مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قَالُواْ ٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَۚ قَالَ إِنَّهُۥ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٞ لَّا فَارِضٞ وَلَا بِكۡرٌ عَوَانُۢ بَيۡنَ ذَٰلِكَۖ فَٱفۡعَلُواْ مَا تُؤۡمَرُونَ} (68)

واعلم أن القوم سألوا موسى عليه السلام عن أمور ثلاثة مما يتعلق بالبقرة :

السؤال الأول : ما حكى الله تعالى عنهم أنهم : { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي } فأجاب موسى عليه السلام بقوله : { إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون } واعلم أن في الآية أبحاثا :

الأول : أنا إذا قلنا إن قوله تعالى : { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } يدل على الأمر بذبح بقرة معينة في نفسها غير مبين التعيين حسن موقع سؤالهم ، لأن المأمور به لما كان مجملا حسن الاستفسار والاستعلام . أما على قول من يقول : إنه في أصل اللغة للعموم فلابد من بيان أنه ما الذي حملهم على هذا الاستفسار ؟ وفيه وجوه . ( أحدها ) : أن موسى عليه السلام لما أخبرهم بأنهم إذا ذبحوا البقرة وضربوا القتيل ببعضها صار حيا تعجبوا من أمر تلك البقرة ، وظنوا أن تلك البقرة التي يكون لها مثل هذه الخاصة لا تكون إلا بقرة معينة ، فلا جرم استقصوا في السؤال عن وصفها كعصا موسى المخصوصة من بين سائر العصي بتلك الخواص ، إلا أن القوم كانوا مخطئين في ذلك ، لأن هذه الآية العجيبة ما كانت خاصية البقرة ، بل كانت معجزة يظهرها الله تعالى على يد موسى عليه السلام . ( وثانيها ) : لعل القوم أرادوا بقرة أي بقرة كانت ، إلا أن القاتل خاف من الفضيحة ، فألقى الشبهة في التبيين وقال المأمور به بقرة معينة لا مطلق البقرة ، لما وقعت المنازعة فيه ، رجعوا عند ذلك إلى موسى . ( وثالثها ) : أن الخطاب الأول وإن أفاد العموم إلا أن القوم أرادوا الاحتياط فيه ، فسألوا طلبا لمزيد البيان وإزالة لسائر الاحتمالات ، إلا أن المصلحة تغيرت واقتضت الأمر بذبح البقرة المعينة .

البحث الثاني : أن سؤال «ما هي » طلب لتعريف الماهية والحقيقة ، لأن «ما » سؤال ، و«هي » إشارة إلى الحقيقة ، فما هي لا بد وأن يكون طلبا للحقيقة وتعريف الماهية والحقيقة لا يكون إلا بذكر أجزائها ومقدماتها لا بذكر صفاتها الخارجة عن ماهيتها ، ومعلوم أن وصف السن من الأمور الخارجة عن الماهية فوجب أن لا يكون هذا الجواب مطابقا لهذا السؤال : والجواب عنه : أن الأمر وإن كان كما ذكرتم لكن قرينة الحال تدل على أنه ما كان مقصودهم من قولهم : ما البقر طلب ماهيته وشرح حقيقته بل كان مقصودهم طلب الصفات التي بسببها يتميز بعض البقر عن بعض ، فلهذا حسن ذكر الصفات الخارجة جوابا عن هذا السؤال .

البحث الثالث : قال صاحب الكشاف : الفارض المسنة وسميت فارضا لأنها فرضت سنها ، أي قطعتها وبلغت آخرها ، والبكر : الفتية والعوان النصف ، قال القاضي : أما البكر ، فقيل : إنها الصغيرة وقيل ما لم تلد ، وقيل : إنها التي ولدت مرة واحدة ، قال المفضل بن سلمة [ الضبي ] : إنه ذكر في الفارض أنها المسنة وفي البكر أنها الشابة وهي من النساء التي لم توطأ ومن الإبل التي وضعت بطنا واحدا . قال القفال : البكر يدل على الأول ومنه الباكورة لأول الثمر ومنه بكرة النهار ويقال : بكرت عليهما البارحة إذا جاء في أول الليل ، وكأن الأظهر أنها هي التي لم تلد لأن المعروف من اسم البكر من الإناث في بني آدم ما لم ينز عليها الفحل ، وقال بعضهم : العوان التي ولدت بطنا بعد بطن . وحرب عوان : إذا كانت حربا قد قوتل فيها مرة بعد مرة ، وحاجة عوان إذا كانت قد قضيت مرة بعد مرة .

البحث الرابع : احتج العلماء بقوله تعالى : { عوان بين ذلك } على جواز الاجتهاد واستعمال غالب الظن في الأحكام إذ لا يعلم أنها بين الفارض والبكر إلا من طريق الاجتهاد وههنا سؤالان :

الأول : لفظة «بين » تقتضي شيئين فصاعدا فمن أين جاز دخوله على ذلك ؟ الجواب : لأنه في معنى شيئين حيث وقع مشارا به إلى ما ذكر من الفارض والبكر .

السؤال الثاني : كيف جاز أن يشار بلفظه : ( ذلك ) إلى مؤنثين مع أنه للإشارة إلى واحد مذكر ؟ الجواب : جاز ذكر ذلك على تأويل ما ذكر أو ما تقدم للاختصار في الكلام .

أما قوله تعالى : { فافعلوا ما تؤمرون } ففيه تأويلان : الأول : فافعلوا ما تؤمرون به من قولك : أمرتك الخير ، والثاني : أن يكون المراد فافعلوا أمركم بمعنى مأموركم تسمية للمفعول بالمصدر كضرب الأمير . واعلم أن المقصود الأصلي من هذا الجواب كون البقرة في أكمل أحوالها ، وذلك لأن الصغيرة تكون ناقصة لأنها بعدما وصلت إلى حالة الكمال ، والمسنة كأنها صارت ناقصة وتجاوزت عن حد الكمال ، فأما المتوسطة فهي التي تكون في حالة الكمال .