البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قَالُواْ ٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَۚ قَالَ إِنَّهُۥ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٞ لَّا فَارِضٞ وَلَا بِكۡرٌ عَوَانُۢ بَيۡنَ ذَٰلِكَۖ فَٱفۡعَلُواْ مَا تُؤۡمَرُونَ} (68)

الفارض : المسن التي انقطعت ولادتها من الكبر .

يقال : فرضت وفرضت تفرض ، بفتح العين في الماضي وضمها ، والمصدر فروض ، والفرض : القطع ، قال الشاعر :

كميت بهيم اللون ليس بفارض *** ولا بعوان ذات لون مخصف

ويقال لكل ما قدم وطال أمره : فارض ، قال الشاعر :

يا ربّ ذي ضغن عليّ فارض *** له قروء كقروء الحائض

وكأنّ المسن سميت فارضاً لأنها فرضت سنها ، أي قطعتها وبلغت آخرها ، قال خفاف بن ندبة :

لعمري لقد أعطيت ضيفك فارضاً *** تساق إليه ما تقوم على رجل

ولم تعطه بكراً فيرضى سمينه *** فكيف تجازى بالمودة والفضل

البكر : الصغيرة التي لم تلد من الصغر ، وقال ابن قتيبة : التي ولدت ولداً واحداً .

والبكر من النساء : التي لم يمسها الرجل ، وقال ابن قتيبة : هي التي لم تحمل .

والبكر من الأولاد : الأول ، ومن الحاجات : الأولى .

قال الراجز :

يا بكر بكرين ويا خلب الكبد *** أصبحت مني كذراع من عضد

والبكر ، بفتح الباء : الفتى من الإبل ، والأنثى : بكرة ، وأصله من التقدم في الزمان ، ومنه البكرة والباكورة .

والعوان : النصف ، وهي التي ولدت بطناً أو بطنين ، وقيل : التي ولدت مرة .

وقالت العرب : العوان لا تعلم الخمرة ، ويقال : عونت المرأة ، وحرب عوان ، وهي التي قوتل فيها مرة بعد مرة ، وجمع على فعل : قالوا عون ، وهو القياس في المعتل من فعأل ، ويجوز ضم عين الكلمة في الشعر ، منه :

وفي الأكف اللامعات سور***

بين : ظرف مكان متوسط التصرف ، تقول : هو بعيد بين المنكبين ، ونقي بين الحاجبين .

قال تعالى : { هذا فراق بيني وبينك } ، ودخولها إذا كانت ظرفاً : { بين ما تمكن البينية فيه } ، والمال بين زيد وبين عمرو ، ومسموع من كلامهم ، وينتقل من المكانية إلى الزمانية إذا لحقتها ما ، أو الألف ، فيزول عنها الاختصاص بالأسماء ، فيليها إذ ذاك الجملة الاسمية والفعلية ، وربما أضيفت بيناً إلى المصدر .

ولبين في علم الكوفيين باب معقود كبير .

{ قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي } ، لما قال لهم موسى : { أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } ، وعلموا أن ما أخبرهم به موسى من أمر الله إياهم بذبح البقرة كان عزيمة وطلباً ، جاز ما قالوا له ذلك ، وهذا القول أيضاً فيه تعنيت منهم وقلة طواعية ، إذ لو امتثلوا فذبحوا بقرة ، لكانوا قد أتوا بالمأمور ، ولكن شدّدوا ، فشدد الله عليهم ، قاله ابن عباس وأبو العالية وغيرهما .

وكسر العين من ادع لغة بني عامر ، وقد سبق ذكر ذلك في { فادع لنا ربك يخرج لنا } وجزم يبين على جواب الأمر .

وما هي : مبتدأ وخبر .

وقرأ عبد الله : سل لنا ربك يبين ما هي ، ومفعول يبين : هي الجملة من المبتدأ والخبر ، والفعل معلق ، لأن معنى يبين لنا يعلمنا ما هي ، لأن التبيين يلزمه الإعلام ، والضمير في هي عائد على البقرة السابق ذكرها ، وكأنهم قالوا : يبين لنا ما البقرة التي أمرنا بذبحها ، ولم يريدوا تبيين ماهية البقرة ، وإنما هو سؤال عن الوصف ، فيكون على حذف مضاف ، التقدير : ما صفتها ؟ ولذلك أجيبوا بالوصف ، وهو قوله : { لا فارض ولا بكر } .

وإنما سألوا على طريق التعنت ، كما قدّمناه ، أو على طريق التعجب من بقرة ميتة يضرب بها ميت فيحيا ، إذ ذاك في غاية الاستغراب والخروج عن المألوف ، أو على طريق أنهم ظنوا قوله : { أن تذبحوا بقرة } من باب المجمل ، فسألوا تبيين ذلك ، إذ تبين المجمل واجب ، أو على رجاء أن ينسخ عنهم تكليف الذبح ، لثقل ذلك عليهم ، لكونهم لم يعلموا المعنى الذي لأجله أمروا بذلك .

وتقدّم معنى قولهم : { أدع لنا ربك } ، كيف خصوا لفظ الربّ مضافاً إلى موسى ، وذلك لما علموا له عند الله من الخصوصية والمنزلة الرفيعة .

وقيل : إنما سألوا موسى استرشاداً لا عناداً ، إذ لو كان عناداً لكفروا به وعجلت عقوبتهم ، كما عجلت في قولهم : { أرنا الله جهرة } ، وفي عبادتهم العجل ، وفي امتناعهم من قبول التوراة ، وقولهم : { اذهب أنت وربك فقاتلا } وفي الكلام حذف تقديره : فدعا موسى ربه فأجابه .

{ قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر } : صفة لبقرة ، والصفة إذا كانت منفية بلا ، وجب تكرارها ، كما قال :

وفتيان صدق لا ضعاف ولا عزل***

فإن جاءت غير مكرّرة ، فبابها الشعر ، ومن جعل ذلك من الوصف بالمجمل ، فقدر مبتدأ محذوفاً ، أي { لا هي فارض ولا بكر } ، فقد أبعد ، لأن الأصل الوصف بالمفرد ، والأصل أن لا حذف .

{ عوان } : تفسير لما تضمنه قوله : { لا فارض ولا بكر } .

{ بين ذلك } : يقتضي بين أن تكون تدخل على ما يمكن التثنية فيه ، ولم يأت بعدها إلا اسم إشارة مفرد ، فقيل : أشير بذلك إلى مفرد ، فكأنه قيل : عوان بين ما ذكر ، فصورته صورة المفرد ، وهو في المعنى مثنى ، لأن تثنية اسم الإشارة وجمعه ليس تثنية ولا جمعاً حقيقة ، بل كان القياس يقتضي أن يكون اسم الإشارة لا يثني ولا يجمع ولا يؤنث ، قالوا : وقد أجرى الضمير مجرى اسم الإشارة ، قال رؤبة :

فيها خطوط من سواد وبلق***

كأنه في الجلد توليع البهق

قيل له : كيف تقول كأنه ؟ وهلا قلت : كأنها ، فيعود على الخطوط ، أو كأنهما ، فيعود على السواد والبلق ؟ فقال : أردت كان ذاك ، وقال لبيد :

إن للخير وللشرّ مدى***

وكلا ذلك وجه وقبل

قيل : أراد وكلا ذينك ، فأطلق المفرد وأراد به المثنى ، فيحتمل أن تكون الآية من ذلك ، فيكون أطلق ذلك ويريد به ذينك ، وهذا مجمل غير الأوّل .

والذي أذهب إليه غير ما ذكروا ، وهو أن يكون ذلك مما حذف منه المعطوف ، لدلالة المعنى عليه ، التقدير : عوان بين ذلك وهذا ، أي بين الفارض والبكر ، فيكون نظير قول الشاعر :

فما كان بين الخير لو جاء سالما***

أبو حجر إلا ليال قلائل

أي : فما كان بين الخير وباغيه ، فحذف لفهم المعنى : { سرابيل تقيكم الحرّ } أي والبرد .

وإنما جعلت عواناً لأنه أكمل أحوالها ، فالصغيرة ناقصة لتجاوزها حالته .

{ فافعلوا ما تؤمرون } : أي من ذبح البقرة ، ولا تكرروا السؤال ، ولا تعنتوا في أمر ما أمرتم بذبحه .

ويحتمل أن تكون هذه الجملة من قول الله ، ويحتمل أن تكون من قول موسى ، وهو الأظهر .

حرّضهم على امتثال ما أمروا به ، شفقة منه .

وما موصولة ، والعائد محذوف تقديره : ما تؤمرونه ، وحذف الفاعل للعلم به ، إذ تقدّم أن الله يأمركم ، ولتناسب أواخر الآي ، كما قصد تناسب الإعراب في أواخر الأبيات في قوله :

ولا بدّ يوماً أن تردّ الودائع***

إذ آخر البيت الذي قبل هذا قوله :

وما يدرون أين المصارع***

وأجاز بعضهم أن تكون ما مصدرية ، أي : فافعلوا أمركم ، ويكون المصدر بمعنى المفعول ، أي مأموركم ، وفيه بعد { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها } لما تعَرّفوا سنّ هذه ، شرعوا في تعرف لونها ، وذلك كله يدل على نقص فطرهم وعقولهم ، إذ قد تقدّم أمران : أمر الله لهم بذبح بقرة ، وأمر المبلغ عن الله ، الناصح لهم ، المشفق عليهم ، بقوله : { فافعلوا ما تؤمرون } ، ومع ذلك لم يرتدعوا عن السؤال عن لونها .

/خ74