فإذا رأى المنافقون نور المؤمنين يمشون به{[981]} وهم قد طفئ نورهم وبقوا في الظلمات حائرين ، قالوا للمؤمنين : { انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ } أي : أمهلونا لننال من نوركم ما نمشي به ، لننجو من العذاب ، ف { قِيلَ } لهم : { ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا } أي : إن كان ذلك ممكنا ، والحال أن ذلك غير ممكن ، بل هو من المحالات ، { فَضُرِبَ } بين المؤمنين والمنافقين { بِسُورٍ } أي : حائط منيع ، وحصن حصين ، { لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ } وهو الذي يلي المؤمنين { وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ } وهو الذي يلي المنافقين .
ولكن المشهد لا ينتهي عند هذا المنظر الطريف اللطيف . . إن هناك المنافقين والمنافقات ، في حيرة وضلال ، وفي مهانة وإهمال . وهم يتعلقون بأذيال المؤمنين والمؤمنات : ( يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا : انظرونا نقتبس من نوركم ) . . فحيثما تتوجه أنظار المؤمنين والمؤمنات يشع ذلك النور اللطيف الشفيف . ولكن أنى للمنافقين أن يقتبسوا من هذا النور وقد عاشوا حياتهم كلها في الظلام ? إن صوتا مجهلا يناديهم : ( قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا ) . . ويبدو أنه صوت للتهكم ، والتذكير بما كان منهم في الدنيا من نفاق ودس في الظلام : ارجعوا وراءكم إلى الدنيا . إلى ما كنتم تعملون . ارجعوا فالنور يلتمس من هناك . من العمل في الدنيا . ارجعوا فليس اليوم يلتمس النور !
" وعلى الفور يفصل بين المؤمنين والمؤمنات والمنافقين والمنافقات . فهذا يوم الفصل إن كانوا في الدنيا مختلطين في الجماعة : ( فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ) . . ويبدو أنه سور يمنع الرؤية ولكنه لا يمنع الصوت .
وقولهم : { انظرونا } معناه : انتظرونا ، ومنه قول الحطيئة : [ البسيط ]
وقد نظرتكمُ أبناء عائشة . . . للخمس طال بها حبسي وتبساسي{[10968]}
وقرأ حمزة وحده{[10969]} وابن وثاب وطلحة والأعمش : «أنظِرونا » بقطع الألف وكسر الظاء على وزن أكرم .
ومنه قول عمرو بن كلثوم : [ الوافر ]
أبا هند فلا تعجل علينا . . . وأنظرنا نخبّرك اليقينا{[10970]}
ومعناه : أخرونا ، ومنه النظرة إلى الميسرة ، وقول النبي عليه السلام : «من أنظر معسراً » الحديث{[10971]} ، ومعنى قولهم : أخرونا ، أخروا مشيكم لنا حتى نلحق ف { نقتبس من نوركم } ، واقتبس الرجل واستقبس أخذ من نور غيره قبساً . وقوله تعالى : { قيل ارجعوا وراءكم } يحتمل أن يكون من قول المؤمنين ، ويحتمل أن يكون من قول الملائكة .
وقوله : { وراءكم } حكى المهدوي وغيره من المفسرين أنه لا موضع له من الإعراب ، وأنه كما لو قال ارجعوا ارجعوا ، وأنه على نحو قول أبي الأسود الدؤلي للسائل : وراءك أوسع لك .
قال القاضي أبو محمد : ولست أعرف مانعاً يمنع من أن يكون العامل فيه { ارجعوا } ، والقول لهم : { فالتمسوا نوراً } هو على معنى التوبيخ لهم ، أي أنكم لا تجدونه .
ثم أعلم عز وجل أنه يضرب بينهم في هذه الحال { بسور } حاجز ، فيبقى المنافقون في ظلمة ويأخذهم العذاب من الله ، وحكي عن ابن زيد أن هذا السور هو الأعراف المذكورفي سورة «الأعراف » وقد حكاه المهدوي ، وقيل هو حاجز آخر غير ذلك ، وقال عبد الله بن عمر وكعب الأحبار وعبادة بن الصامت وابن عباس : هو الجدار الشرقي في مسجد بيت المقدس . وقال زياد بن أبي سوادة : قام عبادة على السور الشرقي من بيت المقدس فبكى وقال : من هاهنا أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى جهنم .
قال القاضي أبو محمد : وفيه باب يسمى باب الرحمة ، سماه في تفسير هذه الآية عبادة وكعب . وفي الشرق من الجدار المذكور واد يقال له : وادي جهنم ، سماه في تفسير هذه الآية عبد الله بن عمر وابن عباس ، وهذا القول في السور بعيد ، والله أعلم وقال قتادة وابن زيد ، { الرحمة } : الجنة . و { العذاب } : جهنم .
والسور في اللغة الحجي الذي للمدن{[10972]} وهو مذكور . والسور أيضاً جمع سورة ، وهي القطعة من البناء ينضاف بعضها إلى بعض حتى يتم الجدار ، فهذا اسم جمع يسوغ تذكيره وتأنيثه ، وهذا الجمع هو الذي أراد جرير في قوله : [ الكامل ]
لما أتى خبر الزبير تضعضعت . . . سور المدينة والجبال الخشع{[10973]}
وذلك أن المدينة لم يكن لها قط حجي ، وأيضاً فإن وصفه أن جميع ما في المدينة من بناء تواضع أبلغ ، ومن رأى أنه قصد قصد السور الذي هو الحجي ، قال : إن ذلك إذا تواضع فغيره من المباني أحرى بالتواضع .
قال القاضي أبو محمد : فإذا كان السور في البيت محتملاً للوجهين فليس هو في قوة مر الرياح وصدر القناة وغير ذلك مما هو مذكر محض استفاد التأنيث مما أضيف إليه .
وقوله تعالى : { باطنه فيه الرحمة } أي جهة المؤمنين ، { وظاهره } جهة المنافقين ، والظاهر هنا البادي ، ومنه قول : من ظاهر مدينة كذا .