الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قَالُواْ ٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَۚ قَالَ إِنَّهُۥ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٞ لَّا فَارِضٞ وَلَا بِكۡرٌ عَوَانُۢ بَيۡنَ ذَٰلِكَۖ فَٱفۡعَلُواْ مَا تُؤۡمَرُونَ} (68)

قوله تعالى : { قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنَ لَّنَا } . . كقوله : { فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا } [ البقرة : 61 ] وقد تقدَّم . قوله : " ما هي " ؟ ما استفهاميةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ تقديرُه : أيُّ شيءٍ هي ، و " ما " الاستفهاميةُ يُطْلَبُ بها شَرْحُ الاسم تارةً نحو : " ما العنقاءُ ؟ [ و ] ماهيَّةُ المُسَمَّى أخرى نحو : ما الحركةُ . وقال السكاكي : " يَسْأَلُ ب " ما " عن الجنسِ ، تقولُ : ما عندك ؟ أي : أيُّ أجناسِ الأشياءِ عندك ، وجوابُه : كتابٌ ونحوه ، أو عن الوصف ، تقول : ما زيدٌ ؟ وجوابه : كريمٌ " وهذا هو المرادُ في الآية . و " هي " ضميرٌ مرفوعٌ منفصلٌ في محلِّ رفع خبراً ل " ما " ، والجملةُ في محلِّ نصب بيبيِّن ، لأنه مُعَلَّقٌ عن الجملةِ بعده ، وجاز ذلك لأنَّه شبيهٌ بأفعالِ القلوبِ .

قوله : { لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ } لا نافيةٌ ، و " فارضٌ " صفةٌ لبقرة ، واعترض ب " لا " بين الصفةِ والموصوفِ ، نحوٍ : مَرَرْتُ برجلٍ لا طويلٍ ولا قصيرٍ . وأجاز أبو البقاء أن يكونَ خبراً لمبتدأ محذوفٍ أي : لا هي فارضٌ . وقولُه : { وَلاَ بِكْرٌ } مثلُ ما تقدَّم ، وتكرَّرت " لا " لأنها متى وقعت قبل خبرٍ أو نعتٍ أو حالٍ وَجَب تكريرُها ، تقول : زيدٌ لا قائمٌ ولا قاعدٌ ، ومررت به لا ضاحكاً ولا باكياً ، ولا يجوز عدمُ التكرارِ إلا في ضرورةٍ ، خلافاً للمبرد وابن كيسان ، فمن ذلك :

وأنتَ امرؤٌ مِنَّا خُلِقْتَ لغيرِنا *** حياتُك لا نفعٌ وموتُك فاجِعُ

وقولُه :

قَهَرْتَ العِدَى لا مُسْتَعيناً بعُصْبَةٍ *** ولكنْ بأنواعِ الخدائعِ والمَكْرِ

فلم يكرِّرها في الخبر ولا في الحالِ .

والفارضُ : المُسِنَّةُ الهَرِمة ، قال الزمخشري : " كأنَّها سُمِّيَتْ بذلك لأنها فَرَضَتْ سِنَّها ، أي قَطَعَتْها وبَلَغَتْ آخرَها " قال الشاعر :

لَعَمْرِي لقد أَعْطَيْتَ جارَك فارِضاً *** تُساقُ إليه ما تقومُ على رِجْلِ

ويقال لكلِّ ما قَدُم : فارضٌ ، قال :

شَيَّبَ أصداغِي فرأسي أبيضُ *** محامِلٌ فيها رجالٌ فُرَّضُ

أي : كبارٌ قدماء ، وقال آخر :

يا رُبَّ ذي ضِغْنٍ عليَّ فارضِ *** له قُروءٌ كقُروءِ الحائِضِ

وقال الراغب : " سُمِّيَتْ فارِضاً لأنها تقطعُ الأرضَ ، والفَرْضُ في الأصل : القَطْع وقيل : لأنها تحملُ الأحمَالَ الشاقةَ . وقيل : لأن فريضة البقر تَبِيعٌ ومُسِنَّة ، قال : فعلى هذا تكونُ الفارضُ اسماً إسلامياً " ويقال فَرَضَتْ تفرِضُ بالفتح فُروضاً ، وقيل : فَرُضَتْ بالضمِّ أيضاً . والبِكْرُ ما لم تَحْمِل ، وقيل : مَا وَلَدَتْ بطناً واحداً وذلك الولدُ بِكْرٌ أيضاً ، قال :534 يا بِكْرَ بَكْرَيْنِ ويا خِلْبَ الكَبِدْ *** أصبحْتَ مني كذراعٍ من عَضُدْ

والبِكْرُ من الحيوان : مَنْ لم يَطْرُقْه فَحْل ، والبَكْر بالفتح : الفَتِيُّ من الإِبل ، والبَكارة بالفتح : المصدر .

قوله : { عَوَانٌ } صفةٌ لبقرة ، ويجوز أن يكونَ خبراً لمبتدأ محذوفٍ أي : هي عوانٌ ، كما تقدَّم في { لاَّ فَارِضٌ } والعَوانُ ، النَّصَفُ ، وهو التوسُّطُ بين الشيئينِ ، وذلك أقوى ما يكونُ وأحسنُه ، قال :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . نواعِمُ بين أبكارٍ وعُونِ

وقيل : هي التي وَلَدَت مرةً بعد أخرى ، ومنه الحَرْبُ العَوانُ ، أي : التي جاءت بعدَ حربٍ أخرى ، قال زهير :

إذا لَقِحَتْ حربٌ عَوانٌ مُضِرَّةٌ *** ضَروسٌ تُهِرُّ الناسَ أنيابُها عُصْلُ

والعُون بسكونِ الواو : الجمعُ ، وقد تُضَمُّ ضرورةً كقوله :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . في الأكُفِّ اللامِعاتِ سُوُرْ

بضمِّ الواو . ونظيرُه في الصحيح : قَذَال وقُذُل ، وحِمار وحُمُر .

قوله : { بَيْنَ ذلِكَ } صِفةٌ لعَوان ، فهو في محلِّ رفعٍ ويتعلَّقُ بمحذوفٍ أي : كائنٌ بين ذلك ، و " بين " إنما تُضاف لشيئين فصاعداً ، وجاز أن تضافَ هنا إلى مفرد ، لأنه يُشارُ بِهِ إلى المثنى والمجموع ، كقوله :

إنَّ للخيرِ وللشَّرِّ مَدَى *** وكِلا ذلك [ وَجْهٌ وقَبَلْ ]

كأنه قيل : بين ما ذُكِر من الفارضِ والبِكْر . قال الزمخشري : " فإن قلت : كيف جازَ أن يُشارَ به إلى مؤنَّثَيْن وإنما هو لإِشارةِ المذكر ؟ قلت : لأنه في تأويلِ ما ذُكر وما تقدَّم " ، وقال : " وقد يَجْري الضمير مَجْرى اسم الإِشارةِ في هذا/ قال أبو عبيدة : قلت لرؤبة في قوله :

فيها خطوطٌ من سَوادٍ وبَلَقْ *** كأنَّهُ في الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ

إن أردْتَ الخطوطَ فقل : كأنها ، وإن أردْتَ السوادَ والبَلَق فقل : كأنهما ، فقال : أردْتُ : كأنَّ ذاكَ . وَيْلَك " . والذي حَسَّنَ منه أنَّ أسماءَ الإِشارةِ تَثْنِيتُها وجَمْعُها وتأنيثُها ليسَتْ على الحقيقة ، وكذلك الموصولاتُ ، ولذلك جاء الذي بمعنى الجمع .

قوله : { مَا تُؤْمَرونَ } " ما " موصولةٌ بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ تقديره : تُؤْمَرون بِه ، فحُذِفَت الباءُ وهو حذفٌ مطَّردٌ ، فاتصل بالضميرِ فحُذِفَ . وليس هو نظيرَ { كَالَّذِي خَاضُواْ } [ التوبة : 69 ] فإنَّ الحذف هناك غيرُ مقيسٍ ، ويضعُف أن تكونَ " ما " نكرةً موصوفةً . قال أبو البقاء : " لأنَّ المعنى على العُمومِ وهو بالذي أَشْبَهُ " ، ويجوزُ أن تكونَ مصدريةً أي : أَمَرَكم بمعنى مأمورَكم ، تسميةً للمفعولِ بالمصدرِ كضَرْبِ الأمير ، قاله الزمخشري . و " تُؤْمَرون " مبنيٌّ للمفعول والواوُ قائمٌ مقامَ الفاعلِ ، ولا محلَّ لهذه الجملةِ لوقوعِها صلةً .