ولكن طبيعة التلكؤ والالتواء تدركهم ، فإذا هم يسألون : ( قالوا : ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ؟ ) . . والسؤال بهذه الصيغة يشي بأنهم ما يزالون في شكهم أن يكون موسى هازئا فيما أنهى إليهم ! فهم أولا : يقولون : ( ادع لنا ربك ) . . فكانما هو ربه وحده لا ربهم كذلك ! وكأن المسألة لا تعنيهم هم إنما تعني موسى وربه ! وهم ثانيا : يطلبون منه أن يدعو ربه ليبين لهم : ( ما هي ؟ ) والسؤال عن الماهية في هذا المقام - وإن كان المقصود الصفة - إنكار واستهزاء . . ما هي ؟ إنها بقرة . وقد قال لهم هذا من أول الأمر بلا تحديد لصفة ولا سمة . بقرة وكفى !
هنا كذلك يردهم موسى إلى الجادة ، بأن يسلك في الإجابة طريقا غير طريق السؤال . إنه لا يجبههم بانحرافهم في صيغة السؤال كي لا يدخل معهم في جدل شكلي . . إنما يجيبهم كما ينبغي أن يجيب المعلم المربي من يبتليه الله بهم من السفهاء المنحرفين . يجيبهم عن صفة البقرة :
قال : إنها بقرة لا فارض ولا بكر ، عوان بين ذلك . .
إنها بقرة لا هي عجوز ولا هي شابة ، وسط بين هذا وذاك . ثم يعقب على هذا البيان المجمل بنصيحة آمرة حازمة :
ولقد كان في هذا كفاية لمن يريد الكفاية ؛ وكان حسبهم وقد ردهم نبيهم إلى الجادة مرتين ، ولمح لهم بالأدب الواجب في السؤال وفي التلقي . أن يعمدوا إلى أية بقرة من أبقارهم ، لا عجوز ولا صغيرة ، متوسطة السن ، فيخلصوا بها ذمتهم ، وينفذوا بذبحها أمر ربهم ، ويعفوا أنفسهم من مشقة التعقيد والتضييق . . ولكن إسرائيل هي إسرائيل !
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ( 68 )
هذا تعنت منهم وقلة طواعية ، ولو امتثلوا الأمر فاستعرضوا( {[764]} ) بقرة فذبحوها لقضوا ما أمروا به ، ولكن شددوا فشدد الله عليهم ، قاله ابن عباس وأبو العالية وغيرهما . ولغة بني عامر «ادعِ »( {[765]} ) بكسر العين ، و { ما } استفهام رفع بالابتداء ، وهي خبره ، ورفع { فارض } على النعت للبقرة على مذهب الأخفش ، أو على خبر ابتداء مضمر تقديره لا هي فارض ، والفارض المسنة الهرمة التي لا تلد ، قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد وغيرهم ، تقول فرضت( {[766]} ) تفرض بفتح العين في الماضي ، فروضاً ، ويقال فرضت بضم العين ، ويقال لكل ما قدم وطال أمده فارض ، وقال الشاعر( {[767]} ) [ العجاج ] : [ الرجز ]
يا رب ذي ضغن عليَّ فارض . . . له قروء كقروء الحائض
والبكر من البقر التي لم تلد من الصغر ، وحكى ابن قتيبة أنها التي ولدت ولداً واحداً ، والبكر من النساء التي لم يمسها الرجل ، والبكر من الأولاد الأول ، ومن الحاجيات الأولى ، والعوان التي قد ولدت مرة بعد مرة ، قاله مجاهد ، وحكاه أهل اللغة ، ومنه قول العرب : العوان لا تعلم الخمرة( {[768]} ) . وحرب عوان : قد قوتل فيها مرتين فما زاد( {[769]} ) ، ورفعت { عوان } على خبر ابتداء مضمر ، تقديره هي عوان ، وجمعها عون بسكون الواو ، وسمع عون بتحريكها بالضم( {[770]} ) .
و { بين }( {[771]} ) ، بابها أن تضاف إلى اثنتين ، وأضيفت هنا إلى { ذلك } ، إذ ذلك يشار به إلى المجملات ، فذلك عند سيبويه نازل منزلة ما ذكرت( {[772]} ) ، فهي إشارة إلى مفرد( {[773]} ) على بابه ، وقد ذكر اثنان فجاءت أيضاً { بين } على بابها .
وقوله : { فافعلوا ما تؤمرون } تجديد للأمر وتأكيد وتنبيه على ترك التعنت ، فما تركوه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.