها وكفت نفسه ، ولم يحتج إلى وعظ كثير ولا زجر بليغ .
وفي سياق قضية التشريع بالتحريم والتحليل ، وفي خط التربية للامة المسلمة في المدينة ، وتخليصها من جوالجاهلية ورواسبها وتقاليدها الشخصية والاجتماعية ، يجيء النص القاطع الأخير في تحريم الخمر والميسر مقرونين إلى تحريم الأنصاب والأزلام . أي إلى الشرك بالله .
( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون . إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ، فهل أنتم منتهون ؟ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين . ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ، ثم اتقوا وآمنوا ، ثم اتقوا وأحسنوا ، والله يحب المحسنين ) . .
لقد كانت الخمر والميسر والأنصاب والأزلام من معالم الحياة الجاهلية ، ومن التقاليد المتغلغلة في المجتمع الجاهلي . وكانت كلها حزمة واحدة ذات ارتباط عميق في مزاولتها ، وفي كونها من سمات ذلك المجتمع وتقاليده . . فلقد كانوا يشربون الخمر في إسراف ، ويجعلونها من المفاخر التي يتسابقون في مجالسها ويتكاثرون ؛ ويديرون عليها فخرهم في الشعر ومدحهم كذلك ! وكان يصاحب مجالس الشراب نحر الذبائح واتخاذ الشواء منها للشاربين وللسقاة ولأحلاس هذه المجالس ومن يلوذون بها ويلتفون حولها ! وكانت هذه الذبائح تنحر على الأنصاب وهي أصنام لهم كانوا يذبحون عليها ذبائحهم وينضحونها بدمها [ كما كانت تذبح عليها الذبائح التي تقدم للآلهة أي لكهنتها ! ] . . وفي ذبائح مجالس الخمر وغيرها من المناسبات الاجتماعية التي تشبهها كان يجري الميسر عن طريق الأزلام . وهي قداح كانوا يستقسمون بها الذبيحة ، فيأخذ كل منهم نصيبه منها بحسب قدحه . فالذي قدحه [ المعلى ] يأخذ النصيب الأوفر ، وهكذا حتى يكون من لا نصيب لقدحه . وقد يكون هو صاحب الذبيحة فيخسرها كلها !
وهكذا يبدو تشابك العادات والتقاليد الاجتماعية ؛ ويبدو جريانها كذلك وفق حال الجاهلية وتصوراتها الاعتقادية .
ولم يبدأ المنهج الإسلامي في معالجة هذه التقاليد في أول الأمر ، لأنها إنما تقوم على جذور اعتقادية فاسدة ؛ فعلاجها من فوق السطح قبل علاج جذورها الغاثرة جهد ضائع . حاشا للمنهج الرباني أن يفعله ! إنما بدأ الإسلام من عقدة النفس البشرية الأولى . عقدة العقيدة . بدأ باجتثاث التصور الجاهلي الاعتقادي جملة من جذورة ؛ وإقامة التصور الأسلامي الصحيح . إقامته من أعماق القاعدة المرتكزة إلى الفطرة . . بين للناس فساد تصوراتهم عن الألوهية وهداهم إلى الإله الحق . وحين عرفوا إلهم الحق بدأت نفوسهم تستمع إلى ما يحبة منهم هذا الإله الحق وما يكرهه . وما كانوا قبل ذلك ليسمعوا ! أو يطيعوا أمرا ولا نهيا ؛ وما كانوا ليقلعوا عن مألوفاتهم الجاهلية مهما تكرر لهم النهي وبذلت لهم النصيحة . . إن عقدة الفطرة البشرية هي عقدة العقيدة ؛ وما لم تنعقد هذه العقيدة أولا فلن يثبت فيها شيء من خلق أو تهذيب أو إصلاح اجتماعي . . إن مفتاح الفطرة البشرية ها هنا . وما لم تفتح بمفتاحها فستظل سراديبها مغلقة ودروبها ملتوية ، وكما كشف منها زقاق انبهمت أزقة ؛ وكلما ضاء منها جانب أظلمت جوانب ، وكلما حلت منها عقدة تعقدت عقد ، وكلما فتح منها درب سدت دروب ومسالك . . إلى ما لا نهاية . .
لذلك لم يبدأ المنهج الإسلامي في علاج رذائل الجاهلية وانحرافاتها ، من هذه الرذائل والانحرافات . . إنما بدأ من العقيدة . . بدأ من شهادة أن لاإله إلا الله . . وطالت فترة إنشاء لا إله إلا الله هذه في الزمن حتى بلغت نحو ثلاثة عشر عاما ، لم يكن فيها غاية إلا هذه الغاية ! تعريف الناس بإلههم الحق وتعبيدهم له وتطويعهملسلطانه . . حتى إذا خلصت نفوسهم لله ؛ وأصبحوا لا يجدون لأنفسهم خيرة إلا ما يختاره الله . . عندئذ بدأت التكالف - بما فيها الشعائر التعبدية - وعندئذ بدأت عملية تنقية رواسب الجاهلية الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والأخلاقية والسلوكية . . بدأت في الوقت الذي يأمر الله فيطيع العباد بلا جدال . لأنهم لا يعلمون لهم خيرة فيما يأمر الله به أو ينهى عنه أيا كان !
أو بتعبير آخر : لقد بدأت الأوامر والنواهي بعد " الإسلام " . . بعد الاستسلام . . بعد أن لم يعد للمسلم في نفسه شيء . . بعد أن لم يعد يفكر في أن يكون له إلى جانب الى أمر الله رأي أو اختيار . . أو كما يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه : " ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين " تحت عنوان : " انحلت العقدة الكبرى " : " . . انحلت العقدة الكبرى . . عقدة الشرك والكفر . . فانحلت العقد كلها ؛ وجاهدهم رسول الله [ ص ] جهاده الأول ، فلم يحتج إلى جهاد مستأنف لكل أمر أو نهي ؛ وانتصر الإسلام على الجاهلية في المعركة الأولى ، فكان النصر حليفه في كل معركة . وقد دخلوا في السلم كافة بقلوبهم وجوارحهم وأرواحهم كافة ، لا يشاقون الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى ؛ ولا يجدون في أنفسهم حرجا مما قضى ؛ ولا يكون لهم الخيرة من بعد ما أمر أو نهى . حدثوا الرسول عما اختانوا أنفسهم ؛ وعرضوا أجسادهم للعذاب الشديد إذا فرطت منهم زلة استوجبت الحد . . نزل تحريم الخمر والكؤوس المتدفقة على راحاتهم ؛ فحال أمر الله بينها وبين الشفاه المتلمظة والأكباد المتقدة ؛ وكسرت دنان الخمر فسالت في سكك المدينة " .
ومع هذا فلم يكن تحريم الخمر وما يتصل بها من الميسر أمرا مفاجئا . . فلقد سبقت هذا التحريم القاطع مراحل وخطوات في علاج هذه التقاليد الاجتماعية المتغلغلة ، المتلبسة بعادات النفوس ومألوفاتها ، والمتلبسة كذلك ببعض الجوانب الاقتصادية وملابساتها .
لقد كانت هذه هي المرحلة الثالثة أو الرابعة في علاج مشكلة الخمر في المنهج الإسلامي :
كانت المرحلة الأولى مرحلة إطلاق سهم في الاتجاه حين قال الله سبحانه في سورة النحل المكية : ( ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا . . . ) فكانت أول ما يطرق حس المسلم من وضع السكر [ وهو المخمر ] في مقابل الرزق الحسن . . فكأنما هو شيء والرزق الحسن شيء آخر .
ثم كانت الثانية بتحريك الوجدان الديني عن طريق المنطق التشريعي في نفوس المسلمين حين نزلت التي في سورة البقرة : ( يسألونك عن الخمر والميسر . قل : فيهما إثم كبير ومنافع للناس ، وإثمهما أكبر من نفعهما ) . . وفي هذا إيحاء بأن تركهما هو الأولى ما دام الاثم اكبر من النفع . إذ أنه قلما يخلو شيء من نفع ؛ ولكن حله أو حرمته إنما ترتكز على غلبة الضر أو النفع .
ثم كانت الثالثة بكسر عادة الشراب ، وإيقاع التنافر بينها وبين فريضة الصلاة حين نزلت التي في النساء ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ) . . والصلاة في خمسة أوقات معظمها متقارب ؛ ولا يكفي ما بينها للسكر ثم الإفاقة . وفي هذا تضييق لفرص المزاولة العملية لعادة الشراب - وخاصة عادة الصبوح في الصباح والغبوق بعد العصر أو المغرب كما كانت عادة الجاهليين - وفيه كسر لعادة الإدمان التي تتعلق بمواعيد التعاطي . وفيه - وهو أمر له وزنه في نفس المسلم - ذلك التناقض بين الوفاء بفريضة الصلاة في مواعيدها والوفاء بعادة الشراب في مواعيدهاثم كانت هذة الرابعة الحاسمة والأخيرة ، وقد تهيأت النفوس لها تهيؤا كاملا فلم يكن إلا النهي حتى تتبعه الطاعة الفورية والإذعان :
عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شفاء . فنزلت التي في البقرة : ( يسألونك عن الخمر والميسر ، قل : فيهما إثم كبير ومنافع للناس ، وإثمهما أكبر من نفعهما ) . فدعي عمر - رضي الله عنه - فقرئت عليه ، فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء ، فنزلت التي في النساء : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى . . )الآية . . فدعي عمر - رضي الله عنه - فقرئت عليه ، فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء . فنزلت التي في المائدة : ( إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ؛ ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ، فهل أنتم منتهون ؟ ) فدعي عمر فقرئت عليه فقال : " انتهينا . انتهينا " . . [ أخرجه أصحاب السنن ] .
ولما نزلت آيات التحريم هذه ، في سنة ثلاث بعد وقعة أحد ، لم يحتج الأمر إلى أكثر من مناد في نوادي المدينة : " ألا أيها القوم . إن الخمر قد حرمت " . . فمن كان في يده كأس حطمها ومن كان في فمه جرعة مجها ، وشقت زقاق الخمر وكسرت قنانيه . . وانتهى الأمر كأن لم يكن سكر ولا خمر !
والآن ننظر في صياغة النص القرآني ؛ والمنهج الذي يتجلى فيه منهج التربية والتوجيه :
( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون . إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ، فهل أنتم منتهون ؟ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين )
إنه يبدأ بالنداء المألوف في هذا القطاع :
لاستجاشة قلوب المؤمنين من جهة ؛ ولتذكيرهم بمقتضى هذا الإيمان من الالتزام والطاعة من جهة أخرى . . يلي هذا النداء الموحي تقرير حاسم على سبيل القصر والحصر :
( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان . . )
فهي دنسة لا ينطبق عليها وصف " الطيبات " التي احلها الله . وهي من عمل الشيطان . والشيطان عدو الإنسان القديم ؛ ويكفي أن يعلم المؤمن أن شيئا ما من عمل الشيطان لينفر منه حسه ، وتشمئز منه نفسه ، ويجفل منه كيانه ، ويبعد عنه من خوف ويتقيه !
وفي هذه اللحظة يصدر النهي مصحوبا كذلك بالإطماع في الفلاح - وهي لمسة أخرى من لمسات الإيحاء النفسي العميق :
الخطاب للمؤمنين جميعاً ، لأن هذه الأشياء شهوات وعادات قد تلبس بها في الجاهلية وغلبت على النفوس فكان بقي منها في نفوس كثير من المؤمنين{[4695]} .
فأما { الخمر } فكانت لم تحرم بعد وأما { الميسر } ففيه قمار ولذة للفارغ من النفوس ونفع أيضاً بوجه ما ، وأما { الأنصاب } وهي حجارة يذكون عندها لفضل يعتقدونه فيها ، وقيل هي الأصنام المعبودة كانوا يذبحون لها وعندها في الجاهلية . فإن كانت المرادة في هذه الآية الحجارة التي يذبح عندها فقط فذلك لأنه كان في نفس ضعفة المؤمنين شيء من تعظيم تلك الحجارة ، وهذا كما قالت امرأة الطفيل بن عمرو الدوسي لزوجها : أتخاف على الصبية من ذي الشرى شيئاً ؟ وذو الشرى صنم لدوس ، وإن كانت المرادة في هذه الآية الأصنام فإنما قرنت بهذه الأمور ليبين النقص في هذه إذ تقرن بالأصنام ، ولا يتأول أنه بقي في نفس مؤمن شيء من تعظيم الأصنام والتلبس بها حتى يقال له اجتنبه ، وأما { الأزلام } فهي الثلاثة التي كان أكثر الناس يتخذونها في أحدها «لا » وفي الآخر «نعم » ، والآخر «غفل » ، وهي التي حبسها سراقة بن جعشم حين اتبع النبي صلى الله عليه وسلم في وقت الهجرة ، فكانوا يعظمونها ، وبقي منها في بعض النفوس شيء ومن هذا القبيل هو {[4696]} الزجر بالطير وأخذ الفأل منها في الكتب ونحوه مما يصنعه الناس اليوم ، وقد يقال لسهام الميسر أزلام ، والزلم السهم وكان من الأزلام أيضاً ما يكون عند الكهان وكان منها سهام عند الأصنام وهي التي ضرب بها على عبد الله بن عبد المطلب أبي النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان عند قريش في الكعبة أزلام فيها أحكام ذكرها ابن إسحاق وغيره ، فأخبر الله تعالى أن هذه الأشياء { رجس } ، قال ابن زيد : الرجس الشر .
قال القاضي أبو محمد : كل مكروه ذميم{[4697]} ، وقد يقال للعذاب ، وقال ابن عباس في هذه الآية { رجس } سخط ، وقد يقال للنتن وللعذرة والأقذار رجس ، والرجز العذاب لا غير ، والركس العذرة لا غير ، والرجس يقال للأمرين ، وأمر الله تعالى باجتناب هذه الأمور واقترنت بصيغة الأمر في قوله { فاجتنبوه } نصوص الأحاديث وإجماع الأمة ، فحصل الاجتناب في رتبة التحريم ، فبهذا حرمت الخمر بظاهر القرآن ونص الحديث وإجماع الأمة ، وقد تقدم تفسير لفظة { الخمر } ومعناها . وتفسير { الميسر } في سورة البقرة ، وتقدم تفسير { الأنصاب } والاستقسام بالأزلام في صدر هذه السورة ، واختلف الناس في سبب نزول هذه الآيات فقال أبو ميسرة : نزلت بسبب عمر بن الخطاب فإنه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم عيوب الخمر وما ينزل بالناس من أجلها ودعا إلى الله في تحريمها ، وقال : اللهم بين لنا فيها بياناً شافياً ، فنزلت هذه الآيات ، فقال عمر انتهينا ، انتهينا{[4698]} وقال مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه سعد قال : صنع رجل من الأنصار طعاماً فدعانا فشربنا الخمر حتى انتشينا ، فتفاخرت الأنصار وقريش ، فقال كل فريق : نحن خير منكم ، فأخذ الأنصار َلْحَي جمل فضرب به أنف سعد ففزره ، فكان سعد أفزر الأنف ، قال سعد ففيّ نزلت الآية إلى آخرها{[4699]} .
وقال ابن عباس : نزل تحريم الخمر في قبيلتين من الأنصار شربوا حتى إذا ثملوا عربدوا فلما صحوا جعل كل واحد منهم يرى الأثر بوجهه ولحيته وجسده ، فيقول هذا فعل فلان بي ، فحدث بينهم في ذلك ضغائن ، فنزلت هذه الآيات في ذلك{[4700]} .
قال القاضي أبو محمد : وأمر الخمر إنما كان بتدريج ونوازل كثيرة ، منها قصة حمزة حين جبَّ الأسنمة ، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم : وهل أنتم إلا عبيد أبي{[4701]} ، ومنها قراءة علي بن أبي طالب في صلاة المغرب «قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون » فنزلت { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } الآية{[4702]} ، ثم لم تزل النوازل تحزب{[4703]} الناس بسببها حتى نزلت هذه الآية ، فحرمت بالمدينة وخمر العنب فيها قليل ، إنما كانت خمرهم من خمسة أشياء من العسل ومن التمر ومن الزبيب ومن الحنطة ومن الشعير ، والأمة مجمعة على تحريم القليل والكثير من خمر العنب التي لم تمسها نار ولا خالطها شيء ، وأكثر الأمة على أن ما أسكر كثيره فقليله حرام ولأبي حنيفة وبعض فقهاء الكوفة إباحة ما لا يسكر مما يسكر كثيره من غير خمر العنب ، وهو مذهب مردود ، وقد خرج قوم تحريم الخمر من وصفها برجس وقد وصف تعالى في آية أخرى الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير بأنها رجس ، فيجيء من ذلك أن كل رجس حرام .
قال القاضي أبومحمد : وفي هذا نظر ، والاجتناب أن يجعل الشيء جانباً أو ناحية .
..قال مالك: الميسر، ميسران: ميسر اللهو، وميسر القمار، فمن ميسر اللهو النرد والشطرنج، والملاهي كلها. وميسر القمار، هو ما يتخاطر الناس عليه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
هذا بيان من الله تعالى ذكره للذين حرّموا على أنفسهم النساء والنوم واللحم من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم تشبها منهم بالقسيسين والرهبان، فأنزل الله فيهم على نبيه صلى الله عليه وسلم كتابه، ينهاهم عن ذلك، فقال:"يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرّمُوا طَيّباتِ ما أحَلّ اللّهُ لَكُمْ" فنهاهم بذلك عن تحريم ما أحلّ الله لهم من الطيبات. ثم قال: ولا تعتدوا أيضا في حدودي، فتحلوا ما حرّمت عليكم، فإن ذلك لكم غير جائز كما غير جائز لكم تحريم ما حللت، وإني لا أحبّ المعتدين. ثم أخبرهم عن الذي حرّم عليهم مما إذا استحلوه، وتقدّموا عليه كانوا من المعتدين في حدوده، فقال لهم: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، إن الخمر التي تشربونها والميسر الذي تتياسرونه والأنصاب التي تذبحون عندها والأزلام التي تستقسمون بها "رِجْسٌ "يقول: إثم ونَتْن، سخِطه الله وكرهه لكم "مِنْ عَمَلِ الشّيْطَانِ" يقول: شربكم الخمر، وقماركم على الجُزُر، وذبحكم للأنصاب، واستقسامكم بالأزلام من تزيين الشيطان لكم، ودعائه إياكم إليه، وتحسينه لكم، لا من الأعمال التي ندبكم إليها ربكم، ولا مما يرضاه لكم، بل هو مما يسخطه لكم. "فاجْتَنِبُوهُ" يقول: فاتركوه وارفضوه، ولا تعملوه. "لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ" يقول: لكي تنجحوا فتدركوا الفلاح عند ربكم، بترككم ذلك. وقد بينا معنى الخمر والميسر والأزلام فيما مضى فكرهنا إعادته. وأما الأنصاب، فإنها جمع نصب، وقد بينا معنى النصب بشواهده فيما مضى.
عن ابن عباس، قوله: "رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطانِ" يقول: سخط.
قال ابن زيد في قوله: "رِجْسٌ مِنَ عَمَلِ الشّيْطانِ" قال: الرجس: الشرّ.
اقتضت هذه الآية تحريم الخمر من وجهين: أحدهما قوله: {رِجْسٌ} لأن الرجس اسمٌ في الشرع لما يلزم اجتنابه؛ ويقع اسمُ الرجس على الشي المستقذر النّجس، وهذا أيضاً يلزم اجتنابه، فأوجب وَصْفُهُ إياها بأنها رجسٌ لُزُومَ اجتنابها. والوجه الآخر: قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوهُ} وذلك أمْرٌ يقتضي الإيجاب، فانتظمت الآية تحريم الخمر من هذين الوجهين. والخمرُ هي عصير العنب النيّ المشتدّ، وذلك متفقٌ عليه أنه خمر. وقد سُمِّي بعض الأشربة المحرمة باسم الخمر تشبيهاً بها، مثل الفضيخ وهو نقيع البسر ونقيع التمر، وإن لم يتناولهما اسم الإطلاق...
وأما قوله: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}. فإن الرجس هو الذي يلزم اجتنابه إما لنجاسته وإما لقبح ما يُفْعل به من عبادة أو تعظيم، لأنه يقال:"رجس نجس" فيراد بالرجس النجس، ويُتبع أحدهما الآخر،...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وفي الآية دلالة على تحريم الخمر، وهذه الأشياء الأربعة من أربعة أوجه: أحدها: أنه وصفها بأنها رجس وهي النجس، والنجس محرم بلا خلاف. الثاني: نسبها إلى عمل الشيطان وذلك لا يكون إلا محرما. والثالث: أنه أمرنا باجتنابه، والأمر يقتضي الإيجاب. الرابع: أنه جعل الفوز والفلاح باجتنابه. والهاء في قوله "فاجتنبوه "راجعة إلى عمل الشيطان، وتقديره اجتنبوا عمل الشيطان.
جهود ابن عبد البر في التفسير 463 هـ :
لا خلاف بين علماء المسلمين، أن سورة المائدة نزلت بتحريم الخمر، وهي مدنية، من آخر ما نزل بالمدينة، وذلك قول الله- عز وجل-: {يا أيها الذين ءامنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه}، ثم قال: {فهل أنتم منتهون}، فنهى عنها، وأمر باجتنابها، كما قال: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} 544. (ت: 1/246) 207- لا خلاف بين علماء المسلمين أن تحريمها إنما ورد في سورة المائدة بلفظ النهي في قوله عز وجل: {إنما الخمر والميسر}، إلى {فاجتنبوه لعلكم تفلحون}، وإلى: {فهل أنتم منتهون}، وهذه الآية نسخت ما جرى من ذكرها في سورة البقرة 545، وسورة النساء 546، وسورة النحل 547.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أكد تحريم الخمر والميسر وجوهاً من التأكيد منها تصدير الجملة بإنما، ومنها أنه قرنهما بعبادة الأصنام، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام « شارب الخمر كعابد الوثن» ومنها أنه جعلهما رجساً، كما قال تعالى: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] ومنها أنه جعلهما من عمل الشيطان، والشيطان لا يأتي منه إلا الشر البحت، ومنها أنه أمر بالاجتناب. ومنها أنه جعل الاجتناب من الفلاح، وإذا كان الاجتناب فلاحاً، كان الارتكاب خيبة ومحقة. ومنها أنه ذكر ما ينتج منهما من الوبال، وهو وقوع التعادي والتباغض من أصحاب الخمر والقمر، وما يؤدّيان إليه من الصدّ عن ذكر الله، وعن مراعاة أوقات الصلاة...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
الخطاب للمؤمنين جميعاً، لأن هذه الأشياء شهوات وعادات قد تلبس بها في الجاهلية وغلبت على النفوس فكان بقي منها في نفوس كثير من المؤمنين 549. فأما {الخمر} فكانت لم تحرم بعد وأما {الميسر} ففيه قمار ولذة للفارغ من النفوس ونفع أيضاً بوجه ما، وأما {الأنصاب} وهي حجارة يذكون عندها لفضل يعتقدونه فيها، وقيل هي الأصنام المعبودة كانوا يذبحون لها وعندها في الجاهلية. فإن كانت المرادة في هذه الآية الحجارة التي يذبح عندها فقط فذلك لأنه كان في نفس ضعفة المؤمنين شيء من تعظيم تلك الحجارة...
. واختلف الناس في سبب نزول هذه الآيات فقال أبو ميسرة: نزلت بسبب عمر بن الخطاب فإنه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم عيوب الخمر وما ينزل بالناس من أجلها ودعا إلى الله في تحريمها، وقال: اللهم بين لنا فيها بياناً شافياً، فنزلت هذه الآيات، فقال عمر انتهينا، انتهينا وقال ابن عباس: نزل تحريم الخمر في قبيلتين من الأنصار شربوا حتى إذا ثملوا عربدوا فلما صحوا جعل كل واحد منهم يرى الأثر بوجهه ولحيته وجسده، فيقول هذا فعل فلان بي، فحدث بينهم في ذلك ضغائن، فنزلت هذه الآيات في ذلك. قال القاضي أبو محمد: وأمر الخمر إنما كان بتدريج ونوازل كثيرة، منها قصة حمزة حين جبَّ الأسنمة، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: وهل أنتم إلا عبيد أبي، ومنها قراءة علي بن أبي طالب في صلاة المغرب «قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون» فنزلت {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} الآية، ثم لم تزل النوازل تحزب الناس بسببها حتى نزلت هذه الآية، فحرمت بالمدينة وخمر العنب فيها قليل، إنما كانت خمرهم من خمسة أشياء من العسل ومن التمر ومن الزبيب ومن الحنطة ومن الشعير، والأمة مجمعة على تحريم القليل والكثير من خمر العنب التي لم تمسها نار ولا خالطها شيء، وأكثر الأمة على أن ما أسكر كثيره فقليله حرام ولأبي حنيفة وبعض فقهاء الكوفة إباحة ما لا يسكر مما يسكر كثيره من غير خمر العنب، وهو مذهب مردود، وقد خرج قوم تحريم الخمر من وصفها برجس وقد وصف تعالى في آية أخرى الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير بأنها رجس، فيجيء من ذلك أن كل رجس حرام، وفي هذا نظر. والاجتناب أن يجعل الشيء جانباً أو ناحية.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
.. وَأَمَّا الْمَيْسِرُ: فَهُوَ شَيْءٌ مُحَرَّمٌ لَا سَبِيلَ إلَى عَمَلِهِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهِ؛ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَمُوتَ ذِكْرُهُ وَيُمْحَى رَسْمُهُ.
وَهُوَ النَّجَسُ، وَقَدْ رُوِيَ فِي صَحِيحِ حَدِيثِ الِاسْتِنْجَاءِ (أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُتِيَ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ، فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ، وَقَالَ: إنَّهَا رِكْسٌ} أَيْ نَجَسٌ.
وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ إلَّا مَا يُؤْثَرُ عَنْ رَبِيعَةَ أَنَّهُ قَالَ: إنَّهَا مُحَرَّمَةٌ، وَهِيَ طَاهِرَةٌ، كَالْحَرِيرِ عِنْدَ مَالِكٍ مُحَرَّمٌ، مَعَ أَنَّهُ طَاهِرٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: (أَعُوذُ بِاَللَّهِ من الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، الرِّجْسِ النَّجِسِ، الْخَبِيثِ الْمُخْبِثِ).
وَيُعَضِّدُ ذَلِكَ من طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّ تَمَامَ تَحْرِيمِهَا وَكَمَالَ الرَّدْعِ عَنْهَا الْحُكْمُ بِنَجَاسَتِهَا حَتَّى يَتَقَذَّرَهَا الْعَبْدُ، فَيَكُفُّ عَنْهَا، قُرْبَانًا بِالنَّجَاسَةِ وَشُرْبًا بِالتَّحْرِيمِ، فَالْحُكْمُ بِنَجَاسَتِهَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ.
قَوْله تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوهُ}: يُرِيدُ أَبْعِدُوهُ، وَاجْعَلُوهُ نَاحِيَةً؛ وَهَذَا أَمْرٌ بِاجْتِنَابِهَا، وَالْأَمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ عُلِّقَ بِهِ الْفَلَاحُ.
أحكام القرآن لابن الفرس 595 هـ :
وهذه الآية أبين آية في القرآن في تحريم الخمر؛ لأن كل آية سواها تحتمل التحليل والتحريم للخمر، وهذه الآية لا تحتمل إلا التحريم، فالخمر محرمة بالقرآن عند جميع أهل السنة، إلا أنهم اختلفوا هل بنص من القرآن أم بدليل؟ والذين ادعوا النص ادعوه في ثلاثة مواضع أحدها في هذه الآية، قالوا: لأنه تعالى أمر باجتنابها وتوعد على استباحتها وقرنها بالميسر والأنصاب والأزلام، وهذا قول ضعيف؛ لأن ما يحتمل التأويل ليس بنص. وهذه الآية لولا ما اقترن بها من القرآن لكانت تحتمل الكراهة والتحريم، وما كان هكذا فليس بنص، وإنما هو دليل. والثاني: أن النص على تحريمها قائم في هذه الآية وفي الأنعام: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس} [الأنعام: 145]، قالوا: فسماها في آية المائدة رجسا ثم نص على تحريم الرجس في آية الأنعام. ودعوى النص على تحريمها في هذا باطل؛ لأن الرجس مشترك والألفاظ المشتركة لا يدعى فيها ولو لم يكن لفظا مشتركا، وكان اسما لشيء واحد لما كان ذلك نصا؛ لأنه تعالى سمى في آية المائدة الخمر وما ساق معها رجسا ثم حرم في آية الأنعام أشياء وسماها رجسا، فغاية ما في هذا أن اسم رجس يعم هذه الأشياء. ويحتمل أن يحرم الله تعالى بعض الرجس ولا يحرم بعضه. وقد يمكن أن يجعل هذا دليلا على التحريم- وهو ضعيف- وذلك بأنه جعل قوله تعالى: {فإنه رجس} تعليلا للتحريم أي حرمت هذه الأشياء لأنها رجس، فإذا كان الرجس علة التحريم فحيث وجدناها أصحبناها الحكم وهو التحري، وقد وجدناها في الخمر، لأنه تعالى قد سماها رجسا، فقد وجدت فيها العلة فينبغي أن يجري عليها هذا الحكم. ووجه الضعف في هذا القول أن الرجس الذي علل به التحريم لا يقطع بأنه الذي سميت به الخمر لأنه اسم مشترك. والثالث في آية البقرة وآية الأعراف، لأنه قال في البقرة: {قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس} [البقرة: 219]، فجعل الخمر إثما ثم نص على تحريم الخمر في الأعراف فقال: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم} [الأعراف: 33]، ودعوى النص على التحريم في هذا أيضا باطل لأنه تعالى قد سماها رجسا، فقد وجدت فيها العلة فينبغي أن يجري عليها الحكم. ولم يسم الخمر في آية البقرة إثما ثم حرمه في آية الأعراف، وإنما قال إن في الخمر إثما فالإثم غير الخمر، فتحريم الإثم لا يلزم به تحريم الخمر، بل لو سماها إثما ثم حرم الإثم لم يكن نصا لأن قوله "والإثم "لفظ عام يحتمل التخصيص، فالنص بعيد منه، وغاية ما في ذلك أن يكون دليلا ما، وهو ضعيف. والذين لم يروا نصا في القرآن على تحريم الخمر ورأوا أن تحريمها إنما هو بدليل منه، انتزعوا الأدلة من مواضع أثبتتها هذه الآية، لأن الأمر إذا ورد احتمل عند العلماء الوجوب والندب والإباحة. وهذا ما لم تقترن به قرينة، فإذا اقترنت به قرينة تدل على أحد الثلاثة الأشياء حمل عليها بلا خلاف منهم، وهذا الأمر بالاجتناب في هذه الآية قد اقترنت به قرائن تدل على أن المراد به إيجاب اجتناب الخمر وهي ما ورد بعقب الآية من ذم الرجس الذي سمى به الخمر ونسبته إلى الشيطان، والتوعد على إتيانه فيجب حمل الأمر على الإيجاب...
وقوله: {رجس}: اختلف في تأويله، فقيل: النتن، وقيل: السحت، وقيل: النجس، وبهذا استدل من يذهب إلى أن الخمر نجس، وهو قول الجمهور. فذهب بعضهم إلى أنها غير نجس،...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{إنما الخمر} وهي كل ما أسكر سواء فيه قليله وكثيره، وأضاف إليها ما واخاها في الضرر ديناً ودنيا وفي كونه سبباً للخصام وكثرة اللغط المقتضي للحلف والإقسام تأكيداً لتحريم الخمر بالتنبيه على أن الكل من أفعال الجاهلية، فلا فرق بين شاربها والذابح على النصب والمعتمد على الأزلام فقال: {والميسر} أي الذي تقدم ذكره في البقرة {والأنصاب والأزلام} المتقدم أيضاً ذكرُهما أول السورة، والزلم: القدح لا ريش له -قاله البخاري؛ وحكمة ترتيبها هكذا أنه لما كانت الخمر غاية في الحمل على إتلاف المال، قرن بها ما يليها في ذلك وهو القمار، ولما كان الميسر مفسدة المال، قرن به مفسدة الدين وهي الأنصاب، ولما كان تعظيم الأنصاب شركاً جلياً إن عبدت، وخفياً إن ذبح عليها دون عبادة، قرن بها نوعاً من الشرك الخفي وهو الاستقسام بالأزلام: ثم أمر باجتناب الكل إشارة وعبارة على أتم وجه فقال: {رجس} أي قذر أهل لأن يبعد عنه بكل اعتبار حتى عن ذكره سواء كان عيناً أو معنى، وسواء كانت الرجسية في الحس أو المعنى، ووحد الخبر للنص على الخمر والإعلام بأن أخبار الثلاثة حذفت وقدرت، لأنها أهل لأن يقال في كل واحد منها على حدتها كذلك، ولا يكفي عنها خبر واحد على سبيل الجمع؛ ثم زاد في التنفير عنها تأكيداً لرجسيتها بقوله: {من عمل الشيطان} أي المحترق البعيد، ثم صرح بما اقتضاه السياق من الاجتناب فقال: {فاجتنبوه} أي تعمدوا أن تكونوا عنه في جانب آخر غير جانبه. وأفرد لما تقدم من الحِكَم، ثم علل بما يفهم أنه لا فوز بشيء من المطالب مع مباشرتها فقال: {لعلكم تفلحون} أي تظفرون بجميع مطالبكم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
والحكمة في تحريم الخمر بالتدريج أن الناس كانوا مفتونين بها حتى أنها لو حرمت في أول الإسلام لكان تحريمها صارفا لكثير من المدمنين لها عن الإسلام بل عن النظر الصحيح المؤدي إلى الاهتداء به لأنهم حينئذ ينظرون إليه بعين السخط فيرونه بغير صورته الجميلة، فكان من لطف الله تعالى وبالغ حكمته أن ذكرها في سورة البقرة بما يدل على تحريمها دلالة ظنية فيها مجال للاجتهاد ليتركها من لم تتمكن فتنتها من نفسها (راجع ج 2) وذكرها في سورة النساء بما يقتضي تحريمها في الأوقات القريبة من وقت الصلاة، إذ نهى عن قرب الصلاة في حال السكر. فلم يبق للمصر على شربها إلا الاغتباق بعد صلاة العشاء وضرره قليل. وكذا الصبوح من بعد صلاة الفجر لمن لا عمل له ولا يخشى أن يمتد سكره إلى وقت الظهر، وقليل ما هم. وكان شيخنا يرى أن آية النساء نزلت قبل آية البقرة. ثم تركهم الله تعالى على هذه الحال زمنا قوي فيه الدين، ورسخ اليقين، وكثرت الوقائع التي ظهرت لهم بها إثم الخمر وضررها، ومنه كل ما ذكر في سبب نزول هذه الآيات.
أخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت في البقرة {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس} [البقرة: 219] شربها قوم لقوله «منافع للناس» وتركها قوم لقوله «إثم كبير» منهم عثمان بن مظعون. حتى نزلت الآية التي في النساء {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} [النساء: 43] فتركها قوم وشربها قوم يتركونها بالنهار حين الصلاة ويشربونها بالليل، حتى نزلت الآية التي في المائدة {إنما الخمر والميسر} الآية قال عمر: أقرنت بالميسر والأنصاب والأزلام؟ بعدا لك وسحقا. فتركها الناس، ووقع في صدور أناس من الناس منها، فجعل قوم يمر (؟) بالرواية من الخمر فتخرق فيمر بها أصحابها فيقولون: قد كنا نكرمك عن هذا المصرع. وقالوا ما حرم علينا شيء أشد من الخمر، حتى جعل الرجل يلقى صاحبه فيقول: إن في نفسي شيئا. فيقول صاحبه: لعلك تذكر الخمر!فيقول نعم، فيقول إن في نفسي مثل ما في نفسك،حتى ذكر ذلك قوم واجتمعوا فيه فقالوا: كيف نتكلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد (أي حاضر) وخافوا أن ينزل فيهم (أي قرآن) فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أعدوا له حجة فقالوا: أرأيت حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعبد الله بن جحش. أليسوا في الجنة؟ قال «بلى» قالوا: «أليسوا قد مضوا وهم يشربون الخمر؟ فحرم علينا شيء دخلوا الجنة وهم يشربونه؟ فقال قد سمع الله ما قلتم فإن شاء أجابكم» فأنزل الله {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون}؟ فقالوا انتهينا. ونزل في الذين ذكروا حمزة وأصحابه {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا} [المائدة: 93] الآية، ولأصحاب التفسير المأثور روايات أخرى في سبب النزول وما كان من اجتهاد بعض الصحابة في آيتي البقرة والنساء. وقد بين وجهه في تفسير آية البقرة. ومنه حديث لأبي هريرة وآثار سيأتي بعضها في سياق تفسير الآيات: {يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان} (الخمر) كل شراب مسكر، وهذه التسمية لغوية وشرعية. وقيل شرعية فقط. وهو قول ضعيف، وقيل إن الخمر ما اعتصر من ماء العنب إذا اشتد. وهذا أضعف مما قبله ولا دليل على هذا الحصر من اللغة ولا من الشرع، وقد بينا ذلك في تفسير آية البقرة (ج2).
ومن أحسن ما رد به على أصحاب هذا القول وأخصره قول القرطبي: الأحاديث الواردة عن أنس وغيره على صحتها وكثرتها تبطل مذهب الكوفيين القائلين بأن الخمر لا يكون إلا من العنب، وما كان من غيره لا يسمى خمرا ولا يتناوله اسم الخمر. وهو قول مخالف للغة العرب وللسنة الصحيحة وللصحابة، لأنهم لما نزل تحريم الخمر فهموا من الأمر بالاجتناب تحريم كل ما يسكر ولم يفرقوا بين ما يتخذ من العنب وبين ما يتخذ من غيره، بل سووا بينهما وحرموا كل ما يسكر نوعه ولم يتوقفوا ولم يستفصلوا ولم يشكل عليهم شيء من ذلك. بل بادروا إلى إتلاف ما كان من غير عصير العنب، وهم أهل اللسان، وبلغتهم نزل القرآن، فلو كان عندهم تردد لتوقفوا عن الإراقة حتى يستفصلوا ويتحققوا التحريم. وقد أخرج أحمد في مسنده عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من الحنطة خمر ومن الشعير خمر ومن التمر خمر ومن الزبيب خمر ومن العسل خمر» 284 وروي أيضا أنه خطب عمر على المنبر وقال: ألا إن الخمر قد حرمت وهي من خمسة: من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل 285 -وهو في الصحيحين وغيرهما – وهو (أي عمر) من أهل اللغة اه.
وقد تعقب هذا بعضهم بأنه يحتمل أن يكون بيانا للإسلام الشرعي لا اللغوي، وهذا التعقيب ضعيف ولا يغني عن الحنفية شيئا، لأنهم لا يقولون إن المسكر من غير عصير العنب خمر داخل في عموم الآية شرعا. ووجه ضعفه أن لفظ الخمر ليس اسما لعمل شرعي لم يكن معروفا قبل الشرع فلما جاء به الشرع أطلق عليه كلمة من اللغة تتناوله بطريق المجاز، بل هو اسم لنوع من الشراب يمتاز عن سائر الأشربة بالإسكار. وهذه التسمية معروفة عنهم قبل نزول ما نزل من الآيات في الخمر. وقد نزلت آية البقرة جوابا عن سؤال سألوه عن الخمر، ولم يقل أحد من مفسري السلف ولا الخلف ولا خطر على بال أحد أنهم سألوه صلى الله عليه وسلم عن خمر عصير العنب خاصة، وأنها هي المقصودة بالجواب بأن فيها إثما كبيرا ومنافع للناس، وإن غيرها ألحق بها في التحريم بطريق القياس، أو بتفسير النبي والصحابة للخمر الشرعية.
وقد بينا فيما أوردناه آنفا من أسباب النزول أنه لم يشق عليهم تحريم شيء كما شق عليهم تحريم الخمر، وإن بعضهم كان يود لو يجد مخرجا من تحريمها كما وجد المخرج من آية البقرة الدالة على تحريم الخمر بتسميتها إثما مع تصريح القرآن قبل ذلك بتحريم الإثم، ولأجله تركها بعضهم، وتفصى منه آخرون بتخصيص الإثم بما كان ضررا محضا لا منفعة فيه، والنص قد أثبت أن في الخمر منافع. وقد أهرقوا ما كان عندهم من الخمر عند الجزم بالنهي عنها كما رأيت وكما ترى بعد، وقلما كان يوجد عندهم من خمر العنب شيء. فلو كان مسمى الخمر في لغتهم ما كان مسكرا من عصير العنب فقط لما بادروا إلى إهراق ما كان عندهم.
روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر أنه قال: نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة ما فيها من شراب العنب شيء. وروى أحمد والبخاري ومسلم في صحيحهما عن أنس قال: كنت أسقي أبا عبيدة بن الجراح وأبي بن كعب وسهيل ابن بيضاء ونفر من أصحابه عند أبي طلحة (هو زوج أم أنس) حتى كاد الشراب يأخذ منهم فأتى آت من المسلمين فقال: أما شعرتم أن الخمر قد حرمت؟ فقالوا حتى ننظر ونسأل. فقالوا يا أنس أسكب ما بقي في إنائك، فوالله ما عادوا فيها، وما هي إلا التمر والبسر، وهي خمرهم يومئذ. هذا لفظ أحمد. وزاد أنس في رواية أخرى أبا دجانة ومعاذ بن جبل في رهط من الأنصار. وفي روايات الصحيحين أنه كان يسقيهم الفضيخ، وهو شراب البسر والتمر يفضخان أي يشدخان وينبذان في الماء، فإذا اشتد واختمر كان خمرا، وكان هذا أكثر خمر المدينة كما صرح به أنس. وفي رواية لمسلم عنه: كنت ساقي القوم يوم حرمت الخمر في بيت أبي طلحة – وما شرابهم إلا الفضيخ البسر والتمر – فإذا مناد ينادي، فقال اخرج فانظر، فخرجت فإذا مناد ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت. قال فجرت في سكك المدينة. فقال أبو طلحة: اخرج فأهرقها، فهرقتها. الحديث.
نعم قد روى النسائي بسند رجاله ثقات عن ابن عباس مرفوعا «حرمت الخمر قليلها وكثيرها والسكر من كل شراب» وقد اختلف في وصله وانقطاعه وفي رفعه ووقفه. وبين النسائي علله ومن خالف فيه. ومعناه على تقدير صحته والاحتجاج به أن الشربة التي شأنها أن يسكر قليلها وكثيرها محرمة لذاتها بالنص سواء كانت من العنب أو الزبيب أو التمر أو البسر أو غير ذلك، وأما سائر الأشربة التي ليس من شأنها الإسكار كالنبيذ الذي لم يشتد ولم يختمر وهو ما ينبذ من تمر أو زبيب أو غيرهما في الماء حتى ينضح ويحلو ماؤه فشربه حلال ما لم يصل إلى حد الإسكار، ومن المعلوم أن الأنبذة يسرع إليها الاختمار في بعض البلاد كالحارة وبعض الأواني كالقرع والمزفت، وإن من الناس من يسكر بها عند أدنى تغير يعرض لها أو إذا أكثر منها وإن لم تختمر، ولأجل هذا اختلف العلماء في النبيذ فذهب الجمهور إلى أنه إذا صار يسكر الكثير منه فشرب القليل منه يكون حراما لسد ذريعة السكر، وهو إنما يسكر كثيره إذا تغير ولو بحموضة قليلة. وذهب بعضهم إلى أنه لا يحرم منه حينئذ إلا المقدار المسكر، لأنه لا يسمى خمرا فيتناوله النص، فإذا كان ما يشرب منه لم يسكر فلا وجه لقياسه على الخمر، فإن صار بحيث يسكر فهو خمر لغة وشرعا كما هو المتبادر من فهم الصحابة للآية ومن تعليل عمر في خطبته لتسمية الخمر بأنها ما خامر العقل، أو شرعا فقط، ودلالة الحقيقة الشرعية أقوى من دلالة الحقيقة اللغوية في الأحكام.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «كل مسكر خمر وكل مسكر حرام» رواه مسلم وأبو داود والترمذي من حديث ابن عمر. وفي رواية لمسلم والدارقطني «كل مسكر خمر وكل خمر حرام».
وقد غلط ابن سيده في اقتصاره على قول صاحب العين: الخمر عصير العنب إذا أسكر، ولعل سبب ذلك أن خمرة العنب كانت كثيرة في زمن تدوين اللغة فظن بعضهم أن الإطلاق ينصرف إليها لكثرتها وجودتها. ونقل الصحيحين والمسانيد والسنن بيان معنى الخمر عن الصحابة أصح من نقل جميع اللغويين للغة.
ولما لم يجد من اطلع من الحنفية على الأحاديث السابقة ونحوها تفصيا منها للاتفاق على صحة الكثير منها حملوا إطلاق لفظ الخمر فيها على المسكر من غير العنب على مجاز التشبيه كما في فتح القدير، واستدلوا على ذلك بما رواه البخاري عن ابن عمر قال لقد «حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء» وهذه العبارة مبهمة لا يعرف لمن قالها وبأي مناسبة قالها، فيحتمل أن يكون بعض الناس قد ذكر خمرة العنب فقال ابن عمر ما معناه أن الخمر لما حرمت لمن يكن يوجد في المدينة شيء من خمرة العنب وإنما كانت خمور أهلها من التمر والبسر في الغالب. ويحتمل أن يكون معنى كلامه أن الله حرم الخمر ولأجل هذا لا يوجد في المدينة منها شيء. وبهذا يجمع بين سائر الأحاديث والآثار التي تقدم بعضها حتى عنه وعن أبيه، وإلا كانت متعارضة، ولما كانت العبارة محتملة لعدة وجوه سقط الاستدلال بها على ما قالوه. ولا يمكن الجمع بينها وبين ما عارضها بحمل ما خالفها على المجاز، لأن تلك العبارات تأبى أن تكون تشبيها كقول عمر في خطبته: ونزل تحريم الخمر وهي من خمسة – العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والخمر ما خامر العقل. فهل يمكن أن يقال نزل تحريم خمرة العنب وهي من خمسة أشياء الخ؟ أم يمكن أن يقال: نزل تحريم ما يشبه الخمر في الإسكار وهو في خمسة أشياء العنب والتمر؟ ألا إن هذا لا يقوله أحد يفهم العربية، وإن كان يجيز الجمع بين الحقيقة والمجاز، وهو ما لا يجيزه الحنفية.
أطلنا هذه الإطالة في بيان حقيقة الخمر، لأنه قد ظهر في الناس من عهد بعيد مصداق ما ورد في الحديث من استحلال أناس لشرب الخمر بتسميتها بغير اسمها. وقد اخترع الناس بعد زمن التنزيل أنواعا كثيرة من الخمور أشد من خمرة العنب ضررا في الجسم والعقل باتفاق الأطباء، وأشد إيقاعا في العداوة والبغضاء، وصدا عن ذكر الله وعن الصلاة. والقول بأنه لا يحرم منها قطعا إلا ما كان من عصير العنب، وأنه إنما يحرم القدر المسكر منه فقط. يجرئ الناس على شرب القليل من تلك السموم المهلكة، والقليل يدعو إلى الكثير فالإدمان فالإهلاك، ففي هذا القول مفسدة عظيمة، وليس في تضعيفه وترجيح قول جمهور السلف والخلف عليه إلا المصلحة الراجحة، وسد ذرائع شرور كثيرة.
وأما الميسر فهو في أصل اللغة القمار بالقداح في كل شيء كما نقله لسان العرب عن عطاء ثم غلب في كل مقامرة. وقد بينا الأقوال في اشتقاقه في تفسير آية لبقرة (ج 2) وبينا هنالك معنى القداح التي كانوا يتقامرون بها وهي الأزلام والأقلام والسهام ولذلك عدنا إلى بيانها والفرق بين القداح العشر التي يتقامرون بها وبين ما كانوا يستقسموه به للتفاؤل والتشاؤم في تفسير الآية الثالثة من سورة المائدة (ج 6).
كل قمار ميسر محرم بالنص إلا ما أباحه الشرع من المراهنة في السباق والرماية. وقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال الشطرنج من الميسر. رواه ابن أبي حاتم. وروي أيضا عن عطاء ومجاهد وطاوس أو اثنين منهم – قالوا كل شيء من القمار فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز. وروي عن رشدين بن سعد وضمرة بن حبيب قالا: حتى الكعاب والجوز والبيض التي تلعب بها الصبيان، وعن ابن عمر: الميسر هو القمار، وعن ابن عباس: الميسر هو القمار كانوا يتقامرون في الجاهلية إلى مجيء الإسلام فنهاهم الله عن هذه الأخلاق القبيحة. وعن سعيد بن المسيب: كان ميسر أهل الجاهلية بيع اللحم بالشاة والشاتين (أي من ميسرهم) ذكر ذلك الحافظ ابن كثير في تفسيره.
ثم ذكر حديث أبي موسى الأشعري عند ابن أبي حاتم «اجتنبوا هذه الكعاب الموسومة التي يزجر بها زجرا فإنها من الميسر» وقال حديث غريب وفسر الكعاب بالنرد. وأقول الحديث ضعيف وهو من طريق عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن يزيد، وعلي هذا ضعيف وضعفوا عثمان في رواية عنه.
ثم ذكر حديث بريدة بن الحصيب الأسلمي «من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه» رواه مسلم: ولعل الحكمة في تشبيه اللعب به بما ذكر أن المقامرة به كالمقامرة على لحم الخنزير لا على لحم الأنعام التي كانت العرب تقامر عليه في الجاهلية. وأيد هذا بحديث أبي موسى عند مالك وأحمد وأبي داود وابن ماجه «من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله» وقد روي مرفوعا وموقوفا على أبي موسى من قوله.
ثم ذكر أن ابن عمر قال في الشطرنج إنه من النرد، وإن عليا قال إنه من الميسر، قال: ونص على تحريمه مالك وأبو حنيفة وأحمد وكرهه الشافعي رحمهم الله تعالى.
أقول: إن ما روي عن علي كرم الله وجهه هو الذي بين لنا وجه ما ورد في النرد (وهو المسمى الآن بالطاولة) من الحديث، وهو أنه كان من لعب القمار. ويؤيده التشبيه الذي بينا حكمته في حديث مسلم. والظاهر إن من حرم الشطرنج حرمه من حيث كونه قمارا، ومن كرهه كرهه لكونه مدعاة الغفلة عن ذكر الله لأن أكثر لاعبيه يفرطون في الإكثار منه، وسنزيد المسألة بيانا في تفسير الآية التالية.
وأما الأنصاب فقال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وغير واحد: هي حجارة كانوا يذبحون قرابينهم عندها. ذكره ابن كثير أيضا. وروي أنهم كانوا يعبدونها ويتقربون إليها. وتحقيق ذلك تقدم في تفسير {وما ذبح على النصب} في أول السورة (ج 6).
وأما الأزلام فهي قداح أي قطع من الخشب بهيئة السهام كانوا يستقسمون بها في الجاهلية لأجل التفاؤل أو التشاؤم، وقد شرحنا معناها وطريقة الاستقسام بها في أوائل السورة (ج 6) وبينا الفرق بين خرافة الاستقسام وسنة الاستخارة فيراجع هنالك.
وأما الرجس فهو المستقذر حسا أو معنى. وقال الزجاج الرجس في اللغة اسم لكل ما استقدر من عمل، فبالغ الله في ذم الأشياء المذكورة في الآية فسماها رجسا. أقول وقد ذكر في تسع آيات من القرآن ليس فيها موضع يظهر فيه معنى القذارة الحسية إلا قوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس} [الأنعام: 145] بناء على أن قوله «فإنه رجس» عائد إلى جميع ما ذكر، أي فإن ذلك أو ما ذكر رجس. ومثله {وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره} [يس: 34، 35] أي من ثمر ذلك أو ما ذكر... ويحتمل أن يراد بالرجس أنها قذر معنوي من حيث كونها ضارة ومحتقرة تعافها الأنفس. وقد فسر بعضهم الرجس في الآية التي نفسرها بالمأثم وهو ما كان ضارا. وقد بينا ضرر الخمر والميسر في تفسير آية البقرة من عدة وجوه.
وقال الراغب. الرجس الشيء القذر. يقال رجل رجس، ورجال أرجاس. قال تعالى {رجس من عمل الشيطان} [المائدة: 90] والرجس يكون على أربعة أوجه: إما من حيث الطبع وإما من جهة العقل وإما من جهة الشرع، وإما من كل ذلك، كالميتة فإن الميتة تعاف طبعا وعقلا وشرعا. والرجس من جهة الشرع الخمر والميسر، وقيل إن ذلك رجس من جهة العقل. وعلى ذلك نبه بقوله {وإثمهما أكثر من نفعهما} [البقرة: 219] لأن كل ما يوفى إثمه على نفعه فالعقل يقتضي تجنبه. وجعل الكافرين رجسا من حيث إن الشرك بالعقل أقبح الأشياء، قال تعالى: {وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم} [التوبة: 125] الخ.
وقوله تعالى: {رجس من عمل الشيطان} نص في كون الرجس معنويا، وهو محمول على جميع ما ذكر من الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، كما قال في آية أخرى {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} [الحج: 30] وكانت الأنصاب والأزلام من لوازم الأوثان، وأما رجس الخمر والميسر فبيانه في الآية التالية.
وقد استدل بعض الفقهاء بالآية على كون الخمر نجسة العين فتكلفوا كل التكلف إذ زعموا أن «رجس» خبر عن الخمر وخبر ما عطف عليها محذوف. ولو سلم لهم هذا لما كان مفيدا لنجاسة الخمر نجاسة حسية. فإن نجس العين ما كان شديد القذارة كالبول والغائط، والخمر ليست قذرة العين، والصواب أن «رجس» خبر عن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام كما قلنا تبعا للجمهور، لأن هذا هو المتبادر إلى الفهم من العبارة، ولأنه الأصل في الأخبار عن المبتدأ وما عطف عليه، ولأنه في الأنصاب والأزلام يوافق قوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} وأما إفراده مع كونه خبرا عن متعدد فلأنه مصدر يستوي فيه القليل والكثير، كقوله تعالى: {إنما المشركون نجس} [التوبة: 28] أو لأن في الكلام مضافا تقديره أن تعاطي ما ذكر رجس من عمل الشيطان. فقوله تعالى: {من عمل الشيطان} تفسير وإيضاح لكون ما ذكر رجسا. ومعنى كونها من عمل الشيطان أنها من الأعمال التي زين لأعدائه بني آدم ابتداعها وإيجادها، ثم هو يوسوس لهم بأن يعكفوا عليها، ويزينها لهم، لما فيها من شدة الضرر بهم.
{فاجتنبوه لعلكم تفلحون (90)} أي فإذا كان الأمر كذلك فاجتنبوا هذا الرجس كله – أو فاجتنبوا ما ذكر كله، أي ابعدوا عنه وكونوا في جانب غير الجانب الذي هو فيه، رجاء أن تفلحوا وتفوزوا بما فرض عليكم من تزكية أنفسكم، وتحليتها بذكر ربكم، ومراعاة سلامة أبدانكم، والتواد والتآخي فيما بينكم. وتعاطي ما ذكر يصد عن ذلك ويحول دونه، كما بينه تعالى بقوله:
{إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة}
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنه يبدأ بالنداء المألوف في هذا القطاع: (يا أيها الذين آمنوا..) لاستجاشة قلوب المؤمنين من جهة؛ ولتذكيرهم بمقتضى هذا الإيمان من الالتزام والطاعة من جهة أخرى.. يلي هذا النداء الموحي تقرير حاسم على سبيل القصر والحصر: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان..) فهي دنسة لا ينطبق عليها وصف "الطيبات "التي احلها الله. وهي من عمل الشيطان. والشيطان عدو الإنسان القديم؛ ويكفي أن يعلم المؤمن أن شيئا ما من عمل الشيطان لينفر منه حسه، وتشمئز منه نفسه، ويجفل منه كيانه، ويبعد عنه من خوف ويتقيه! وفي هذه اللحظة يصدر النهي مصحوبا كذلك بالإطماع في الفلاح -وهي لمسة أخرى من لمسات الإيحاء النفسي العميق: (فاجتنبوه لعلكم تفلحون)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف خطاب للمؤمنين تقفية على الخطاب الذي قبله ليُنْظَم مضمونه في السلك الذي انتظم فيه مضمون الخطاب السابق، وهو قوله: {ولا تعتدوا} [المائدة: 87] المشير إلى أنّ الله، كما نَهى عن تَحريم المباح، نهَى عن استحلال الحرام وأنّ الله لمّا أحلّ الطيّبات حرّم الخبائث المفضية إلى مفاسد،...
والميسر كان وسيلة لإطعام اللحم من لا يقدرون عليه. فكانت هذه الآية كالاحتراس عمّا قد يُساء تأويله من قوله {لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم} [الأنعام: 87]...
والمشهور أنّ الخمر حرمت سنة ثلاث من الهجرة بعد وقعة أحُد، فتكون هذه الآية نزلت قبل سورة العقود ووضعت بعد ذلك في موضعها هنا...
فلا جرم كان هذا التحريم بمحلّ العناية من الشارع متقدّماً للأمّة في إيضاح أسبابه رفقاً بهم واستئناساً لأنفسهم، فابتدأهم بآية سورة البقرة، ولم يسفّههم فيما كانوا يتعاطون من ذلك، بل أنبأهم بعذرهم في قوله: {قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} [البقرة: 219]، ثم بآية سورة النساء، ثم كرّ عليها بالتحريم بآية سورة المائدة فحصر أمرهما في أنّهما رجس من عمل الشيطان ورجا لهم الفلاح في اجتنابهما بقوله: {لعلّكم تفلحون}، وأثار ما في الطباع من بغض الشيطان بقوله: {إنّما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء}. ثم قال {فهل أنتم منتهون}، فجاء بالاستفهام لتمثيل حال المخاطبين بحال من بيَّن له المتكلّم حقيقة شيء ثم اختبر مقدار تأثير ذلك البيان في نفسه...
ومعنى كونها من عمل الشيطان أن تعاطيَها بما تُتعاطى لأجله من تسويله للناس تعاطيها، فكأنّه هو الذي عملها وتعاطاها، وفي ذلك تنفير لمتعاطيها بأنّه يعمل عمل الشيطان، فهو شيطان، وذلك ممّا تأباه النفوس. والفاء في {فاجتنبوه} للتفريع وقد ظهر حُسن موقع هذا التفريع بعد التقدّم بما يوجب النفرة منها...
واجتناب المذكورات هو اجتناب التلبّس بها فيما تقصد له من المفاسد بحسب اختلاف أحوالها؛
فاجتناب الخمر اجتناب شربها؛ والميسر اجتناب التقامر به، والأنصاب اجتناب الذبح عليها؛ والأزلام اجتناب الاستقسام بها واستشارتها. ولا يدخل تحت هذا الاجتناب اجتناب مسّها أو إراءتها للناس للحاجة إلى ذلك من اعتبار ببعض أحوالها في الاستقطار ونحوه، أو لمعرفة صورها، أو حفظها كآثار من التاريخ؛ أو ترك الخمر في طور اختمارها لِمن عَصَر العنب لاتّخاذه خلاً، على تفصيل في ذلك واختلاف في بعضه. فأمّا اجتناب مماسّة الخمر واعتبارها نجسة لمن تلطّخ بها بعض جسده أو ثوبه فهو ممّا اختلف فيه أهل العلم؛ فمنهم من حملوا الرجس في الآية بالنسبة للخمر على معنييه المعنوي والذاتي، فاعتبروا الخمر نجس العين يجب غسلها كما يجب غسل النجاسة، حملاً للفظ الرجس على جميع ما يحتمله...
وأقول: الذي يقتضيه النظر أنّ الخمر ليستْ نَجَس العين، وأنّ مسَاق الآية بعيد عن قصد نجاسة عينها، إنّما القصد أنّها رجس معنوي، ولذلك وصفه بأنّه من عَمَل الشيطان، وبيّنه بعدُ بقوله: {إنّما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة}، ولأنّ النجاسة تعتمد الخباثة والقذارة وليست الخمر كذلك، وإنّما تنزّه السلف عن مقاربتها لتقرير كراهيتها في النفوس.
أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :
قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ والأنصاب والأزلام رِجْسٌ} الآية. يفهم مِن هذه الآية الكريمة أن الخمر نجسة العين، لأن الله تعالى قال: إنها رجس، والرِّجْس في كلام العرب كل مستقذر تعافه النفس. وقيل: إن أصله من الركس، وهو العذرة والنتن. قال بعض العلماء: ويدل لهذا مفهوم المخالفة في قوله تعالى في شراب أهل الجنَّة {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} [الإنسان: 21]، لأن وصفه لشراب أهل الجنة بأنه طهور يفهم منه، أن خمر الدنيا ليستْ كذلك، ومما يؤيِّد هذا أن كل الأوصاف التي مدح بها تعالى خمر الآخرة منفية عن خمر الدنيا، كقوله: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} [الصافات: 47]، وكقوله: {لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ} [الواقعة: 19]، بخلاف خمر الدنيا ففيها غَوْل يغتال العقُول وأهلها يصدَّعون. أي يصيبهم الصداع الذي هو وجع الرأس بسببها، وقوله {لا يُنزَفُونَ} على قراءة فتح الزاي مبنياً للمفعول، فمعناه: أنهم لا يسكرون، والنزيف السكران...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
بين سبحانه أنه لا يصح تحريم الحلال وطالب بتناوله وأنه ليس من الإسلام تعذيب الجسم في سبيل تطهير الروح بل إن الروح القوى لا يكون إلا في الجسم السليم الذي يستوفي حاجة الحياة اليومية الطيبة التي لا إثم فيها، وان ا لمحللات لا تحصى عددا والمحرمات من الأطعمة تحصى، وهي محصورة. والمحرمات تكون لأحد أمرين إما لخبيث في ذاتها، كالخمر والخنزير والميتة، وإما لاقترانها بما يمس العقيدة مما يدعو إلى الإشراك ومن الأشياء ما تكون محرمة لأن الفعل الذي قارنها كان محرما كالذي يكسب بالميسر فيحرم سدا للذريعة.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وهنا يجب التنبيه والتأكيد على أن من صيغ التحريف التي يستعملها القرآن الكريم صيغة (اجتنبوا) كما ورد في هذه الآية وغيرها من الآيات، مثل قوله تعالى في سورة النحل {واجتنبوا الطاغوت}، وقوله تعالى في سورة الحج {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور}، وقوله تعالى في سورة الحجرات: {اجتنبوا كثيرا من الظن} الآية، فكل ما ورد في هذه الآيات بعد صيغة اجتنبوا يعتبر في الشريعة من المحرمات المقطوع بتحريمها.
وقد حرم الله الخمر لأنها تستر العقل. وكل ما يستر العقل خمر حتى ولو كان أصله حلالا؛ وذلك لأن العقل هو مناط التكليف. وكذلك حرم الله الميسر. ولنر دقة الاسم الذي اختاره الله للقمار، إنه (الميسر) ولم يسمه (المعسر) ذلك أن أحدا لا يقبل على الميسر وهو يظن أنه سوف يخسر، وكل من يلعبون القمار إنما يفعلون ذلك على أمل الكسب؛ لذلك جاء بالاسم الذي يعبر عن حالة اللاعب للقمار إنه يلعب على وهم الكسب، وإن كسب فالمكسب يغريه بالمزيد من اللعب. والخسران يغري باللعب أكثر لعل كسبا يعرض الخسارة التي منى بها...
والأنصاب ثلاثة قداح كانت توجد عند الكاهن؛ قدح مكتوب عليه أمرني ربي، والقدح الثاني مكتوب عليه نهاني ربي، والقدح الثالث غفل من الكتابة أي خال منها فلا علامة فيه. فإن كان في نية إنسان السفر أو الزوج أو التجارة فهو يذهب إلى الكاهن ليضرب له هذه القداح. فإن خرج القدح المكتوب عليه أمرني ربي فعل. وإن خرج نهاني ربي لم يفعل. أما إن خرج القدح الغفل فهو يعيد ضرب القداح حتى يخرج أحد القدحين: إما الذي يحمل الأمر، وإما الذي يحمل النهي...
والأزلام رجس من عمل الشيطان. والأزلام هي نوع من الميسر؛ فقد كانوا يحضرون الناقة أو الجزور ويذبحونها ويقسمونها إلى ثمانية وعشرين قسما ويخصصون لإنسان نصيبا و للثاني نصيبين وللثالث ثلاثة أنصبة، وللرابع أربعة أنصبة وللخامس خمسة أنصبة، وللسادس ستة أنصبة، والسابع له سبعة أنصبة. وكانوا يأتون بالقداح السبعة. قدح اسمه (الفذ) ويأخذ الفائز به نصيبا، والقدح الثاني: (التوأم) ويأخذ نصيبين، والقدح الثالث اسمه (الرقيب) يأخذ ثلاثة. والقدح الرابع اسمه (الحلس) يأخذ أربعة. والخامس هو (النافر) ويأخذ خمسة. والسادس اسمه (المسبل) ويأخذ ستة. والسابع اسمه (المعلى) ويأخذ سبعة أنصبة. هناك ثلاثة قداح هي المنيح والسفيح والوغد، وهؤلاء الثلاثة لا يأخذون شيئا بل يدفعون ثمن الذبيحة. وذلك رجس من عمل الشيطان. وحين يقول الحق سبحانه وتعالى عن شيء إنه: (رجس)، فذلك حكم الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ونحن نقبل هذا الحكم حتى ولو لم نفهم نحن معنى الرجس، أو لم نتأكد ماديا من أن الشيء المحرم هو من الرجس، ذلك أنه يكفي في ذلك حكم الله الذي يرضخ له العبد المؤمن الذي قبل التكليف من ربه؛ لأن ربه مؤتمن على كل مصالحه. ومادام الحق قد قال عن شيء إنه رجس، فهو رجس ولا جدال في ذلك.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
للقرآن أساليبه المتنوعة في إبعاد النَّاس عن بعض العادات المضرّة الّتي تحوّلت إلى ما يشبه الإدمان، فيذكرها أكثر من مرة، ولكنه يتبع في ذلك أسلوب الإجمال والتفصيل من جهة، وطريقة التدرُّج في توضيح الصورة الحقيقيّة من جهة أخرى. ومن هذه العادات، شرب الخمر ولعب القمار «الميسر»، والأنصاب، وهي الأصنام الّتي كان النَّاس ينصبونها لذبح القرابين عليها ويتبرّكون بها، والأزلام وهي القداح الّتي كانوا يستقسمون بها، وقد تطلق على السهام الّتي كانوا يتفاءلون بها عند العزم على فعل بعض الأمور...
نستطيع أن نكتشف من وصف الله تعالى بأنَّها {من عَمَلِ الشَّيْطَانِ}، دلالةً على دوره فيها، إذ هو الَّذي قام بتزيينها للإنسان، بالوسوسة والإغواء. فهو الَّذي يزيّن له ارتكاب هذا العمل أو ذاك بإخفاء الجوانب السلبيّة فيه وإظهار الجوانب الإيجابيّة، ليندفع الإنسان إليها بلهفة وشوق، من دون أن يعاني في ذلك أيّة عقدةٍ نفسيّةٍ، أو أيّ فكرٍ مضادٍ. وفي ضوء ذلك، لا بُدَّ للإنسان من التعامل معها بالطريقة الّتي يتعامل فيها مع الأشياء القذرة الّتي ينفر الطبع منها ويبتعد عنها، فيخلق ذلك في داخل وعيه عقدة رفض، تماماً كما هي الأشياء القذرة في حياته، ولهذا كان الأمر بالاجتناب عنها في قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوهُ} نتيجةً طبيعيّةً لما أراد الله أن يُثيره في نفس الإنسان ضدّ هذه الأشياء، ليربطها في النهاية بعوامل الفلاح والنجاح، لأنَّهما ينطلقان في حياته من خلال أفعاله النافعة والإيجابية، كما ينطلقان من خلال نأيه عن الأمور الضارة والسلبيّة، {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فإنَّ الابتعاد عن طريق الخسارة أسلوبٌ من أساليب الفلاح.